صفحة جزء
[ ص: 75 ] ثم أنواع القربات التي يتسع الكلام فيها سبعة : النوع الأول : النسك ، ففي ( الكتاب ) : إن كلمت فلانا فعلي المشي ، فكلمه لزمه المشي في حج أو عمرة ، وقاله ( ش ) وابن حنبل ، والمدرك إما لأن الحج والعمرة العادة تلزم أحدهما ، وإما لأن دخول مكة لا يتأتى إلا بالإحرام بأحدهما ، فكان اللفظ دالا عليهما بالالتزام . قال ابن يونس : وإحرامه من الميقات لا من موضعه . قال اللخمي : الناذر المشي إن نوى حجا أو عمرة أو طوافا أو صلاة لزمه ، ويدخل محرما إذا نوى حجا أو عمرة ، وإن نوى طوافا يخرج دخوله محرما على الخلاف في جواز دخوله مكة حلالا ، وناذر السعي وحده يختلف فيه هل يسقط نذره ، أو يأتي بعمرة ؟ لأن السعي ليس بقربة بانفراده ، فيصحح نذره بحسب الإمكان ، وإن نوى الوصول خاصة معتقدا أن ذلك قربة ، فلا شيء عليه ، أو معتقدا عدم القربة فتكون معصية ، فيستحب له أن يأتي بذلك المشي في عمرة أو طواف ليكفر عنه ، فإن التقرب إلى الله تعالى بما ليس بقربة أو بقربة بدون شرطها كصلاة الحائض ، أو جزئها كصيام نصف يوم - معصية لأنه سوء أدب مع الله تعالى ، وإنما صححنا نذره بالتكميل ; لأن القاعدة أن يصرف العاقل متى دار بين الإلغاء والاعتبار ، وكان حمله على الاعتبار أولى ؛ صونا للإنسان عن خطط الفساد . وإن لم يكن له نية وكان من أهل المدينة مشى في حج أو عمرة ; لأنها عادتهم ، فقام مقام الصريح ، أو من أهل المغرب مشى في حج ; لأنه عادتهم ، وعلى أحد قولي مالك في أن اللفظ يحمل عند عدم النية على اللغة دون العرف - يسقط نذره ; لأن المشي وحده ليس بقربة .

فرع : في ( البيان ) : إذا نذرت المرأة المشي إلى بيت الله تعالى ، لزوجها منعها كما يمنعها التطوع ; لأنها متعدية عليه ، وفي ( الكتاب ) : القائل : علي المشي ولم يقل إلى بيت الله ، إن نوى مكة مشى ، وإلا فلا ; لأنه متردد فلا تتعين القربة إلا بالنية ، وكذلك السفر أو الانطلاق . قال اللخمي : اختلف قول ابن [ ص: 76 ] القاسم في الإيجاب بالركوب ، وأوجب أشهب بهذه كلها الحج أو العمرة ، والقائل : إلى بيت الله ، هو الكعبة إلا أن ينوي غيره ، لاشتهاره ، ولا يلزم المشي إلا من قال : علي المشي إلى مكة أو المسجد الحرام ، أو الكعبة أو الحجر أو الركن ، بخلاف الصفا والمروة ومنى وذي طوى والحرم وعرفة ومزدلفة وغيرها من جبال الحرم ، فلا يلزمه ذلك ، وقال ابن حبيب : إن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه ، وإلا فلا . قال اللخمي : وإن قال : علي ركوب إلى مكة ، فألزمه مالك مرة ، ولم يلزمه أخرى ، وإن قال : علي الذهاب أو السير أو الانطلاق إلى مكة ، لم يلزمه ، وألزمه أشهب في ذلك كله الحج أو العمرة ، وقال ابن القاسم أيضا في المشي إلى مكة : لا شيء عليه . قال : ولا فرق بين هذه الألفاظ لدلالة جميعها على الوصول إلى مكة ، فإن حمل قوله على العادة وتأخر الوصول وهو في الحج أو العمرة ، لزمه ذلك في جميعها ، وإلا لم يلزمه شيء ، وقال أصبغ : يلزمه في ذلك كل ما هو في داخل القرية كالصفا والمروة والأبطح والحجون وقعيقعان وأبي قبيس ، فإنه لا وصول للبلد إلا بالإحرام ، فاعتبر الدلالة المعنوية دون العادية ، وقال ابن حبيب : تلزمه إذا سمى الحرم ، أو ما هو فيه لدلالته على القرية دون ما خرج عنها إلا عرفات ; لأنه من مشاعر الحج ، وألزمه ابن القاسم بالقرية دون الصفا والمروة ، وهما داخلان فيها ومن المشاعر ، وألزمه بالمسجد دون المقام ، وهو داخل المسجد . قال : وهو مشكل ; لأن اللغة لا تقتضي ذلك ، واستلزام القرية مشترك بينهما .

واعلم أن الظاهر أن ابن القاسم وجد في هذه الألفاظ عرفا في زمانه فاعتبره ، ثم زال وبقيت الفتوى . قال اللخمي : وناذر المشي لا يجزئه الركوب ; لأنه أفضل ، وناذر الركوب لا يجزئه المشي إن قصد نفقة ماله في الركوب ، وإلا [ ص: 77 ] أجزأ ، وإن قال : علي المشي أو الذهاب أو الانطلاق ، يخير بين المشي والركوب .

فرع : في ( الكتاب ) : القائل : علي المشي إلى بيت الله إلا أن يبدو لي ، أو أرى خيرا من ذلك ، يلزمه المشي ، وإن قال : إن شاء فلان ، فلا يلزمه إلا أن يشاء فلان . قال ابن يونس : إلا أن يتضمن نذره فعلا نحو : إن كلمت زيدا ، فينفعه ذلك ، وكذلك الطلاق والعتاق . قال القاضي إسماعيل : لا ينبغي الخلاف في عدم اللزوم ; لأنه معلق على مشيئة آدمي ، وأنكر ذلك في ( المبسوط ) وكذلك عبد الحق في ( تهذيب الطالب ) .

( تمهيد ) : اعلم أن كلام ( الكتاب ) وابن يونس في غاية الخفاء على المحصلين ، فضلا على المبتدئين ، ومثل هذه الحجة العمياء ، والداهية والدهياء قول صاحب ( الجلاب ) : القائل : إن كلمت فلانا فعلي الحج إلى بيت الله إن شاء الله ، فكلمه لم يلزمه شيء إن أعاد الاستثناء على كلام زيد ، وإن أعاده على النذر لم يسقط عنه شيء ، فإعادته على كلام زيد إما باعتبار وجوده ، أو باعتبار عدمه ، والأول لا يسقط النذر ; لأنه لو لم ينطق بالمشيئة لكانت معلومة ، فإنه من المحال أن يكلم زيدا إلا بالمشيئة ، والمعلوم في حكم إذا صرح به لا يغير ذلك الحكم ، والثاني معناه : يلزمني الحج على تقدير الكلام إن أراد الله تعالى عدمه ، وإن أراد الله تعالى عدمه لا يقع بسبب عدم اللزوم ، والتقدير وقوعه ، فيتناقض قوله ، والتقدير : أن كلامه لا تناقض فيه ، وكشف الغطاء عن الحق أن يقال : الأسباب الشرعية قسمان : منها ما وضعه الله تعالى في أصل شرعه ، ولم يكله إلى خيرة خلقه كالزوال للظهر ورؤية الهلال للصوم ، ومنها ما فوضه لخيرة عباده ، فإن شاءوا جعلوه سببا وإلا فلا ، وهو شروط التعليق ، فمن شاء جعل دخول الدار سببا [ ص: 78 ] لطلاق زوجته بتعليقه عليه ، ومن لم يشأ لم يكن سببا في حقه ، وكذلك سائر النذور وغيرها ، وكل سبب مفوض إلى العبد لا يصير سببا إلا إذا جزم بسببيته ، فمعنى عود المشيئة على كلام زيد أي لا أجزم بجعله سببا إلا إن شاء الله تعالى جعله سببا ، وإلا فلا ، والله تعالى لم يشأ لأنه لو شاء لجزم العبد فجعله سببا ; لأنه لا طريق لسببيته إلا ذلك ، وإذا لم يكن كلام زيد سببا لا يلزم الحج به أما إذا أعاده على الحج ، فمعناه أني جزمت بجعله سببا ، فإن شاء الله تعالى لزمني الحج به على تقدير الكلام . قلنا له : قد شاء الله بالضرورة . لأنا نعلم أن من أراده الله تعالى لسبب حكم ، فقد أراده بذلك الحكم ، فمن أراده الله تعالى بإصدار الصيغة المعتبرة في البيع ، فقد أراده بين نقل الملك بالضرورة ، ومن أراده بالسرقة المعتبرة فقد أراده باستحقاق القطع ، وكذلك سائر الأسباب والأحكام وقد صحت ، فجعل الكلام سببا للحج ، فنجزم نحن بأن الله تعالى أرادك بحكم هذا السبب ، فيلزمك الحج ، ومعنى قوله في ( الكتاب ) : إلا أن يبدو لي ، أي جزمت بالالتزام ، وإن بدا لي نقضته ، وهو إذا جزم فلا خيرة له بعد ذلك ، فإن الالتزام سبب ، وليس للمكلف خيرة في إبطال الأسباب الشرعية ولا في اقتطاع مسبباتها ، وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قوله : علي الحج إن شاء فلان ; لأنه لم يجزم بالسبب الذي هو الالتزام ، بل علق ذلك على شرط ، ولم يعلم وجوده إلى الآن ، فإذا وجد انعقد السبب ، فلو فرضناه جزم باللزوم وقال : إن شاء فلان لم يلزمني شيء ، لم ينفعه ، وإلى هذا المنهاج أشار ابن يونس ، فهذه قواعد مجمع عليها عقلا ونقلا يخرج عليها كلامهم رحمهم الله ، فعلى هذا إذا قال : إن دخلت الدار ، فأنت طالق ، أو عبدي حر إن شاء الله وإن شاء زيد ، أمكن انتفاعه بهذا الاستثناء وعدم انتفاعه ، ومعنى قول مالك وأصحابه : إن المشيئة لا تنفع في الطلاق ونحوه ، أي في [ ص: 79 ] حل السبب الملزم كما يحل اليمين ، فلا تلزم الكفارة . أما إذا علق عليها سببية المسبب فيتعين الجزم بنفعها ، وأن لا يختلف فيه . غير أن أبا الطاهر قال : إن المشيئة إن عادت إلى الفعل دون اليمين ، فقولان : المشهور أنها لا تنفع ، وهو يتجه إذا أعادها على الفعل باعتبار عدمه حتى يكون علق على كلام زيد على تقدير إرادة الله تعالى لعدمه ، فيكون محالا ، فيجري فيه الخلاف في التعليق على المستحيل . أما على ما قررته ، فلا يتأتى الخلاف . ولهذا قال صاحب ( المقدمات ) : وعلى ابن القاسم في قوله : إن صرف الاستثناء إلى الفعل لا ينفع ، درك عظيم ; لأنه علق على صفة مستحيلة ، وهو فعل ما لا يشاؤه الله تعالى قال : والأصح من جهة النظر خلافه ، وإذا أحطت بهذه المدارك أمكنك صرف كل فتيا إلى مدرك يليق بها ، ولا يشكل عليك بعد ذلك شيء .

( تنبيه ) : قول الأصحاب : التعليق على مشيئة الله تعالى تعليق على مشيئة من لا نعلم مشيئته بخلاف التعليق على مشيئة آدمي - هو على العكس ; لأن متعلق مشيئة الله تعالى إما الوجود وإما العدم ، والواقع أحدهما بالضرورة ، وهو مراد الله تعالى بالضرورة ، فمشيئة الله تعالى معلومة بالضرورة ، أما مشيئة غيره فإنها تعلم بإخباره ، وهي لا تفيد العلم ، بل الظن فعلم أن مشيئة الله تعالى معلومة ، ومشيئة غيره غير معلومة .

فرع : في ( الكتاب ) : ناذر المشي حافيا ينتعل ، ويستحب له الهدي ; لأنه - عليه السلام - رأى امرأة تمشي حافية ناشرة رأسها ، فاستتر منها بيده ، وقال : ما شأنها ، فقالوا : نذرت أن تحج حافية ناشرة رأسها ، فقال - عليه السلام - : ( فلتتخمر [ ص: 80 ] ولتنتعل ولتمش ) ونظر - عليه السلام - إلى رجل يمشي إلى الكعبة القهقرى ، فقال : ( مره فليمش لوجهه ) وإن قال : إن فعلت كذا وكذا ، حملت فلانا إلى البيت ، وأراد التعب بحمله - حج ماشيا وأهدى وليس عليه إحجاج الرجل ، وإلا حج راكبا ، وأحج الرجل معه ، ولا هدي ، فإن امتنع الرجل تركه ولا شيء عليه ، وأنه نوى إحجاج الرجل من ماله ، فليس عليه إلا إحجاجه ، فإن امتنع سقط النذر ، والناذر حمل عمود أو غيره إلى مكة طلب المشقة ، يحج ما شاء غير حامل شيئا ويهدي . قال ابن يونس : إذا أراد التعب بحمل الرجل قال بعض شيوخنا : يستحب الهدي كهدي ناذر الحفا ، وإذا لم يرد حمله قال بعض فقهائنا : إنما يلزمه الحج بنفسه إذا نوى ذلك .

ثم إذا تعين المشي ، فالكلام في مبدئه ومنتهاه والعجز عنه ، فهذه ثلاثة أطراف : الطرف الأول : المبدأ ، وفي ( الكتاب ) : يمشي الحالف من مكان حلفه ; لأنه موضع السبب إلا أن ينوي غيره ، وإن قال : إن كلمت فلانا ، فأنا محرم بحجة أو عمرة ، فكلمه في غير أشهر الحج لم يلزمه الحج إلا إلى أشهر الحج إلا أن ينوي من حيث حنثه وإن كان في غير أشهر الحج ، ويحرم بالعمرة وقت حنثه إلا أن تبعد الرفقة ويخاف ، فيؤخرها حتى يجد فيحرم ، ويحرم بالحج والعمرة من موضعه لا من ميقاته إلا أن ينوي . وقد تقدم في الحج أن الميقات المكاني أخف من الزماني ، وتقدم تقريره ، فلذلك قال : يؤخر إلى الأشهر دون الميقات المكاني ، والقائل : أنا محرم يوم أفعل كذا ، ففعل ، فهو محرم في ذلك اليوم توفية بمقتضى الصيغة . قال ابن يونس : قال محمد : لو حلف بمصر وحنث بالمدينة ، فليرجع إلى مصر حتى يمشي . قال عبد الملك : إذا حنث ببلد الحلف ، فليمش من تلك المدينة من حيث شاء .

قال محمد : وإن حنث بغير البلد الذي حلف فيه ، وهو ممن لا يقدر على المشي ، فليرجع إلى ذلك البلد ، ثم يمش فيه ما قدر ، ثم [ ص: 81 ] يركب ويهد . قال أصبغ : إن كان قريبا وليس عليه فيه مضرة رجع ، وإلا مشى من حيث حنث وأهدى . قال محمد : قال مالك : وله أن يمشي في طريق أخصر من طريق . قال اللخمي : إن انتقل إلى بلد آخر مثله في المسافة مشى منه ; لأن المقصود عدد الخطى في القربة ، فإن انتقل إلى أقرب منه باليسير ، فقيل : يجزئه ، وقال أبو الفرج : يهدي هديا ويجزئه ، وإن كثر البعد لم يجزه ، وإذا قال : علي المشي إلى مكة وهو بها خرج إلى الحل وأتى بعمرة ; لأن المفهوم من قوله : أن يأتي إليها ، من غيرها ، وأقل ذلك أوائل الحل ، والقائل : علي المشي إلى المسجد ، وهو بمكة ، مشى إلى المسجد من موضعه ، وقال مرة يخرج إلى الحل ، وإن قال وهو في المسجد : علي المشي إلى مكة ، خرج إلى الحل ودخل بعمرة ، وقال سحنون : إذا قال : فأنا محرم ، فهو محرم بنفس الحنث ، وهو الحج والعمرة ، وإن قال : أنا أحرم ، لم ينعقد عليه بنفس الحنث حتى يحرم ، وقال : عليه أن يحرم وإن لم يجد صحبة ، والقائل : أنا محرم يوم أكلمه ، لا يكون محرما بمضي ذلك اليوم ، ويجري فيه الخلاف بين مالك وسحنون ، وقال ابن يونس : الحالف بصقلية ، قال أبو عمران : يلزمه المشي من أقرب البر الذي يليه من أفريقية ، وهو بين ; لأنه العادة في حلفهم ، وقيل : من الإسكندرية ; لأنهم إنما يأتون أفريقية للتجر ، وقوله : لا يحرم حتى تدخل أشهر الحج محمول على ما إذا كان يصل ، أما البلد البعيد ، فيحرم في الوقت الذي يصل فيه ، وقال ابن القابسي يخرج من بلده غير محرم ، ويحرم حيث أدركته أشهر الحج ، والأول لأبي محمد ، وهو أولى ; لأنه المفهوم من قوله : إن كلمت فلانا ، فأنا محرم بحجة .

الطرف الثاني : نهاية المشي ، ففي ( الكتاب ) : يمشي في العمرة حتى يسعى ، وإن ركب بعد السعي ، فلا شيء عليه ، وفي الحج إلى طواف الإفاضة ، وقاله ( ش ) لفراغ أركان النسكين ، وله الركوب في رجوعه من مكة إلى منى ، وفي رمي الجمار بمنى ، وإن أخر طواف الإفاضة ، فلا يركب في الرمي لبقاء ركن الحج [ ص: 82 ] وله الركوب في حوائجه كما يركب في المدينة ، فإن المشي إنما هو قربة في آخر العبادة ، وإذا ذكر حاجة نسيها ركب في رجوعه لها ، ويركب في المناهل . قال ابن يونس : قيل لابن القاسم : لم لا ينتهي مشيه إذا انتهى إلى البيت ، وهو إنما ألزم نفسه المشي إلى البيت ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في الهدي : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) ( الحج : 33 ) ومحلها في الحج : منى .

الطرف الثالث : في العجز عن المشي ، ففي ( الكتاب ) : يركب فيما عجز ، فإذا استراح نزل ، ثم يمشي ثانيا فيما ركب فقط ، ويهدي لتفريق المشي . قال ابن عباس : ينحر بدنة ، فإن عجز عما بقي عليه من المشي ثانيا لم يعد ثالثة ، وأهدى ، ولو علم في الثانية عجزه عن المشي قعد وأجزأه الهدي ، فإن علم عجزه ابتداء ، فإن كان شيخا زمنا ، أو امرأة ضعيفة ، أو مريضا أيس من البرء خرج راكبا ومشى ولو نصف ميل ، وأجزأه مع الهدي بعد ذلك لقوله ، عليه السلام : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وإذا رجا المريض قدرة على المشي انتظرها ، وإذا مشى حجه كله وركب في الإفاضة ، أو ركب الأميال لمرض لم يعد ثانية وأهدى ، ولو مشى السعي فقط قضى مشيه قابلا فيما ركبه . قال ابن يونس : لأنه ركوب كثير ، ولأن ركوبه في مواضع الحج أسهل ممن ركب في الطريق اليوم واليومين . قال مالك : ويهدي أحب لي من غير إيجاب ، ولم ير عليه الهدي مثل من عجز في الطريق عجزا يوجب الرجوع ; لأنه بلغ مكة وطاف وتم مشيه عند بعض الناس ، وفي ( الكتاب ) يرى عليه الهدي ، والرجل والمرأة سواء ، وله جعل مشيه الثاني [ ص: 83 ] في غير ما مشى فيه أولا إن أبهم نذره ، وإلا ففي مثل الأول لتعيينه ، ولا يجعل الأول ولا الثاني في فريضة . قال ابن يونس : قال محمد : إذا مشى الطريق كله في عوده ، فلا هدي عليه ; لأنه لم يفرق مشيه . قال ابن حبيب : من ركب ليقص الطريق من غير عذر أهدى بخلاف العذر . قال أبو الطاهر : وظاهر المذهب لا فرق بين العذر وغيره ، وقد نص عليه في كتاب محمد ، وليس هذا مثل صيام التتابع ; لأنه لو لم يصل المشي المتتابع أجزأه ، والقاعدة أن العبادة تلزم بالشروع كما تلزم بالنذر ، وإنما جعله يمشي ثانيا في حج أو عمرة إذا كانت يمينه مطلقة ; لأن رجوعه لنذره لا لما شرع فيه . قال ابن حبيب : والهدي هاهنا بدنة ، فإن لم يجد فبقرة ، فإن لم يجد فشاة ، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام متى شاء ، وتجزئ شاة مع القدرة على الثلاثة . قال اللخمي : أما إذا كان المشي نصف الطريق ، فأكثر . قال عبد الملك : يمشي الطريق كله ، ونحوه لمالك ، وإن كان نذره من مكان بعيد نحو مصر ، فلمالك في رجوعه قولان ، قال : وعدم العود أحسن لعدم المشقة كما أنه لو كان من المغرب لم يعد بحال ، وهذا كله في المضمون . أما عام تعينه ، فلا يقضي ولو مرضه كله ، وإن حضر خروج الحاج ، وهو في القرب مثل المدينة وهو مريض ، خرج راكبا ، وإن كان مضمونا أخر لعام آخر ، ولو نوى المريض أن يمشي قدرته لم يكن عليه هدي ، وكذلك الشاب الضعيف القوة ، والمرأة الشابة التي مشيها عورة تمشي الأميال عزلة عن الناس ثم تركب وتهدي ، وقال ابن حبيب : له جعل المشي الثاني في حج إذا نوى الأول في عمرة ; لاندراج العمرة في الحج .

فرع : في ( الكتاب ) : الناذر من المشي ما لا يبلغه عمره يمشي ما قدر عليه ويتقرب إلى الله بما قدر عليه من خير له ؛ لقوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن : 16 ) قال ابن يونس : قال بعض فقهائنا : إن عجز هذا ، وركب لا يرجع ثانية لأجل ركوبه ، وعليه الهدي لذلك ; لأنه يرجع فيما عليه من النذر . قال أبو محمد : فله أن يجعل الثاني في حج ، أو عمرة . لعله يريد إن لم يركب أولا في حجته [ ص: 84 ] في المناسك ، ولو ركب بمنى وعرفة ومزدلفة في حجه الأول كيف ينبغي أن يجعل الثانية في عمرة ، وهو لا يصل أن يمشي ما ركب ، وعن سحنون : لا يجعل الثانية في عمرة ; لأنها أقصر من عمل الحج ، يريد : إن كان مشيه في غير المناسك .

فرع : في ( الكتاب ) : إذا نوى بحجه فرضه ونذره ، أجزأه لنذره وقضى فرضه ، أو قارنا العمرة لنذره ، والحج لفرضه لم يجزه من الفرض ، وعليه دم القران ، وقال اللخمي : ولمالك في القارن : يجزئ في النذر ويقضي الفرض لقوته ، وله أيضا : لا يجزئ عنهما للتشريك . قال : وأرى أن يجزئ عنهما ; لأن القران لا يخل بفريضة الإسلام ، وكل ما جاز تطوعا جاز وفاء النذر به . قال ابن يونس : قال محمد في المفرد : هذا إذا لم يكن ينوي بنذره حجا ولا عمرة ، وأما إذا نوى فلا يجزئ عنهما ; لأنه لو مشى بحج لنذره ففاته لم تجزئه عمرة التحلل عن مشيه ، فكذلك هاهنا ; لأنه يصير لكل واحد منهما نصف حجة ، وهما حجتان . أما إذا لم ينو فهو الذي قال فيه : يجزئه لنذره ، وقال عبد الملك : يعيدهما جميعا استحسانا ، وقال المغيرة : يجزئه عن الفريضة ; لأنها أولى باستحقاق العمل ، ويعيد النذر . قال محمد : فلو أحرم بفريضة الحج ونوى مشيها لم يلزمه ذلك إلا بنذر . قال : ويلزم ذلك في المحرم بنافلة ينوي قيامها ، فله صلاتها جالسا ، وكذلك لو نوى قراءة سورة طويلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية