الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
660 [ ص: 92 ] ( 9 ) باب كفارة من أفطر في رمضان

620 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة ; أن رجلا أفطر في رمضان . فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر ، [ ص: 93 ] بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا . فقال : لا أجد فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرق تمر . فقال : " خذ هذا فتصدق به " فقال : يا رسول الله . ما أحد أحوج مني . فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ، ثم قال : " كله " .

[ ص: 94 ] 621 - وعن عطاء بن عبد الله الخراساني ، عن سعيد بن المسيب ; أنه قال : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضرب نحره ، وينتف شعره ، ويقول : هلك الأبعد . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما ذاك ؟ " . فقال : أصبت أهلي ، وأنا صائم في رمضان . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ . " فقال : لا . فقال : " هل تستطيع أن تهدي بدنة ؟ " . قال : لا . قال : " فاجلس " . فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرق تمر . فقال : " خذ هذا فتصدق به " فقال : ما أحد أحوج مني . فقال : " كله ، وصم يوما مكان ما أصبت " .

[ ص: 95 ] قال مالك ، قال : عطاء : فسألت سعيد بن المسيب : كم في ذلك العرق من التمر ؟ فقال : ما بين خمسة عشر صاعا إلى عشرين .


14059 - قال أبو عمر : لم يختلف رواة " الموطأ " عن مالك في حديث ابن شهاب في هذا الباب أنه رواه بلفظ التخيير في العتق ، والصوم ، والإطعام ، ولم يذكر الفطر بأي شيء كان ، بجماع أو بأكل .

14060 - وتابعه على روايته هذه ابن جريج ، وأبو إدريس ، عن ابن شهاب .

14061 - وكذلك رواه أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن شهاب بإسناده مثله .

14062 - ورواه أشهب عن مالك والليث ، جميعا عن ابن شهاب بإسناده مثله . وهو خطأ من أشهب على الليث ، والمعروف فيه عن الليث كرواية ابن عيينة ، ومعمر ، وإبراهيم بن سعد ، ومن تابعهم .

14063 - والذي رواه ابن عيينة ، ومعمر ، وأكثر رواة ابن شهاب في هذا الحديث عن ابن شهاب ، عن حميد ، عن نافع ، عن أبي هريرة ، أن رجلا وقع على [ ص: 96 ] امرأته في رمضان . . فذكروا المعنى الذي به أفطر عامدا . وذكروا الكفارة على ترتيب كفارة الطهارة ، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ " ، قال : لا . قال : " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ " ، قال : لا . ثم ذكروا الإطعام . . إلى آخر الحديث .

14064 - ورواه كما رواه ابن عيينة ، وشعيب بن أبي حمزة ، والأوزاعي وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، والليث بن سعد ، وإبراهيم بن سعد ، والحجاج بن أرطاة ، ومنصور بن المعتمر ، وعراك بن مالك ، كلهم عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة في رجل وقع على امرأته في رمضان ، على هذا الترتيب .

14065 - وقد رواه قوم عن مالك كرواية هؤلاء على الترتيب ، وذكر الجماع منهم : الوليد بن مسلم ، وحماد بن مسعدة ، وإبراهيم بن سعد .

14066 - وقد ذكرنا الأحاديث عنهم وعن أصحاب ابن شهاب بذلك في " التمهيد " .

14067 - والصحيح عن مالك ما في " الموطأ " .

14068 - وذهب مالك في " الموطأ " : إلى أن المفطر في رمضان بأكل ، أو شرب ، أو جماع ; أن عليه الكفارة المذكورة في هذا الحديث على ظاهره ; لأنه ليس في روايته فطر مخصوص بشيء دون شيء ، فكل ما وقع عليه اسم فطر متعمدا فالكفارة لازمة لفاعله ، على ظاهر الحديث .

14069 - وروي عن الشعبي في المفطر عامدا في رمضان ، أن عليه عتق رقبة ، [ ص: 97 ] أو إطعام ستين مسكينا ، أو صيام شهرين متتابعين مع قضاء اليوم .

14070 - وروي مثل ذلك عن الزهري ، ذكره سعيد ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن برد بن سفيان ، عن ابن شهاب الزهري في الرجل يقع على امرأته في رمضان ؟ قال : فيه من الكفارة ما في الطهارة بعتق رقبة ، أو يطعم ستين مسكينا ، أو يصوم شهرين متتابعين .

14071 - وفي قول الشعبي ، والزهري ، ما يقضي لرواية مالك بالتخيير في هذا الحديث ، وهو حجة مالك ; إلا أن مالكا يختار الإطعام ، لأنه يشبه البدل من الصيام .

14072 - ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط في رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر - لا يؤمر واحد منهم بعتق ولا صيام مع القضاء ، وإنما يؤمر بالإطعام ، فالإطعام له مدخل من الصيام ونظائر من الأصول .

14073 - فهذا ما اختاره مالك وأصحابه .

14074 - وقال ابن وهب عن مالك : الإطعام أحب إلي في ذلك من العتق وغيره .

14075 - وقال ابن القاسم عنه : إنه لا يعرف إلا الإطعام ، ولا يأخذ بالعتق ولا بالصيام .

14076 - وقد ذكر عن عائشة قصة الواقع على أهله في رمضان في هذا الخبر ، ولم يذكر فيه الإطعام .

[ ص: 98 ] 14077 - وذهب الشافعي ، والثوري ، وسائر الكوفيين إلى أن كفارة المفطر في رمضان للجماع عامدا ككفارة المظاهر مرتبة .

14078 - وذهبت جماعتهم أيضا إلى أن من كفر بالصيام أن الشهرين متتابعان ، إلا ابن أبي ليلى ، فقال : ليس الشهران متتابعين من ذلك .

14079 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من ذكر التتابع في الشهرين بأسانيد حسان .

14080 - واختلفوا أيضا في قضاء ذلك اليوم مع الكفارة ، فقال مالك : الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في رمضان : إطعام ستين مسكينا ، وصيام ذلك اليوم .

14081 - قال : وليس العتق والنحر من كفارة رمضان في شيء .

14082 - وقال الأوزاعي : إن كفر بالعتق أو بالطعام صام يوما مكان ذلك اليوم الذي أفطر ، فإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء يومه ذلك .

14083 - وقال الثوري : يقضي اليوم ويكفر مثل كفارة الظهار .

[ ص: 99 ] 14084 - وقال الشافعي : يحتمل إن كفر أن تكون الكفارة بدلا من الصيام ، ويحتمل أن يكون الصيام بدلا من الكفارة . ولكل وجه ، وأحب إلي أن يكفر ويصوم مع الكفارة ( هذه رواية الربيع ) .

14085 - وقال المزني عنه - فيمن وطئ امرأته فأولج عامدا - : كان عليه القضاء والكفارة .

14086 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق : ويقضي يوما مكانه ، ويكفر مثل كفارة الظهار .

14087 - وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : الذي يجامع في رمضان ، ثم يكفر أليس عليه أن يصوم يوما مكانه ؟ قال : ولا بد أن يصوم يوما مكانه ؟ .

14088 - ومن حجة من لم ير مع الكفارة قضاء ، أنه ليس في خبر أبي هريرة ، ولا خبر عائشة ، ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء ، وإنما فيهما الكفارة فقط . ولو كان القضاء واجبا لذكره مع الكفارة .

14089 - ومن حجة من رأى القضاء مع الكفارة : حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن أعرابيا جاء ينتف شعره ، فقال : يا رسول الله : وقعت على امرأتي في رمضان . . فذكر مثل حديث أبي هريرة ، وزاد : وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي يوما مكانه .

[ ص: 100 ] 14090 - وقد رواه هشام بن سعد ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان . فخالف الحفاظ فيه في موضعين : ( أحدهما ) أنه جعله عن أبي سلمة ، وإنما هو عن حميد . ( والآخر ) أنه زاد فيه ذكر الصوم ، قال فيه : " كله أنت وأهل بيتك ، وصم يوما مكانه " .

14091 - وهشام بن سعد لا يحتج به في حديث ابن شهاب ، ومن جهة النظر والقياس أن الكفارة عقوبة للذنب الذي ركبه ، والقضاء بدل من اليوم الذي أفسده ، فكما لا يسقط عن المفسد حجه بالوطئ البدل إذا أهدى ، فكذا قضاء اليوم ، والله أعلم .

14092 - واختلف العلماء فيمن أفطر يوما في رمضان بأكل أو شرب متعمدا .

14093 - فقال مالك وأصحابه ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والأوزاعي ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو ثور : عليه من الكفارة ما على المجامع ، كل واحد منهم على أصله الذي قدمنا ذكره عنهم من الترتيب والتخيير .

14094 - وإلى هذا ذهب محمد بن جرير .

14095 - وروي مثل ذلك أيضا عن عطاء في رواية ، وعن الحسن ، والزهري .

[ ص: 101 ] 14096 - وقال الشافعي وأحمد : عليه القضاء ولا كفارة عليه .

14097 - وهو قول سعيد بن جبير ، وابن سيرين ، وجابر بن سعد ، والشعبي ، وقتادة .

14098 - وروى مغيرة عن إبراهيم مثله .

14099 - ذكر سنيد ، عن عباد بن العوام ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا أفطر يوما من رمضان متعمدا قضى يوما مكانه كما قال .

14100 - وحدثنا عباد بن هشام بن حسان ، عن سعيد ، عن ابن سيرين ، قال : يعوذ منه من الذنوب ، يستغفر الله منه ويتوب ، ويصوم يوما مكانه .

14101 - قال عباد : إنما الكفارة على من واقع .

14102 - وقال الشافعي : عليه مع القضاء العقوبة ، وانتهاكه حرمة الشهر .

14103 - وسائر من ذكرنا قوله من التابعين قال : يقضي يوما مكانه ويستغفر الله ويتوب إليه .

14104 - قال بعضهم : ويصنع معروفا .

14105 - ولم يذكر عنهم عقوبة .

14106 - وقال أحمد والشعبي : لا أقول بالكفارة إلا في الفتيان ، ( ذكره الأثرم عنه ) .

14107 - وقد روي عن عطاء أن من أفطر يوما من رمضان من غير علة كان عليه تحرير رقبة ، فإن لم يجد فبقرة أو بدنة ، أو عشرون صاعا من طعام يطعم المساكين .

[ ص: 102 ] 14108 - وروى قتادة ، عن الحسن ، قال : إذا لم يجد المجامع عامدا في رمضان رقبة أهدى بدنة إلى مكة .

14109 - قال : ولو أفطر بغير جماع لم يكن عليه إلا قضاء يوم .

14110 - وقد روي عن الحسن أنه سوى بين الآكل والمجامع في الرقبة والبدنة .

14111 - وعن ابن عباس ، قال : عليه عتق رقبة أو صوم شهر أو إطعام ثلاثين مسكينا .

14112 - وعن ابن المسيب أنه قال : عليه صوم شهر .

- وعنه أيضا - وهو قول ربيعة - أن عليه أن يصوم اثني عشر يوما .

14113 - وكان ربيعة يحتج لقوله هذا بأن شهر رمضان فضل على اثني عشر شهرا ; فمن أفطر فيه يوما كان عليه اثنا عشر يوما .

14114 - وكان الشافعي يعجب من هذا ، وينتقص فيه ربيعة .

14115 - ولربيعة شذوذ ، منها : في المحرم يقتل جرادة أن عليه صاعا من قمح ; لأنه آذى الصيد . ومنها فيمن طلق امرأة من نسائه الأربع وجهلها بعينها ، أنه لا يلزمه فيهن شيء ، ولا يمنع من وطئهن .

14116 - وبه قال داود .

14117 - وروى معمر ، عن قتادة ، عن ابن المسيب أنه سأله عن رجل أكل في رمضان عامدا ، قال عليه صيام شهر ، فقلت : يومين . قال صيام شهر . قال : [ ص: 103 ] فعددت أياما ، فقال : صيام شهر .

14118 - هكذا قال معمر عن قتادة . وهي رواية مفسرة ، وأظنه ذهب إلى التتابع في الشهر ألا يخلطه بفطر ، كأنه يقول : من أفسده بفطر يوم أو أكثر قضاه كله نسقا ; لأن الله تعالى فرض شهر رمضان ، وهو متتابع ، فإذا تخلله فطر لزمه في القضاء التتابع كمن قدر صوم شهر رمضان متتابعا ، والله أعلم .

14119 - وقال ابن سيرين : يقضي يوما ويستغفر الله .

14120 - قال أبو عمر : أقاويل التابعين بالعراق والحجاز لا وجه لها عند أهل الفقه لمخالفتها السنة ، وإنما في المسألة قولان :

14121 - ( أحدهما ) قول مالك ومن تابعه ، والحجة لهم حديث ابن شهاب هذا ، ومن جهة النظر أن الآكل والشارب في القياس كالمجامع سواء ; لأن الصوم من الشريعة الامتناع من الأكل والشرب والجماع . فإذا أثبتت الشريعة من وجه واحد منها شيئا ، سبيل نظيره في الحكم سبيله ، والنكتة الجامعة بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدا . ولفظ حديث مالك يجمع كل فطر .

14122 - والقول الثاني قول الشافعي ومن تابعه ، والحجة لهم أن الحديث ورد في المجامع ، وليس الآكل مثله . فدليل إجماعهم أن المستقيء عامدا : عليه القضاء ، وليس عليه كفارة ، وهو مفطر عمدا ، وكذلك مزدرد الحصاة عمدا عليه القضاء ، وهو مفطر متعمدا ، ولأن الذمة بريئة فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين " .

[ ص: 104 ] 14123 - وروى أبو المطوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أفطر يوما من رمضان قويا متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه " .

14124 - وروي عن علي ، وابن مسعود مثله .

14125 - وهذا يحتمل أن يكون - لو صح على - التغليظ .

14126 - وهو حديث ضعيف لا يحتج به .

14127 - وقد جاءت الكفارة : بأسانيد صحاح .

14128 - واختلف الفقهاء فيما يجزئ من الإطعام عمن يجب أن يكفر فيه عن فساد يوم من شهر رمضان .

14129 - فقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، والأوزاعي : يطعم ستين مسكينا بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدا لكل مسكين .

[ ص: 105 ] 14130 - وذكر أن العرق كان فيه خمسة عشر صاعا . وذلك في حديث مالك ، عن عطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب ، وهو مذكور أيضا في حديث مجاهد ، وعطاء ، عن أبي هريرة ، وقد ذكرناه : في " التمهيد " إلا أن في حديث أبي هريرة " عشرين صاعا " .

14131 - وقد روي ذلك من وجوه مرسلة ومسندة ، ومعلوم أن ذلك غير ما ذهب إليه من قال : بنصف صاع لكل مسكين .

14132 - وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا يجزئه أقل من مدين بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك نصف صاع لكل مسكين قياسا على فدية الأذى .

14133 - وقول مالك أولى ; لأنه نص لا قياس .

14134 - واختلف العلماء أيضا في الواطئ أهله في رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره ولم يجد ما يطعم ، وكان في حكم الرجل الذي ورد فيه الحديث .

14135 - فأما مالك ، فلم أجد عنه في ذلك شيئا منصوصا .

14136 - وكان عيسى بن دينار يقول : إنها على المعسر واجبة ، فإذا أيسر أداها .

14137 - وقد يخرج قول ابن شهاب على هذا ; لأنه جعل إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له وخصوصا .

14138 - قال ابن شهاب : ولو أن رجلا فعل ذلك لم يكن له بد من التكفير .

[ ص: 106 ] 14139 - وقيل للأوزاعي فيمن لم يجد كفارة المفطر ولم يقدر على الصيام ، أيسأل في الكفارة ؟ فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد كفارة المفطر عليه وعلى أهله ، فليستغفر الله ولا يعد ، ولم ير عليه شيئا إذا كان معسرا .

14140 - وقال الشافعي : قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كله وأطعمه أهلك " يحتمل معاني ، منها أنه لما كان في الوقت الذي أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات ، تطوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن قال له في شيء أتي به " كفر به " . فلما ذكر الحاجة ، ولم يكن الرجل قبضه ، قال له : " كله وأطعمه أهلك " . وجعل التمليك له حينئذ مع القبض .

14141 - ويحتمل أن يكون لما ملكه وهو محتاج ، وكان إنما كون الكفارة عليه إذا كان عنده فضل ، ولو لم يكن عنده فضل كان له أكله هو وأهله ؛ لحاجته .

14142 - ويحتمل في هذا أن تكون الكفارة دينا عليه ، متى أطاقها أداها ، وإن كان ذلك ليس في الخبر ، وكان هذا أحب إلينا ، وأقرب من الاحتياط .

14143 - قال : ويحتمل إذا كان لا يقدر على شيء من الكفارات ، وكان لغيره أن يكفر عنه كان لغيره أن يتصدق عليه وعلى أهله بتلك الكفارة إذا كانوا محتاجين ويجزئ عنه .

14144 - ويحتمل أن يكون إذا لم يقدر على شيء في حاله تلك أن تكون الكفارة ساقطة عنه إذا كان معسرا كما سقطت الصلاة عن المغمى عليه إذا كان مغلوبا .

14145 - وقال الأثرم : قلت لابن حنبل : حديث الزهري ، عن حميد ، عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أطعمه عيالك " أتقول به ؟ قال : نعم ، إذا كان [ ص: 107 ] محتاجا ، ولكن لا يكون في شيء من الكفارات إلا في الجماع في رمضان وحده ، لا في كفارة اليمين ، ولا في كفارة الظهار .

14146 - قيل له : " ليس في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ووقع عليها نحو هذا ؟ قال : ولمن تقول هذا ؟ إنما حديث سلمة بن صخر : " تصدق بكذا ، واستعن بسائره على أهلك " ، فإنما أمر له بما بقي .

14147 - قلت : فإن كان المجامع محتاجا فأطعمه عياله ؟ قال : يجزئ عنه . قلت : ولا يكفر إذا وجد ؟ قال : لا ، إلا أنه خاص في الجماع وحده .

14148 - وزعم الطبري أن قياس الثوري ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأبي ثور ، أن الكفارة دين عليه لا يسقطها عنه عسره ، وعليه أن يأتي بها إذا قدر عليها كسائر الكفارات .

14149 - قال أبو عمر : إن احتج محتج في إسقاط الكفارة عن المعسر بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " كله أنت وعيالك " ، ولم يقل له : تؤديها إذا أيسرت ، ولو كانت واجبة عليه لم تسقط عنه حتى يبين ذلك له ، قيل له : ولا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها ساقطة عنك لعسرتك ، بعد أن أخبره بوجوبها عليه ، وكل ما وجب أداؤه في اليسار لزم الذمة إلى الميسرة ، والله أعلم .

14150 - واختلفوا في الكفارة على المرأة إذا وطئها زوجها وهي طائعة في رمضان .

[ ص: 108 ] 14151 - فقال مالك : إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة . وإذا أكرهها فعليه كفارتان عنه وعنها . وكذلك إذا وطئ أمته كفر كفارتين .

[ ص: 109 ] 14152 - وقال الأوزاعي : سواء طاوعته امرأته أو أكرهها فليس عليه إلا كفارة واحدة إن كفر بالعتق أو الإطعام ، فإن كفر بالصيام فعلى كل واحد منهما صيام شهرين متتابعين .

14153 - وقال الشافعي : الصيام ، والعتق ، والإطعام سواء ، ليس عليهما إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ; لأن النبي - عليه السلام - إنما أجاب السائل بكفارة واحدة ، ولم يسأله طاوعته امرأته أو أكرهها ، ولو كان الحكم مختلفا لما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبيين ذلك .

14154 - وهو قول داود وأهل الظاهر .

14155 - وأجمعوا أن كفارة المظاهر واحدة .

[ ص: 110 ] 14156 - وإن وطئ ، قال أبو حنيفة وأصحابه : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة ولا شيء عليها .

14157 - ومن حجة من رأى الكفارة لازمة عليها إن طاوعته : القياس على قضاء ذلك اليوم ، فوجب عليها قضاء ذلك اليوم وجبت عليها الكفارة .

14158 - وأجمعوا على أن من وطئ في رمضان فكفر عنه ، ثم وطئ في يوم آخر - أن عليه كفارة أخرى .

14159 - وأجمعوا على أن ليس على من وطئ مرارا في يوم واحد إلا كفارة واحدة .

14160 - واختلفوا فيمن وطئ في يوم من رمضان فلم يكفر حتى وطئ في يوم آخر .

140161 - فقال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد : عليه لكل يوم كفارة ، كفر أو لم يكفر .

14162 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إن كفر ثم وطئ فعليه كفارة أخرى ، وإن وطئ قبل أن يكفر فكفارة واحدة قياسا على حد الزاني والسارق .

14163 - وقال الثوري : أحب إلي أن يكفر عن كل يوم ، وأرجو أن تجزئه كفارة واحدة ما لم يكفر .

14164 - واختلفوا فيمن جامع ناسيا في صومه .

[ ص: 111 ] 14165 - فقال الشافعي - والثوري في رواية الأشجعي - وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والحسن بن حي ، وأبو ثور ، وإسحاق ابن راهويه : ليس عليه شيء ، لا قضاء ولا كفارة ، بمنزلة من أكل ناسيا عندهم .

14166 - وهو قول الحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم .

14167 - وقال مالك ، والليث ، والأوزاعي ، والثوري في رواية : عليه القضاء ولا كفارة .

14168 - وروي مثل ذلك عن عطاء .

14169 - وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة مع القضاء ، وقال : مثل هذا لا ينسى .

14170 - وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا ، عليه القضاء أو الكفارة .

14171 - وهو قول عبد الملك بن الماجشون ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ; لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد .

14172 - قال : أحمد بن حنبل : وظاهر قول الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " وقعت على امرأتي " - النسيان والجهالة ، فلم يسأله أنسيت أم تعمدت ، وأفتاه على ظاهر الفعل .

14173 - واختلفوا أيضا فيمن أكل أو شرب ناسيا .

14174 - فقال الثوري ، وابن أبي ذئب ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، [ ص: 112 ] وإسحاق ، وأحمد ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وداود : لا شيء عليه ، ويتم صومه .

14175 - وهو قول جمهور التابعين .

14176 - قال ربيعة ومالك : عليه القضاء .

14177 - وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان ؟ فقال : ليس عليه شيء . على حديث أبي هريرة " الله أطعمه وسقاه " ثم قال أبو عبد الله : مالك - زعموا أنه يقول عليه القضاء ، وضحك .

14178 - وروي عن علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد : من أكل ناسيا لا قضاء عليه .

14179 - أما حديثه عن عطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب ، فلم يختلف على مالك في إرساله .

14180 - وكذلك رواه ابن جريج عن عطاء كما قال مالك سواء .

14181 - ولا يحفظ عن سعيد بن المسيب ذكر البدنة إلا من رواية عطاء الخراساني ، وهو ثقة .

[ ص: 113 ] 14182 - وروي عن أيوب ، عن القاسم بن عاصم أنه قال لسعيد بن المسيب : إن عطاء الخراساني يحدث عنك في الرجل الذي وقع على أهله في رمضان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بعتق رقبة . قال : لا أجد ، فقال : " انحر جزورا " ، فقال : لا أجد ، قال : " فتصدق بعشرين صاعا من تمر " . فقال سعيد : كذب الخراساني ، إنما بلغني أن النبي ( عليه السلام ) قال له : " تصدق " ، فتصدق .

14183 - قال أبو عمر : قد ذكرنا هذا الحديث في " التمهيد " اضطراب [ ص: 114 ] فيه على القاسم بن عاصم ، ولا يجرح بمثله عطاء الخراساني بفضله وشهرته في العلم . والخبر أكثر من شهرة القاسم بن عاصم ، وإن كان البخاري ذكر عطاء الخراساني بهذا الخبر في كتاب " الضعفاء " له ولم يتابعه أحد على ذلك .

14184 - وعطاء مشهور الفضل ، وقد روى عنه الأئمة ، وله فضائل جمة .

14185 - وأما ذكر البدنة في هذا الخبر فلا أعلمه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من رواية ليث عن مجاهد ، وعطاء ، جميعا عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - ذكره البخاري في التاريخ عن ابن شريك ، عن أبيه عن ليث عن عطاء ومجاهد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أعتق رقبة " ثم قال : " انحر بدنة " .

14186 - قال البخاري : ولا يتابع عليه .

14187 - قال أبو عمر : أحسن طرق هذا الحديث عندي - والله أعلم - ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن يزيد المعلم ، قال : حدثني موسى بن معاوية ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني وقعت على امرأتي في رمضان ؟ قال : " بئس ما صنعت ! أعتق رقبة " ، قال : لا أجد ، قال : " انحر بدنة " ، قال : لا أجدها ، قال : " اذهب فتصدق بعشرين صاعا " ، قال : لا أجد . قال : " فجئني أتصدق عنك " ، قال : ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني . قال : " اذهب فكله أنت وأهلك " .

14188 - قال أبو عمر : قد وجدنا ذكر البدنة في هذا الحديث من غير رواية [ ص: 115 ] عطاء الخراساني ، فلا وجه لإنكار من أنكر ذلك عليه ، والله أعلم .

14189 - إلا أن العمل عند أهل العلم بالحجاز ، والعراق الذين تدور عليهم الفتوى على ما في حديث ابن شهاب ، عن حميد ، عن أبي هريرة المذكور عنه في هذا الباب ليس فيه نحر البدنة .

14190 - وما أعلم أحدا أفتى في هذه المسألة بنحر بدنة إلا عطاء ، والحسن البصري على ما تقدم .

14191 - قال أبو عمر : روى قتادة عن سعيد بن المسيب أن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سلمان بن صخر البياضي .

14192 - وهذا وهم من قتادة وممن رواه عن قتادة ، وليس في أصحاب النبي - عليه السلام - من يسمى سلمان إلا سلمان الفارسي ، وسلمان بن عامر الضبي ، والحديث الصحيح إنما فيه سلمة بن صخر ، ولو صح سلمان لأمكن أن يكون أخا سلمة بن صخر البياضي . وقد ذكرنا الخبر بإسناده في " التمهيد " .

14193 - وقد قيل إن سلمة بن صخر كان يقال له سلمان ، فالله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية