الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 212 ] ( 19 ) باب فدية من أفطر في رمضان من علة

643 - ذكر فيه مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك كبر حتى كان لا يقدر على الصيام . فكان يفتدي .

14590 - قال مالك : ولا أرى ذلك واجبا . وأحب إلي أن يفعله إذا كان قويا عليه . فمن فدى فإنما يطعم مكان كل يوم مدا بمد النبي - صلى الله عليه وسلم .


14591 - قال أبو عمر : الخبر بذلك عن أنس صحيح متصل ، رواه حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، ومعمر بن راشد ، عن ثابت البناني قال : كبر أنس بن مالك حتى كان لا يطيق الصوم قبل موته بعام أو عامين ، فكان يفطر ويطعم .

14592 - وروى قتادة ، عن النضر بن أنس مثله ، قال : كان يطعم عن كل [ ص: 213 ] يوم مسكينا .

14593 - قال أبو عمر : اختلف عن أنس في صفة إطعامه ، فروي عنه مد لكل مسكين ، وروي عنه نصف صاع ، وروي عنه أنه كان يجمعهم فيطعمهم فربما جمع ثلاث مئة مسكين فأطعمهم وجبة واحدة . وربما أطعم ثلاثين مسكينا كل ليلة من رمضان يتطوع بذلك ، وكان يصنع لهم الجفان من الخبز واللحم .

14594 - قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يطيقان الصوم الإفطار ، ثم اختلفوا في الواجب عليهما .

14595 - فقال مالك ما ذكرناه عنه في " موطئه " .

14596 - وروى عنه أشهب قال : قال ربيعة في الكبير والمستعطش : إذا أفطرا إنما عليهما القضاء ولا إطعام عليهما .

14597 - قال أشهب : وقال لي مالك مثله .

14598 - وقال الأوزاعي : قال الله - عز وجل - : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله : فدية طعام مسكين [ البقرة : 183 - 184 ] . قال : كان من أطاق الصيام إن شاء صام وإن شاء أطعم فنسختها هذه الآية فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 185 ] فثبت الفدية للكبير الذي لا يطيق الصوم أن يطعم لكل يوم مسكينا مدا من حنطة .

[ ص: 214 ] 14599 - وقال الشافعي : الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ويقدر على الكفارة يتصدق عن كل يوم بمد من حنطة .

14600 - قلته خبرا عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقياسا على من لم يطق الحج أنه يحج عنه غيره ، وليس عمل غيره عمله عن نفسه كما ليس الكفارة كعمله .

14601 - قال : والحال التي يترك فيها الكبير الصوم يجهده الجهد غير المحتمل .

14602 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم : يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا نصف صاع من حنطة ، ولا شيء عليه غير ذلك .

14603 - وقال أبو ثور : أما الشيخ الكبير الذي لا يقدر على الصوم فإنه يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا إذا كان الصوم يجهده ، وإن كان لا يقدر على الصوم فلا شيء عليه .

14604 - قال أبو عمر : قال الله تعالى : كتب عليكم الصيام إلى قوله : فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم [ البقرة : 183 - 184 ] .

14605 - قوله تعالى : يطيقونه هو الثابت بين لوحي المصحف المجتمع عليه ، وهي القراءة الصحيحة التي يقطع بصحتها ويقطع الفرد بمجيئها .

14606 - وقد اختلفت العلماء بتأويلها .

[ ص: 215 ] 14607 - قال منهم قائلون : هي منسوخة .

14608 - قالوا : كان المقيم الصحيح المطيق للصيام مخيرا بين أن يصوم رمضان وبين أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ، وإن شاء صام منه ما شاء وأطعم عما شاء ، فكان الأمر كذلك حتى أنزل الله - عز وجل - : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر الآية [ البقرة : 184 ] فنسخ به ما تقدم من التخيير بين الصوم والإطعام .

14609 - واختلفوا مع هذا في تأويل قوله : فمن تطوع خيرا فهو خير له [ البقرة : 184 ] .

14610 - فقال بعضهم يطعم مسكينين عن كل يوم مدا مدا أو نصف صاع .

14611 - وقال بعضهم : يطعم مسكينا أكثر مما يجب عليه .

14612 - وقال بعضهم : أراد بقوله : فمن تطوع خيرا فهو خير له [ البقرة : 184 ] أن يصوم مع الفدية .

14613 - قال : والصوم مع ذلك خير له من ذلك ، وكل هؤلاء يقولون : الآية . منسوخة بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185 ] .

14614 - وممن قال بذلك عبد الله بن عباس ، رواه أيوب وخالد الحذاء عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس .

14615 - ورواه يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

14616 - ورواه ابن جريج ، وعثمان بن عطاء الخراساني ، عن عطاء ، عن [ ص: 216 ] ابن عباس .

14617 - وهو قول سلمة بن الأكوع لم يختلف عنه فيه ، وقول علقمة وعبيدة ، وابن سيرين ، والشعبي ، وابن شهاب الزهري .

14618 - وهو قول جماعة من أهل الحجاز والعراق إلا أنهم في قولهم : إنها منسوخة ، مفترقون فرقتين .

14619 - منهم من قال : منسوخة جملة في الشيخ وفي غيره .

14620 - ومن قول هؤلاء أو بعضهم أن الناس لا يخلون من إقامة أو سفر ومن صحة أو مرض ، فالصحيح المقيم غير مخير ; لأن الصوم كان عليه فرضا واجبا لقدرته على ذلك وإقامته ببلده ، والمسافر يخير على ما تقدم من حكمه في كتاب الله - عز وجل - فإن أفطر فعليه عدة من أيام أخر ولا فدية . والمريض لا يخلو من أن يرجى برؤه وصحته ، فهنا إن صح قضى ما عليه عدة من أيام أخر ، وإن لم يطمع له بصحة ولا قوة كالشيخ والعجوز اللذين قد انقطعت قوتهما ولا يطمعان أن يثوب إليهما حال يمكنهما من القضاء فلا شيء عليهما من فدية ولا غيرها ; لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها .

14621 - هذا معنى قول القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، ومكحول الدمشقي ، وربيعة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن عبد العزيز ، ومالك وأصحابه ، وبه [ ص: 217 ] قال أبو ثور ، وداود . ورواية عن قتادة .

14622 - إلا أن مالكا يستحب للشيخ الذي يقدر على الصيام إذا قدر على الفدية بالطعام أن يطعم عن كل يوم مدا لمسكين من قوته ، ولا يرى ذلك عليه واجبا عليه .

14623 - وذهبت الفرقة الأخرى تقرأ يطيقونه وترى الآية منسوخة إلا أن النسخ فيها على بعض المطيقين للصوم .

14624 - وهي محكمة عند بعضهم ، فقالوا : كل من طاق الصوم فلا مشقة تضر به ، فالصوم واجب عليه ، وكل من لم يطق الصوم إلا بجهد ومشقة مضرة به فله أن يفطر ويفتدي ؛ لقول الله - عز وجل - : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم [ ص: 218 ] العسر [ البقرة : 185 ] .

14625 - قالوا : وذلك في الشيخ الكبير ، والعجوز ، والحامل ، والمرضع الذين لا يطيقون الصيام إلا بجهد ومشقة خوفا على الولد .

14626 - وذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم : أنس بن مالك ، وابن عباس في رواية ، وعطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة .

14627 - وشريح كان يطعم عن نفسه ولا يصوم كفعل أنس بن مالك .

14628 - وبهذا قال الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والحسن بن حي ، والأوزاعي ، والشافعي ، وطائفة من أهل المدينة ، منهم : يحيى بن سعيد ، وأبو الزناد ، وابن شهاب في رواية .

14629 - وهو معنى قراءة من قرأ يطيقونه لأن القراءتين على هذا التأويل غير متناقضتين .

14630 - وهذا شأن الحروف السبعة : يختلف سماعها ويتفق مفهومها ; فقراءة من قرأ يطيقونه يعني بمشقة ، وهو بمعنى يطوقونه أي : يتكلفونه ، ولا يطيقونه إلا بمشقة .

14631 - وعن ابن شهاب رواية أخرى وهي أصح ، وذلك إن كان يرى الآية في التخيير بين الإطعام والصيام للمسافر والمريض خاصة ، وقرأها منسوخة كما ذكرنا من قوله - عز وجل - : فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . فعدة من أيام أخر [ ص: 219 ] قال : القضاء باق ونسخ الخيار .

14632 - قال أبو عمر : قول ابن شهاب هذا كالقول الأول الذي حكيناه عن ربيعة ، ومالك ، ومن ذكرنا معهم في ذلك .

14633 - ومن حجة من قال بوجوب الفدية ظاهر قول الله - عز وجل - : وعلى الذين يطيقونه يريد : يطيقونه ، ويشق عليهم ، ويضر بهم فدية طعام قال : لو أفطر هؤلاء في الآية المحكمة ، ألزموا الفدية بدلا من الصوم ، كما ألزم من لا يطيق الحج ببدنه أن يحج غيره بماله ، وكما ألزم الجميع الجاني على عضو مخوف الدية بدلا من القصاص في قول الله - عز وجل - : والجروح قصاص [ المائدة : 45 ] .

14634 - قال أبو عمر : الاحتجاج بهذه الأقوال يطول ، وقد أكثروا فيها ، والصحيح في النظر - والله أعلم - قول من قال : إن الفدية غير واجبة على من لا يطيق الصيام ؛ لأن الله تعالى لم يوجب الصيام على من لا يطيقه ؛ لأنه لم يوجب فرضا إلا على من أطاقه ، والعاجز عن الصوم كالعاجز عن القيام في الصلاة ، وكالأعمى العاجز عن النظر لا يكلفه ، وأما الفدية فلم تجب بكتاب مجتمع على تأويله ، ولا سنة يفقهها من تجب الحجة بفقهه ، ولا إجماع في ذلك عن الصحابة ، ولا عن من بعدهم ، والفرائض لا تجب إلا من هذه الوجوه والذمة بريئة .

14635 - قالوا : أحب أن لا يوجب فيها شيء إلا بدليل لا تنازع فيه . والاختلاف عن السلف في إيجاب الفدية موجود ، والروايات في ذلك عن ابن عباس [ ص: 220 ] مختلفة . وحديث علي لا يصح عنه ، وحديث أنس بن مالك يحتمل أن يكون طعامه عن نفسه تبرعا وتطوعا ، وهو الظاهر في الأخبار عنه في ذلك .

14636 - وأما الذين كانوا يقرءون : ( على الذين يطوقونه فدية طعام مساكين ) فهذه القراءة رويت عن ابن عباس من طرق ، وعن عائشة ، كذلك كان يقرأ مجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وجماعة من التابعين وغيرهم ، وكلهم يذهب إلى أن الآية محكمة في الشيخ ، والعجوز ، والحامل ، والمرضع الذين يكلفون الصيام ولا يطيقونه . وسيأتي ذكر الحامل والمرضع في هذا الباب إن شاء الله .

14637 - ومعنى يطيقونه عند جميعهم : يكلفونه .

14638 - ثم اختلفوا فقال بعضهم : يكلفونه ولا يطيقونه إلا بجهد ومشقة مضرة ، فهؤلاء جعلت عليهم الفدية .

14639 - وهذا القول نحو ما قدمنا عن الذين ذهبوا إلى ذلك ممن قرأ القراءة الثابتة في المصحف يطيقونه .

14640 - وقال بعضهم : يكلفونه ولا يطيقونه على حال النية ، فألزموا الفدية بدلا من الصوم ، وذكروا نحو ما ذكرنا من الحجة ومعارضات لم أر لذكرها وجها ؛ لأن القراءة غير ثابتة في المصحف ولا يقطع بها على الله تعالى ، وإنما مجراها مجرى أخبار الآحاد العدول في الأحكام .

14641 - وفيما ذكرنا كفاية ودلالة على ما عنه سكتنا ، وبالله توفيقنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية