الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
642 [ ص: 44 ] 602 - وذكر مالك أيضا عن عبد ربه بن سعيد ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن عائشة ، وأم سلمة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما قالتا : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع ، غير احتلام ، في رمضان ، ثم يصوم .


13862 - قال أبو عمر : الآثار متفقة عن عائشة وأم سلمة وغيرهما ، بمعنى ما ذكره مالك عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

13863 - وما أعلم خلافا في ذلك إلا ما يروى عن أبي هريرة ، وهو قوله : من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم .

[ ص: 45 ] 13864 - وقد وقف على ذلك ما حال فيه على غيره ، وسنذكره بعد ، إن شاء الله .

13865 - أخبرنا أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن يحيى بن جدعة ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو القارئ ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : لا ورب هذا البيت ما أنا قلته : " من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصوم " ، محمد ورب الكعبة قاله .

13866 - وروى الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عمر ، أنه احتلم ليلا ، فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ، ثم نام قبل أن يغتسل ، فلم يستيقظ حتى أصبح . قال : فلقيت أبا هريرة حين أصبحت ، فاستفتيته في ذلك ، فقال : أفطر ; فإن رسول [ ص: 46 ] الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا .

قال عبد الله بن عبد الله بن عمر : فجئت عبد الله بن عمر فذكرت الذي أفتاني به أبو هريرة ، فقال : إني أقسم بالله لإن أفطرت لأوجعن متنيك ، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل .

13867 - اختلف عن ابن شهاب في اسم ابن عبد الله بن عمر هذا ؟ فقيل : عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وقيل : عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وكان ما يروي كلاهما ثقة ثبت .

13868 - قال أبو عمر : روي عن أبي هريرة أنه رجع عن هذه الفتوى إلى ما عليه الناس من حديث عائشة ، ومن وافقها .

- روى عبد الله بن المبارك ، عن ابن أبي ذئب ، عن سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أخيه محمد بن عبد الرحمن ، أنه سمع أبا هريرة ، يقول : من احتلم أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل ، فلا يصم .

قال : ثم سمعته نزع عن ذلك .

13869 - وروى منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، أن أبا هريرة كف عن ذلك ؛ لحديث عائشة فيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

13870 - وروى محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أنه نزع أيضا .

[ ص: 47 ] 13871 - وأما اختلاف العلماء في هذا الباب ; فالذي عليه فقه جماعة الأمصار بالعراق والحجاز - القول بحديث عائشة وأم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصبح جنبا ويصوم ذلك اليوم .

13872 - وهو قول علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء ، وأبي ذر ، وعبد الله بن عمر ، وابن عباس . ومن الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث وأصحابهم ، وأحمد ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وابن علية ، وأبو عبيد ، وداود ، والطبري ، وجماعة أهل الحديث .

13873 - وروي عن إبراهيم النخعي ، وعروة بن الزبير ، وطاوس ، أن الجنب في رمضان إذا علم بجنابته ، فلم يغتسل حتى يصبح ، فهو مفطر ، وإن لم يعلم حين يصبح فهو صائم .

13874 - وروي عن الحسن البصري ، وسالم بن عبد الله أنهما قالا : يتم صومه ذلك اليوم ، ويقضيه إذا أصبح فيه جنبا .

13875 - وقال إبراهيم النخعي في رواية : إن ذلك يجزئه في التطوع ، ويقضي في الفرض .

13876 - وكان الحسن بن حي يستحب لمن أصبح جنبا في رمضان أن يقضي ذلك اليوم . وكان يقول : يصوم الرجل تطوعا ، وإذا أصبح جنبا فلا قضاء عليه ، [ ص: 48 ] وكان يدعي على الحائض إذا أدركها الصبح ولم تغتسل أن تقضي ذلك اليوم .

13877 - وذهب عبد الملك بن الماجشون في الحائض إلى نحو هذا المذهب ، أنها إذا طهرت قبل الفجر ثم أخرت غسلها حتى تطلع الشمس فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالتي تصبح جنبا فتصوم ؛ لأن الاحتلام لا ينقض الوضوء والحيض ينقضه .

13878 - قال أبو عمر : قول ابن الماجشون في التي تؤخر غسلها بعد طهرها قبل الفجر حتى يطلع الفجر ثم تغتسل بعد الفجر أن يومها يوم فطر ; لأنها كانت في بعضه حائضا - غفلة شديدة ، وكيف تكون في بعضه حائضا وقد كمل طهرها قبل الفجر ؟ ولذلك أمرت بالغسل ولو لم تكن ما أمرت بالغسل . بل هي طاهر فرطت في غسلها ، فحكمها وحكم الجنب سواء .

13879 - وعلى هذا جمهور العلماء بالحجاز والعراق ، وهو قول مالك وأصحابه - حاشا عبد الملك - وقول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وإسحاق ، وأحمد ، وأبي ثور ، وغيرهم .

13880 - وإنما دخلت الشبهة فيه على ابن الماجشون ; لأن مالكا جعل لها إذا لم تفرط في الحيض من غسلها حكم الحائض ، وأسقط عنها الصلاة - إذا لم تدرك بعد غسلها من غير تفريط - مقدار ركعة من وقتها .

13881 - وقد ذكرنا من خالفه من العلماء في ذلك .

13882 - وأما الصيام فالطهر فيه عند العلماء : رؤيتها للنقاء ولا يراعون غسلها بالماء ، فمن طلع بها الفجر طاهرا لزمها صوم ذلك اليوم ; لأن الصوم ليس من شرطه الاغتسال .

[ ص: 49 ] 13883 - قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصائم يصبح جنبا ما فيه غناء واكتفاء عن قول كل أحد ، ودل كتاب الله تعالى على مثل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .

13884 - قال الله تعالى : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر [ البقرة : 178 ] .

13885 - فإذا أبيح الجماع والأكل والشرب حتى يتبين الفجر ، فمعلوم أن الغسل لا يكون إلا بعد الفجر .

13886 - وقد نزع بهذا جماعة من العلماء ، منهم : ربيعة ، والشافعي ، وغيرهما .

13887 - ومن الحجة أيضا في ذلك أن العلماء أجمعوا أن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية