الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
62 53 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله الصنابحي ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا توضأ العبد المؤمن ، [ ص: 190 ] فتمضمض ، خرجت الخطايا من فيه . وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه . فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه . حتى تخرج من تحت أشفار عينيه . فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه . حتى تخرج من تحت أظفار يديه . فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه . فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه . حتى تخرج من تحت أظفار رجليه " . قال : " ثم كان مشيه إلى المسجد ، وصلاته نافلة له " .


1980 - قال أبو عيسى الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل البخاري ، عن حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه " . الحديث .

1981 - فقال لي : وهم مالك في قوله : عبد الله الصنابحي ، وإنما هو أبو عبد الله ، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ، ولم يسمع من النبي - عليه السلام - والحديث مرسل .

[ ص: 191 ] 1982 - قال أبو عمر : هو كما قال البخاري ، وقد بينا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب بواضح من القول والحجة .

1983 - وقد روي حديث الصنابحي هذا مسندا من وجوه : من حديث عمرو بن عبسة ، وغيره . وقد ذكرنا ذلك في التمهيد .

1984 - وجاء في هذا الحديث فرض الوضوء وسنته مجيئا واحدا في حط الخطايا وتكفير الذنوب ، فدل ذلك على أن من شر المؤمن ، وما ينبغي له أن [ ص: 192 ] يأتي بما ذكرنا في هذا الحديث من المضمضة والاستنثار وغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس وإنما اختلفوا في مسح الرجلين وغسلهما ، وقد أوضحنا ذلك فيما مضى .

1985 - وليس في الموطأ ذكر المضمضة في حديث مرفوع غير هذا ، وغير حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ، ولا في الموطأ حديث مرفوع فيه ذكر الأذنين إلا حديث الصنابحي هذا .

1986 - وقد استدل بعض أهل العلم على أن الأذنين من الرأس وأنهما يمسحان بماء واحد مع الرأس بحديث الصنابحي هذا ، لقوله : " فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه " فنذكر أقاويل العلماء في ذلك هاهنا :

1987 - قال مالك وأصحابه : الأذنان من الرأس ، إلا أنه يستأنف لهما ماء جديد سوى الماء الذي مسح به الرأس .

1988 - وقال الشافعي كقول مالك : يستأنف للأذنين الماء ولا يمسحان مع الرأس ، إلا أنه قال : هما سنة على حيالهما ، لا من الوجه ، ولا من الرأس ، كالمضمضة والاستنثار .

[ ص: 193 ] 1989 - وقول أبي ثور في ذلك كقول الشافعي سواء .

1990 - وقول أحمد بن حنبل في ذلك كقول مالك سواء : أن الأذنين من الرأس ، وأنه يستأنف لهما ماء جديد .

1991 - واحتج مالك ، والشافعي ؛ بأن عبد الله بن عمر كان يأخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي مسح به رأسه .

1992 - واحتج أصحاب الشافعي بإجماع القائلين بعموم مسح الرأس ، إلا أنه لا إعادة على من صلى ولم يمسح أذنيه ، وبإجماع العلماء على أن الحاج لا يحلق ما عليهما من الشعر .

1993 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : الأذنان من الرأس : يمسحان مع الرأس بماء واحد . وروي عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين مثل هذا القول .

1994 - وحجة من قال به حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عباس ، عن النبي - عليه السلام - أنه كذلك فعل .

[ ص: 194 ] 1995 - وهو موجود أيضا في حديث عبيد الله الخولاني ، عن ابن عباس ، عن علي في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

1996 - وفي حديث طلحة بن مصرف ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - عليه السلام - .

1997 - ومن حجتهم حديث الصنابحي هذا : قوله - عليه السلام - : " فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من أذنيه " كما قال في الوجه : " من أشفار عينيه " وفي اليدين : " من تحت أظفاره " ، ومعلوم أن العمل في ذلك بماء واحد .

[ ص: 195 ] 1998 - وقال ابن شهاب الزهري : الأذنان من الوجه ؛ لأنهما مما يواجهك ولا ينبت عليهما شعر الرأس ، وما لا ينبت عليه شعر الرأس فهو من الوجه إذ كان فوق الذقن ولم يكن قفا . وقد أمر الله بغسل الوجه أمرا مطلقا . وكل ما واجهك فهو وجه .

1999 - ومن حجته أيضا قوله - عليه السلام - في سجوده : " سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره " ، فأضاف السمع إلى الوجه .

2000 - وقال الشعبي : ما أقبل منهما فمن الوجه ، وظاهرهما من الرأس فيغسل ما أقبل منهما مع الوجه ، ويمسح ما أدبر منهما مع الرأس .

2001 - وهو قول الحسن بن حي ، وإسحاق بن راهويه .

2002 - وحكي هذا القول عن الشافعي ، والمشهور عنه ما تقدم ذكره .

2003 - وقد روي عن أحمد بن حنبل مثل قول الشعبي ، وإسحاق في ذلك .

2004 - وقال داود : إن مسح أذنيه فحسن ، وإن لم يمسح فلا شيء عليه .

2005 - وأما سائر أهل العلم فيكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ، ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي - عليه السلام - ولا يوجبون عليه إعادة صلاة صلاها كذلك .

2006 - إلا إسحاق بن راهويه ، فإنه قال : إن ترك مسح أذنيه أو غسلهما عمدا لم يجز .

[ ص: 196 ] 2007 - وقال أحمد : إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد .

2008 - وقد كان بعض أصحاب مالك يقول : من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة أعاد أبدا .

2009 - وهذا عند العلماء قول ضعيف ، وليس لقائله سلف ، ولا له حظ من النظر . ولو كان هذا لم يعرف الفرض من السنة .

2010 - وقال بعضهم : من ترك مسح أذنيه فقد ترك مسح بعض رأسه ، وهو ممن يقول : الفرض مسح بعض الرأس ، وأنه يجزئ المتوضئ مسح بعضه .

2011 - وقوله هذا كله ليس على أصل مالك ولا مذهبه الذي إليه يعتزي .

2012 - وقد مضى القول في مسح الرأس فيما تقدم من هذا الكتاب .

2013 - قال أبو عمر : المعنى الذي يجب الوقوف على حقيقته في الأذنين أن الرأس قد رأينا له حكمين : فما واجه منه كان حكمه الغسل . وما علا منه ، وما كان موضعا لنبات الشعر كان حكمه المسح واختلاف الفقهاء في الأذنين إنما هو : هل حكمهما المسح كحكم الرأس أو حكمهما الغسل كالوجه أولهما من كل واحد منهما حكم ، أو هما من الرأس فيمسحان معه بماء واحد ؟ .

[ ص: 197 ] 2014 - فلما قال - عليه السلام - في حديث الصنابحي هذا : " فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه " ، ولم يقل : إذا غسل وجهه خرجت الخطايا من أذنيه علمنا أن الأذنين من الرأس ، فهذا يشهد لقول من رأى مسحهما مع الرأس .

2015 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد ، والحمد لله .

2016 - وقد استدل بعض من لم ير الوضوء بالماء المستعمل بحديث الصنابحي هذا وما كان مثله ، وقال : خروج الخطايا مع الماء يوجب التنزه عنه ، وسماه بعضهم ماء الذنوب .

2017 - وهذا عندي لا وجه له ؛ لأن الذنوب لا أشخاص لها تمازج الماء فتفسده ، وإنما معنى قوله : " خرجت الخطايا مع الماء " إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده المؤمنين ، رحمة منه بهم ، وتفضلا عليهم ترغيبا في ذلك .

2018 - واختلف الفقهاء في الوضوء بالماء المستعمل ، وهو الذي قد توضئ به مرة ، فقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما : لا يتوضأ به ، ومن توضأ به أعاد ؛ لأنه ليس بماء مطلق . وعلى من لم يجد غيره التيمم ؛ لأنه ليس بواجد ماء .

2019 - ومن حجتهم على الذين أجازوا الوضوء به عند عدم غيره لما كان مع الماء القراح غير المستعمل كلا ماء كان عند عدمه أيضا كلا ماء ، ووجب التيمم .

[ ص: 198 ] 2020 - وقال بقولهم في ذلك أصبغ بن الفرج ، وهو قول الأوزاعي .

2021 - وقد روي ذلك أيضا عن مالك أنه يجوز التيمم لمن وجد الماء المستعمل .

2022 - واحتج بعضهم بقوله - عليه السلام - : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة " .

2023 - ومعلوم أن الماء الدائم الكثير المستعمل فيه من الجنابة لا يمنع أحدا من الغسل فيه إلا لأنه يكون مستعملا وقد أدى به فرض وهو دائم غير جار .

2024 - وأما مالك فقال : لا يتوضأ به إذا غيره من الماء ولا خير فيه ثم قال : إذا لم يجد غيره توضأ به ولم يتيمم ؛ لأنه ماء طاهر ، ولم يغيره شيء .

2025 - وقال أبو ثور ، وداود : الوضوء بالماء المستعمل جائز ؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء فواجب أن يكون مطهرا كما هو طاهر ؛ لأنه إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ به نجاسة فهو ماء طاهر بإجماع .

2026 - ومن حجتهم أن الماء قد يستعمل في العضو الواحد لا يسلم منه أحد ، فكذلك استعماله في عضو بعد عضو .

[ ص: 199 ] 2027 - وإلى هذا ذهب أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي .

2028 - واختلف عن الثوري في هذه المسألة ، فالمشهور عنه أنه لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل ، وأظنه أنه حكي عنه أنه قال : هو ماء الذنوب .

2029 - وقد روي عنه خلاف ذلك ، وذلك أنه قال فيمن نسي مسح رأسه فقال : يأخذ من بلل لحيته فيمسح به رأسه ، وهذا استعمال منه بالماء المستعمل .

2030 - وقد روي عن علي ، وابن عمر ، وأبي أمامة ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، ومكحول ، وابن شهاب : أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا : إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه .

2031 - وقال بذلك بعض أصحاب مالك ، فهؤلاء على هذا يجيزون الوضوء بالماء المستعمل ، والله أعلم .

2032 - وأما مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، ومن قال بقولهم فلا يجوز عندهم لمن نسي مسح رأسه ووجد في لحيته بللا أن يمسح رأسه بذلك البلل ، ولو فعل لم يجزه عندهم ، وكان كمن لم يمسح .

2033 - وأما اختلافهم في رمي الجمار بما قد رمي به فسيأتي موضعه إن شاء الله .

2034 - وقد أوضحنا أن الطهارة للصلاة والمشي إليها وعملها لا يكفر إلا الصغائر دون الكبائر بضروب من الحجج الواضحة من جهة الآثار والاعتبار في هذا الموضع من كتاب التمهيد ، والحمد لله

[ ص: 200 ] 2035 - فمن ذلك حديث أبي هريرة ، وحديث عمران بن حصين ، وحديث ابن مسعود ، وحديث سلمان الفارسي ، كلها عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما من الخطايا والذنوب ما اجتنبت الكبائر " ، أو " ما لم تغش الكبائر " ، وفي حديث سلمان : " ما لم تصب المقتلة " ، وما " اجتنبت المقتلة " على حسب اختلاف ألفاظ المحدثين .

2036 - وهذه الآثار كلها بأسانيدها في التمهيد . والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية