الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
682 [ ص: 195 ] ( 18 ) باب قضاء التطوع

642 - عن مالك ، عن ابن شهاب ; أن عائشة وحفصة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أصبحتا صائمتين متطوعتين ، فأهدي لهما طعام ، فأفطرتا عليه . فدخل عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة ، فقالت حفصة - وبدرتني بالكلام وكانت بنت أبيها - : يا رسول الله ، إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين ، فأهدي إلينا طعام فأفطرنا عليه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقضيا مكانه يوما آخر " .


[ ص: 196 ] 14529 - هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة " الموطأ " فيما علمت .

14530 - وقد روي عن عبد العزيز بن يحيى ، ومطرف ، وروح بن عبادة ، والقدامي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة مسندا ; إلا أنه لم يروه عنه إلا من ليس بذاك من أصحابه .

14531 - وممن رواه كذلك عن ابن شهاب : جعفر بن برقان ، وسفيان بن حسين ، وصالح بن أبي الأخضر ، وإسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة ، وصالح بن كيسان ، ويحيى بن سعيد الأنصاري .

14532 - إلا أن مدار حديث صالح بن كيسان ، ويحيى بن سعيد الأنصاري على يحيى بن أيوب ، وليس بذاك القوي .

[ ص: 197 ] 14533 - وإسماعيل بن إبراهيم متروك الحديث .

14534 - وجعفر بن برقان في الزهري ليس بشيء .

[ ص: 198 ] [ ص: 199 ] 14535 - وسفيان بن حسين ، وصالح بن أبي الأخضر في حديثهما عن الزهري خطأ كبير .

[ ص: 200 ] 14536 - وحفاظ ابن شهاب يروونه مرسلا عن ابن شهاب ، أن عائشة ، وحفصة ، منهم : مالك ، ومعمر ، وعبيد الله بن عمر ، وابن عيينة .

14537 - هكذا روى حديث عبيد الله بن عمر عنه يحيى القطان ، وهو [ ص: 201 ] الصحيح عن عبيد الله .

14538 - أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعناه من صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين ، فأهدي لنا طعام مخروص عليه . . الحديث .

14539 - قال : سفيان : فسألوا الزهري وأنا شاهد : أهو عن عروة ؟ قال : لا .

14540 - قال أبو عمر : أظن السائل الذي أشار إليه ابن عيينة بالذكر هو ابن جريج .

14541 - ذكر عن سفيان ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قلت لابن شهاب : أحدثك عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أفطر في التطوع فليصمه " ؟ . قال : لم أسمع من عروة في ذلك شيئا ، ولكن حدثني في خلافة سليمان إنسان ، عن بعض من كان يسأل عائشة أنها قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين . . وذكر الحديث .

14542 - قال الشافعي : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، قال : قلت لابن شهاب : أسمعته من عروة بن الزبير ؟ قال : لا ، إنما أخبرنيه رجل بباب عبد الملك بن مروان ، أو رجل من جلساء عبد الملك بن مروان .

14543 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن [ ص: 202 ] عثمان بن ثابت ، قال : حدثنا أحمد بن إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا علي بن المديني ، قال : حدثنا سفيان ، قال : جاءنا صالح بن الأخضر قبل أن يجيء الزهري لنا ، فقام فروى لنا عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : " أنها أصبحت هي وحفصة صائمتين متطوعتين ، فأهدي لهما طعام - وكان الطعام مخروصا عليه " فلما جاء الزهري حدثنا بهذا الحديث فلم يذكر فيه عروة ولا قال فيه : " وكان الطعام مخروصا عليه " فوقفوا الزهري وأنا حاضر : هل سمعته من عروة ؟ فقال : لم أسمعه من عروة .

14544 - وقد ذكرنا في " التمهيد " ما روي مسندا في معنى هذا الحديث . وعلل تلك الأحاديث كلها .

14545 - قال أبو عمر : أجمع العلماء على أنه لا شيء على من دخل في صيام أو صدقة تطوع فقطعه عليه عذر من حدث أو غيره لم يكن له فيه سبب .

14546 - واختلفوا فيمن قطع صلاته أو صيامه عامدا .

14547 - فقال مالك وأصحابه : من أصبح صائما متطوعا ، ثم أفطر عامدا فعليه القضاء .

14548 - وكذلك ، قال أبو حنيفة ، وأبو ثور .

14549 - وحجتهم ما ذكرنا من حديث أبي شهاب المذكور ، وما كان معناه [ ص: 203 ] فيما ذكرنا في " التمهيد " .

14550 - وقال الشافعي وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق : أستحب له أن لا يفطر ، فإن أفطر فلا قضاء عليه .

14551 - وقال الثوري : أحب إلي أن يقضي .

14552 - واختلف أصحاب أبي حنيفة : فمنهم من قال بقول صاحبهم ، ومنهم من قال بقول الشافعي .

14553 - والفقهاء كلهم من أهل الرأي والأثر يقولون : إن المتطوع إذا أفطر ناسيا أو عليه شيء فلا قضاء عليه .

14554 - وقال ابن علية : المتطوع عليه القضاء ، أفطر متعمدا أو ناسيا قياسا على الحج .

14555 - وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله بن حنبل عن رجل أصبح صائما متطوعا ثم بدا له فأفطر : أيقضيه ؟ . قال : إن قضاه فحسن ، وأرجو أن لا يجب عليه شيء .

14556 - قيل له : فالرجل يدخل في صلاة متطوعا أله أن يقطعها ؟ فقال : الصلاة أشد ، لا يقطعها . قيل له : فإن قطعها أيقضيها ؟ قال : فإن قضاها خرج من الاختلاف .

[ ص: 204 ] 14557 - قال أبو عمر : من حجة من قال : إن المتطوع إذا أفطر لا شيء عليه من قضاء ولا غيره ما أخبرناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن زيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم هانئ قالت : لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة ، فجلست عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأم هانئ عن يمينه ، قالت : فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته ; فشرب منه ، ثم ناوله أم هانئ ، فشربت منه . قالت : يا رسول الله : لقد أفطرت وكنت صائمة ؟ فقال لها : " أكنت تقضين شيئا ؟ " قالت : لا . قال : " فلا يضرك إن كان تطوعا " .

14558 - وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا محمد بن حسان ، قال : حدثنا حماد ، عن سماك بن حرب ، عن هارون ابن أم هانئ ، عن أم هانئ ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا صائمة ، فأتي بإناء من لبن ، فشرب ثم ناولني ; فشربت ; فقلت يا رسول الله : إني كنت صائمة ، ولكني كرهت أن أرد سؤرك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن كان من قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه ، وإن [ ص: 205 ] كان من غير قضاء رمضان فإن شئت فاقضي ، وإن شئت لا تقضي " .

14559 - قال أبو عمر : اختلف في هذا الحديث عن سماك وغيره ، وهذا الإسناد أصح إسناد لهذا الحديث من طرق سماك ، ولا يقوم على غيره ، رواه شعبة عن سماك . قال : شعبة : وكان سماك يقول : حدثني ابنا أم هانئ فرويته عن أفضلهما .

14560 - واحتج الشافعي أيضا بجواز الفطر في التطوع ، بأن قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إنا خبأنا لك حيسا ، فقال : " أما إني كنت أريد الصوم ، ولكن قدميه " .

14561 - قال : وأخبرنا سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة حتى إذا كان بكراع الغميم وهو صائم رفع إناء ، فوضعه على يده وهو على الرحل ، فشرب والناس ينظرون .

14562 - فقال : هذا لما كان له أن يدخل في الصوم في السفر وألا يدخل ، [ ص: 206 ] وكان مخيرا في ذلك إذا دخل فيه أن يخرج منه ، والتطوع بهذا أولى .

14563 - قال : وأخبرنا مسلم بن خالد ، وعبد الحميد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، أن ابن عباس كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا .

14564 - قال : ويضرب لذلك أمثالا : رجل طاف سبعا ولم يوفه فقد ما احتسب ، أو صلى ركعة فلم يصل أخرى فقد ما احتسب .

14565 - قال : وأخبرنا مسلم ، وعبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن الزبير ، عن جابر ، أنه كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا .

14566 - قال : وأخبرنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي الورد مثله .

14567 - قال أبو عمر : ذكر هذه الآثار كلها : عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الزبير سواء .

14568 - وذكر معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن عباس قال : الصوم كالصدقة : أردت أن تصوم فبدا لك ، وأردت أن تصدق فبدا لك .

[ ص: 207 ] 14569 - قال عبد الرزاق : وأخبرني إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : " من أصبح صائما متطوعا إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وليس عليه قضاء .

14570 - وهو قول سلمان ، وأبي الدرداء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعطاء .

14571 - واختلف فيه عن سعيد بن جبير .

14572 - واحتج الشافعي على من أدخل عليه الحجة بالإجماع في حج العمرة والتطوع أنه ليس لأحد الخروج منهما بعد الدخول فيهما ، وأن من خرج منهما قضاهما ، وأن الصيام قياس عليه ، بأن قال : الفرق بين ذلك ، أن من أفسد صلاته ، أو صيامه ، أو طوافه كان عاصيا لو تمادى في ذلك فاسدا ، وهو في الحج مأمور بالتمادي فيه فاسدا ، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده ثم يقضيه ، وليس كذلك الصوم والصلاة .

14573 - قال أبو عمر : من حجة مالك ومن قال : بقوله في إيجاب القضاء على المتطوع إذا أفسد صومه عامدا مع حديث ابن شهاب المذكور في هذا الباب [ ص: 208 ] حديث عائشة وحفصة ، وقول الله - عز وجل - : ومن يعظم حرمات الله فهو خير له [ الحج : 30 ] وليس من أفطر متعمدا بعد دخوله في الصوم بمعظم لحرم الصوم ، وقد أبطل عمله فيه ، وقد قال الله - عز وجل - : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ البقرة : 187 ] ، وهو يقتضي عموم الفرض والنافلة كما قال الله - عز وجل - وأتموا الحج والعمرة [ البقرة : 197 ] ، وقد أجمعوا أن المفسد لحجة التطوع أو عمرته أن عليه القضاء ، فالقياس على هذا الإجماع إيجاب القضاء على مفسد صومه عامدا .

14574 - وأما من احتج في هذه المسألة بقوله : ولا تبطلوا أعمالكم [ محمد : 30 ] فجاهل بأقوال أهل العلم فيها ، وذلك أن العلماء فيها على قولين :

14575 - فقول أكثر أهل السنة لا تبطلوها بالرياء ، أخلصوها لله .

14576 - وقال آخرون : ولا تبطلوا أعمالكم [ محمد : 30 ] بارتكاب الكبائر . وممن روى عنه ذلك أبو العالية .

14577 - وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل " .

[ ص: 209 ] 14578 - وروي : " فإن شاء أكل ، وإن كان صائما فلا يأكل " .

14579 - فلو كان الفطر في التطوع حسنا لكان أفضل ذلك وأحسنه في إجابة الدعوة التي هي سنة مسنونة ، فلما لم يكن ذلك كذلك علم أن الفطر في التطوع لا يجوز .

14580 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تصوم امرأة وزوجها شاهد - من غير شهر رمضان - إلا بإذنه " .

14581 - وفي هذا أن المتطوع لا يفطر ولا يفطره غيره ؛ لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها ما احتاجت إلى إذنه ولو كان مباحا كان إذنه لا معنى له .

14582 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - ، أنه قدم إليه سمن وتمر وهو [ ص: 210 ] صائم فقال : " ردوا تمركم في وعائه ، وسمنكم في سقائه ; فإني صائم " ، ولم يفطر ، بل أتم صيامه إلى الليل على ظاهر قول الله : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ البقرة : 187 ] ولم يخص فرضا من نافلة .

14583 - وقد روي عن ابن عمر أنه قال في المفطر متعمدا في صوم التطوع : " ذاك اللاعب بدينه " أو قال : " بصومه " .

14584 - وقال سعيد بن جبير : لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي أن أفطر .

14585 - أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا قزعة بن سويد ، قال : حدثنا معروف بن أبي معروف أن عطاء صنع لهم طعاما بذي طوى ، فقربه إليهم وعطاء صائم ، ومجاهد صائم ، وسعيد بن جبير صائم ، فأفطر عطاء ومجاهد ، وقال سعيد : لأن تختلف الشفار في جوفي أحب إلي من أن أفطر .

14586 - وهو قول ابن عمر ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري ، ومكحول .

[ ص: 211 ] 14587 - إليه ذهب أبو ثور .

14588 - وهو قول مالك وأصحابه .

14589 - وقد احتج مالك في موطئه لهذه المسألة ، وما كان مثلها من صلاة التطوع بما قد أوردنا معناه فيما مضى لهذا الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية