الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 224 ] ( 18 ) باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها

565 - ذكر مالك أنه بلغه أن أبا بكر الصديق قال : لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه .


13075 - قال أبو عمر : هذا فيه حديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم .

13076 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بشر قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة ، قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب . قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : كيف نقاتل الناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله " ، فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه . فقال عمر بن الخطاب : فوالله ، ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق .

[ ص: 225 ] 13077 - قال أبو عمر : رواه ابن وهب عن يونس ، عن الزهري ، فقال : عقالا ، كما قال عقيل .

13078 - قال أبو عمر : قوله : " وكفر من كفر من العرب " لم يخرج على كلام عمر ؛ لأن كلام عمر إنما خرج على من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ومنع الزكاة . وتأولوا قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة ( 103 من [ ص: 226 ] سورة التوبة ) فقالوا : المأمور بهذا رسول الله لا غيره .

13079 - كانت الردة على ثلاثة أنواع : قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان ، وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة وطائفة منعت الزكاة ، وقالت : ما رجعنا عن ديننا ولكن شححنا على أموالنا . وتأولوا ما ذكرناه .

13080 - بدأ أبو بكر رضي الله عنه قتال الجميع ، ووافقه عليه جميع الصحابة بعد أن كانوا خالفوه في ذلك ؛ لأن الذين منعوا الزكاة قد ردوا على الله قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( 43 من سورة البقرة ) ، وردوا على جميع الصحابة الذين شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل في قوله عز وجل قال خذ من أموالهم صدقة تطهرهم . . ( 103 من سورة التوبة ) ومنعوا حقا واجبا لله على الأئمة القيام بأخذه منهم ، واتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على قتالهم حتى يؤدوا حق الله في الزكاة كما يلزمهم ذلك في الصلاة .

13081 - إلا أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم أجرى فيهم حكم من ارتد من العرب تأويلا واجتهادا .

13082 - فلما ولي عمر بن الخطاب رأى أن النساء والصبيان لا مدخل لهم في القتال الذي استوجبه مانع الزكاة حق الله ، وفي الأغلب أنهم لا رأي لهم في منع الزكاة ، فرأى أنه لا يجوز أن يحكم فيهم بحكم المانعين للزكاة . [ ص: 227 ] والمقاتلين دونها الجاحدين لها ، وعزر أبا بكر باجتهاده ولم يسعه في دينه أو بان له ما بان من ذلك أن يسترقهم بعدائهم وأطلق سبيلهم . وذلك أيضا بمحضر الصحابة من غير نكير . وهذا يدل على أن كل مجتهد معذور .

13083 - وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدا كل امرأة وصبي كان بأيدي من سباه منهم ، وخير المرأة إن أرادت أن تبقى على نكاحه ينكحها الذي سباها بعد الحكم بعتقها .

13084 - وأما العقال ، فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : هو صدقة عام .

13085 - وقال غيره : هو عقال الناقة التي تعقل به وخرج كلامه على التقليل والمبالغة .

13086 - وقال ابن الكلبي : كان معاوية قد بعث عمرو بن عتبة ابن أخيه مصدقا ، فجار عليهم فقال شاعرهم :

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

؟

[ ص: 228 ] 13087 - وهذا حجة أن العقال صدقة سنة .

13088 - ومن رواه عناقا فإنما أراد التقليل أيضا ; لأن العناق لا يؤخذ في الصدقة عند طائقة من أهل العلم ولو كانت الغنم عناقا كلها .

13089 - ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في " المسند " . قال : حدثني أبي قال : حدثنا زكريا بن عدي ، قال : أخبرني عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن القاسم عن علي بن حسين ، قال : حدثتنا أم سلمة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فجاء رجل ، فقال : يا رسول الله كم صدقة كذا وكذا ؟ قال : " كذا وكذا " . قال : فإن فلانا تعدى علي ، قال : فنظروا ، فوجدوه قد تعدى بصاع : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فكيف بكم إذا سعى من يتعدى عليكم أشد من هذا التعدي ؟ " .

13090 - قال أبو عمر : كان يبكي ما يحل بأمته من بعده صلى الله عليه وسلم .

13091 - وذكر أبو يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي في كتاب " أحكام القرآن " له ، قال : حدثنا عبد الواحد بن غياث ، قال : حدثنا [ ص: 229 ] أشعث بن براز ، قال : جاء رجل إلى الحسن ، فقال : إني رجل من أهل البادية ، وإنه يبعث علينا عمال يصدقوننا ويظلموننا ويعتدون علينا ، ويقومون الشاة بعشرة وقيمتها ثلاثة ، ويقومون الفريضة مائة وثمنها ثلاثون . فقال الحسن : إن الصدقة لا تؤخذ إلا عفوا ولا تزاد إلا عفوا ، من أداها سعد بها ومن بخل بها شقي . إن القوم والله لو أخذوها منكم ووضعوها في حقها وفي أهلها ما بالوا كثيرا أديتم أو قليلا ، ولكنهم حكموا لأنفسهم وأخذوا لها قاتلهم الله أنا يؤفكون ، يا سبحان الله ، ما لقيت هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم من منافق قهرهم واستأثر عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية