الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
662 [ ص: 117 ] ( 10 ) باب ما جاء في حجامة الصائم

622 - وذكر فيه عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يحتجم وهو صائم ، [ ص: 118 ] قال : ثم ترك ذلك بعد . فكان إذا صام ، لم يحتجم ، حتى يفطر .

623 - وذكر عن ابن شهاب ، أن سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، كانا يحتجمان وهما صائمان .

624 - وعن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أنه كان يحتجم وهو صائم ، ثم لا يفطر . قال : وما رأيته احتجم قط إلا وهو صائم .


14204 - قال أبو عمر : أما ابن عمر فإنما ترك الحجامة صائما لما بلغه فيها - والله أعلم - ومن الورع بالموضع المعلوم .

14205 - وأما عروة بن الزبير فإنه كان يواصل الصوم ، فمن هنا قال ابنه : ما احتجم إلا وهو صائم .

14206 - وأما سعد فإن حديثه في " الموطأ " منقطع ، ورواه عفان عن عبد الواحد بن زياد ، عن عثمان بن حكيم ، عن عامر بن سعد ، قال : كان أبي يحتجم وهو صائم .

14207 - قال أبو عمر : هذا الخبر عن سعد يضعف حديث سعد المرفوع إلى [ ص: 119 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " .

14208 - وقد أنكروه على من رواه عن سعد ; لما جاء عنه عن طريق ابن شهاب وغيره أنه كان يحتجم وهو صائم . وحديثه في " أفطر الحاجم والمحجوم " انفرد به داود بن الزبرقان وهو متروك الحديث ، عن محمد بن جحادة ، عن [ ص: 120 ] مصعب بن سعد ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

14209 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " من طرق يصحح بعضها أهل العلم بالحديث ، منها : 14210 - حديث رافع بن خديج .

14211 - وحديث ثوبان .

[ ص: 121 ] 14212 - وحديث شداد بن أوس .

[ ص: 122 ] 14213 - وهذه أحسن ما روي في هذا المعنى .

14214 - قال أبو داود : قلت لأحمد بن حنبل : أي حديث أصح في " أفطر الحاجم والمحجوم " ؟ قال : حديث ثوبان .

[ ص: 123 ] 14215 - قال أبو عمر : لم يخرج أبو داود غيره ، وخرج حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم صائما .

14216 - وأما حديث أسامة بن زيد ، وحديث معقل بن سنان ، وحديث أبي هريرة فمعلولة ; لا يثبت شيء منها من جهة النقل .

14217 - وقد جاء عن عائشة وابن عباس في ذلك ما لا يصح عندهما ، بل الصحيح عنها وعن ابن عباس خلاف ذلك .

14218 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو معمر ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم .

[ ص: 124 ] 14219 - ورواه وهب عن أيوب بإسناده مثله ، وزاد : " وهو محرم " .

14220 - ورواه هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

14221 - ورواه مقسم عن ابن عباس ، قال : احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائما محرما .

14222 - فحديث ابن عباس صحيح لا مدفع فيه ، ولا يختلف في صحته وثبوته .

14223 - وقد صحح أحمد بن حنبل حديث ثوبان .

[ ص: 125 ] 14224 - وحديث شداد بن أوس ، وحديث رافع بن خديج في " أفطر الحاجم والمحجوم " .

14225 - قال : علي بن المديني : حديث رافع بن خديج صحيح .

14226 - قال أبو عمر : رواه جماعة منهم معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، عن السائب بن يزيد ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفطر الحاجم والمحجوم " .

14227 - والقول عندي في هذه الأحاديث أن حديث ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم صائما محرما ، ناسخ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفطر الحاجم والمحجوم " لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر عام الفتح على رجل يحتجم لثماني عشر ليلة خلت من رمضان ، فقال : " أفطر الحاجم والمحجوم " . فابن عباس شهد معه حجة الوداع ، وشهد حجامته يومئذ محرم صائم ، فإذا كانت حجامته - عليه السلام - عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ؛ لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان ، لأنه توفي في ربيع الأول - صلى الله عليه وسلم - وإنما وجه النظر والقياس في ذلك بأن الأحاديث متعارضة متدافعة في إفساد صوم من احتجم ، فأقل أحوالها أن يسقط الاحتجاج بها ، والأصل أن الصائم لا يقضى بأنه مفطر إذا سلم من الأكل والشرب والجماع إلا بسنة لا معارض لها .

14228 - ووجه آخر من القياس ، وهو ما قال ابن عباس " الفطر مما دخل لا [ ص: 126 ] مما خرج " .

14229 - وقد أجمعوا على ألا يقال للخارجة من جميع البدن - نجاسة كانت أو غيرها - إنها لا تفطر الصائم ; لخروجها من بدنه ; فكذلك الدم في الحجامة وغيرها .

14230 - فإن احتج محتج بحديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ذرعه القيء فلا شيء عليه ، ومن استقاء فعليه القضاء " .

14231 - وبحديث أبي الدرداء ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر .

[ ص: 127 ] 14232 - قيل له : هذه حجة لنا ؛ لأنه لما لم يكن على من ذرعه القيء شيء ، دل على أن ما خرج من نجس وغيره من الإنسان لا يفطره ، وكان المستقيء بخلاف ذلك ؛ لأنه لا يرى منه رجوع بعض القيء في حلقه لتردد ذلك وتصعده ورجوعه .

14233 - وأما الحديث عنه - عليه السلام - أنه قاء فأفطر ، فليس بالقوي . ومعنى قاء : استقاء . والمعنى فيه ما ذكرنا .

14234 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - بمثل هذه الأسانيد من حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاث لا يفطرن الصائم : القيء ، والحجامة ، والاحتلام " .

14235 - ومن حديث حميد الطويل ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبلة ، وفي الحجامة للصائم .

[ ص: 128 ] 14236 - ومن حديث أبي سعيد أيضا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه احتجم وهو صائم .

14237 - وحسبك بحديث ابن عباس في ذلك ، فإنه لا مدفع فيه عند جماعة أهل العلم بالحديث .

14238 - وهذا بيان تهذيب هذه المسألة من طريق الأثر ، ومن طريق القياس والنظر .

14239 - وهذه المقايسة إنما تصح في المحجوم لا الحاجم . ويرجع ذلك إلى أنها من العبادات التي لا يوقف على عللها ، وأنها مسألة أثرية لا نظرية ، ولهذا ما قدمنا الآثار في الواردة بها ، وقد اضطربت وصح النسخ فيها ؛ لأن حجامته - صلى الله عليه وسلم - صحت عنه وهو صائم محرم عام حجة الوداع ، وقوله : " افطر الحاجم والمحجوم " كان منه عام الفتح في صحيح الأثر بذلك .

14240 - وأما الحاجم فقد أجمعت الأمة أن رجلا لو سقى رجلا ماء ، وأطعمه خبزا طائعا أو مكرها - لم يكن بفعله ذلك لغيره مفطرا .

14241 - فدل ذلك على أن الحديث ليس على ظاهره في حكم الفطر ، وإنما هو في ذهاب الأجر لما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كما روي : " من لغى يوم الجمعة فلا جمعة له " يريد ذهاب أجر جمعته باللغو .

14242 - وقد قيل : إنهما كانا يغتابان غيرهما ، أو قاذفين فبطل أجرهما لا حكم صومهما ، والله أعلم .

[ ص: 129 ] 14243 - وما ذكرناه هو أصح من هذا وأولى بذوي العلم إن شاء الله .

14244 - وأما اختلاف العلماء فيها فمعلوم من الصحابة ومن بعدهم .

14245 - روينا عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كرهوا الحجامة للصائم ، وقال منهم جماعة : لا بأس بها للصائم .

14246 - ويحتمل أن يكون كرهها من كرهها منهم لما يخشى على فاعلها من الضعف عن تمام صومه من أجلها .

14247 - حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : " حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا القعنبي ، قال : حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا مخافة الجهد .

14248 - وأما اختلاف فقهاء الأمصار في ذلك .

فقال مالك في " الموطأ " : لا تكره الحجامة للصائم إلا خشية أن يضعف ، ولو أن رجلا احتجم وسلم من أن يفطر لم أر عليه قضاء .

14249 - وهو قول الثوري .

14250 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن احتجم الصائم لم يضره شيء .

14251 - وقال أبو ثور : أحب إلي أن لا يحتجم أحد صائما ، فإن فعل لم يفطر ، وهو باق على صومه .

14252 - وهذا معنى قول الشافعي ؛ لأنه قال في بعض كتبه : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه احتجم وهو صائم [ ص: 130 ] محرم . وقال : لا أعلم واحدا من الحديثين ثابتا . ولو توقى رجل الحجامة صائما كان أحب إلي . وإن احتجم صائما لم أر ذلك يفطره .

14253 - وأما أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، فقالا : لا يجوز لأحد أن يحتجم صائما ، فإن فعل فعليه القضاء .

14254 - وبه قال داود ، والأوزاعي ، وعطاء .

14255 - إلا أن عطاء ، قال : إن احتجم ساهيا لصومه أو جاهلا ; فعليه القضاء ، وإن احتجم متعمدا ; فعليه القضاء والكفارة .

14256 - قال أبو عمر : شذ عطاء عن جماعة العلماء في إيجابه الكفارة في ذلك ، وقوله أيضا خلاف السنة فيمن استقاء عامدا فعليه القضاء والكفارة .

14257 - وقال ابن المبارك : من احتجم قضى ذلك اليوم .

14258 - وقال عبد الرحمن بن مهدي : من احتجم وهو صائم فعليه القضاء .

14259 - قال أبو عمر : لا قضاء عليه لما قدمنا وهو الصحيح ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية