الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
689 649 - وذكر عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الصيام جنة ، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ، ولا [ ص: 243 ] يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم إني صائم " .


14718 - قال أبو عمر : الصيام في الشريعة : الإمساك عن الأكل والشرب والجماع . هذا فرضه عند جميع الأئمة . وسننه اجتناب قول الزور واللغو والرفث .

[ ص: 244 ] 14719 - وأصله في اللغة : الإمساك مطلقا ، وكل من أمسك عن شيء فهو صائم منه ، ألا ترى قول الله تعالى : إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا [ مريم : 26 ] .

14720 - وقوله : " جنة " فهي الوقاية والستر عن النار ، وحسبك بهذا فضلا للصائم .

14721 - وروي عن عثمان بن أبي العاص ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الصيام جنة : يستجن بها العبد من النار " .

14722 - وقوله : " فلا يرفث " فالرفث هنا الكلام القبيح ، والشتم ، والخنا ، والغيبة ، والجفاء ، وأن تغضب صاحبك بما يسوءه ، والمراء ، ونحو ذلك كله .

14723 - ومعنى " لا يجهل " قريب مما يصيبنا من الشتم والسباب والقباح ، كقول القائل : [ ص: 245 ]

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

14724 - و " اللغو " هو الباطل . قال الله - عز وجل - : وإذا مروا باللغو مروا كراما [ الفرقان : 72 ] .

14725 - قال العجاج :

عن اللغا ورفث التكلم



14726 - وروي عن أبي العالية أنه قال : خرجنا مع ابن عباس حجاجا ، فأحرم وأحرمنا ، ثم نزل يرتجز يسوق الإبل ويقول :


وهن يمشين بنا هميسا     إن تصدق الطير تنك لميسا

فقلت : يا أبا عباس : ألست محرما ؟ قال : بلى ، فقلت : هذا الكلام الذي تكلم به ؟ قال : لا يكون الرفث إلا ما واجهت به النساء ، وليس معنا نساء .

[ ص: 246 ] 14727 - واختلف العلماء في قوله - عز وجل - : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ البقرة : 197 ] .

14728 - فأكثر العلماء على أن الرفث هاهنا جماع النساء .

14729 - وكذلك لم يختلفوا في قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ البقرة : 187 ] أنه الجماع .

14730 - وأما قوله : " فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم " ففيه قولان :

14731 - ( أحدهما ) : أن يقول الذي يريد مشاتمته ومقاتلته : إني صائم وصومي يمنعني من مجاوبتك ؛ لأني أصون صومي عن الخنا والزور ، والمعنى في المقاتلة : مقاتلته بلسانه .

14732 - وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " .

14733 - والمعنى الثاني أن الصائم يقول في نفسه : إني صائم يا نفسي ، فلا سبيل إلى شفاء غيظك بالمشاتمة ، ولا يعلن بقوله : إني صائم ؛ لما فيه من الرياء واطلاع الناس عليه ؛ لأن الصوم من العمل الذي لا يظهر ، وكذلك يجزي الله الصائم أجره بغير [ ص: 247 ] حساب .

14734 - ومعنى قوله : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " . فمعناه الكراهة والتحذير كما جاء : " من شرب الخمر فليشقص الخنازير " أي يذبحها . وليس هذا على الأمر بتشقيص الخنازير ، ولكنه على تعظيم إثم شارب الخمر .

14735 - وكذلك من اغتاب ، أو شهد زورا أو منكرا لم يؤمر بأن يدع صيامه ، ولكنه باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه .

التالي السابق


الخدمات العلمية