الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
700 656 - مالك ، عن ابن شهاب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يذهب لحاجة الإنسان في البيوت .

14852 - قال مالك : لا يخرج المعتكف مع جنازة أبويه .

657 - وذكر أنه سأل ابن شهاب عن الرجل يعتكف : هل يدخل لحاجته تحت سقف ؟ قال : نعم ، لا بأس بذلك .


[ ص: 281 ] 14853 - قال أبو عمر : هو قول مالك .

14854 - واختلف الفقهاء في اشتغال المعتكف بالأمور المباحة أو المندوب إليها .

14855 - فقال مالك ما ذكرناه عنه .

14856 - وقال الشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابه : للمعتكف أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد واشتغال ما لا يأثم فيه ، وليس عليه صمت .

14857 - واتفق مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، أن المعتكف لا يخرج من موضع اعتكافه لشهود جنازة ، ولا لعيادة مريض ، ولا يفارق موضع اعتكافه إلا لحاجة الإنسان ، ومعانيهم متقاربة جدا في هذا الباب .

14858 - وقال الثوري : المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة والجمعة وما لا يحسن به أن يضيع من أموره ، ولا يدخل تحت سقف إلا أن يكون ممره فيه ، ولا يجلس عنده أهله ، ولا يوصيهم لحاجة إلا وهو قائم أو ماش ، ولا يبيع ولا يشتري ، وإن دخل تحت سقف بطل اعتكافه .

14859 - وقال الحسن بن حي : إذا دخل المعتكف بيتا غير المسجد الذي هو فيه أو بيتا ليس في طريقه - بطل اعتكافه . ويحضر الجنازة ويعود المريض في المسجد ، ويشهد الجمعة ، ويخرج للوضوء ، ويكره أن يبيع ويشتري .

[ ص: 282 ] 14860 - قال أبو عمر : من الحجة لمالك ومن تابعه في هذا الباب ما رواه عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة أنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع .

[ ص: 283 ] 14861 - قال أبو عمر : لم يقل أحد في حديث عائشة هذا : " السنة " إلا عبد الرحمن بن إسحاق ، ولا يصح الكلام عندهم إلا من قول الزهري ، وبعضه من كلام عروة .

14862 - وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : المعتكف لا يجيب دعوة ، ولا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة .

14863 - والحجة لمذهب الثوري ومن تابعه أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : من اعتكف فلا يرفث ولا يساب ، وليشهد الجمعة والجنازة ، ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو صائم ، ولا يجلس عندهم .

14864 - ذكره عبد الرزاق عن معمر ، والثوري عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي .

14865 - وبه يأخذ عبد الرزاق .

14866 - وذكر الحسن الحلواني قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا إسحاق الفزاري ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن سعيد بن جبير ، قال : اعتكفت في مسجد الحي ، فأرسل إلي عمرو بن حريث يدعوني - وهو أمير على الكوفة - فلم آته ، فعاد فلم آته ، ثم عاد فلم آته ، ثم عاد فأتيته ، فقال : ما يمنعك أن [ ص: 284 ] تأتينا ؟ قلت : إني كنت معتكفا ، فقال : وما عليك ؟ إن المعتكف يشهد الجمعة ، ويعود المريض ، ويمشي مع الجنازة ، ويجيب الإمام .

14867 - وبهذا كان يفتي سعيد بن جبير .

14868 - وعن ابن جريج ، ومعمر ، عن الزهري ، قال : لا يخرج المعتكف إلا إلى حاجة لا بد له منها غائطا وبولا ، ولا يشيع جنازة ، ولا يعود مريضا .

[ ص: 285 ] 14869 - قال : وقال عطاء : إن عاد مريضا قطع اعتكافه .

14870 - قال أبو عمر : ذكر ابن خويز منداد أن مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والثوري في المعتكف يأتي كبيرة - أنه قد بطل اعتكافه .

14871 - قال أبو عمر : هؤلاء يبطلون الاعتكاف بترك سنة عمدا ، فكيف بارتكاب الكبيرة فيه ؟ .

14872 - وروي عن أبي حنيفة أن من سكر ليلا لم يفسد اعتكافه . يعني إذا لم يتعمد السكر .

14873 - وأما قول مالك : لم أسمع أحدا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطا ، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج . . . إلى آخر كلامه في هذا الباب من " الموطأ " .

14874 - ومعناه أن الشرط فيه لا يبطل شيئا من سنته ، ولا يجزئه إلا على سنته كسائر ما ذكر معه من أعمال البر .

14875 - قول جماعة من العلماء منهم : أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن المسيب ، قالا : على المعتكف الصوم ، وإن نوى ألا يصوم .

14876 - وبه قال ابن شهاب الزهري ، وأبو عمر ، والأوزاعي .

[ ص: 286 ] 14877 - قال أبو عمر : أما الصلاة والصيام فأجمعوا أن لا مدخل للشرط فيهما ، وأما الحج فإنهم اختلفوا فيه ; فمن أجاز فيه الإشراط احتج بحديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " أهلي بالحج ، واشرطي أن تحلي حيث حبست " وسنذكر هذه المسألة في موضعها من كتاب الحج مما فيها للعلماء من المذاهب إن شاء الله .

14878 - وأما الاعتكاف فالشرط فيه أنه متى عرضه ما يقطعه عليه أن يبني إن شاء ولا يبتدئ ؛ ف :

14879 - أكثر أهل العلم على ما قال مالك ، أنه إذا أتى ما يقطع اعتكافه ابتدأ ، ولم ينفعه شرطه ، وعليه قضاء اعتكافه .

14880 - ومنهم من أجاز له شرطه إذا اشترط في حين دخوله في اعتكافه .

14881 - ذكر عبد الرزاق عن شيوخه بالأسانيد ، أن قتادة ، وعطاء ، وإبراهيم أجازوا الشرط للمعتكف في البيع والشراء وعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، والجمعة ، وأن يأتي الخلاء في بيته ونحو ذلك .

14882 - وزاد عطاء : إن اشترط أن يعتكف النهار دون الليل وأن يأتي بيته ليلا - فذلك له .

[ ص: 287 ] 14883 - وعن علي بن أبي طالب ، وعبد الله : له نيته .

14884 - وقال الشافعي : لا بأس أن يشرط : إن عرض لي أمر خرجت .

14885 - وممن أجاز الشرط للمعتكف : أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، إلا أن أحمد اختلف قوله فيه ; فمرة قال : أرجو أنه لا بأس به ، ومرة منع منه .

14886 - وقال إسحاق : أما الاعتكاف الواجب فلا أرى أن يعود فيه مريضا ، ولا يشهد جنازة . وأما التطوع فإنه يشرط فيه حين يبتدئ شهود الجنازة ، وعيادة المرضى .

14887 - واختلفوا في المعتكف يمرض ، ف :

14888 - قال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي : يخرج . فإذا صح رجع فأتم ما بقي عليه من اعتكافه إذا كان نذرا واجبا عليه .

14889 - وقال الثوري : يبتدئ .

14890 - قال أبو عمر : هذا إذا كان مرضه يمنعه معه المقام .

14891 - واختلفوا في المعتكفة : تطلق أو يموت عنها زوجها ف :

14892 - قال مالك : تمضي في اعتكافها حتى تفرغ منه ، وتتم بقية عدتها في بيت زوجها .

[ ص: 288 ] 14893 - وقال الشافعي : تخرج ، فإذا انقضت عدتها رجعت .

14894 - واختلفوا في المعتكف يدخل بيتا ف :

14895 - قال ابن عمر ، وعطاء ، وإبراهيم : لا يدخل تحت سقف .

14896 - وبه قال إسحاق .

14897 - وقال الثوري : إن دخل بيتا غير مسجده بطل اعتكافه .

14898 - ورخص فيه ابن شهاب ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابهم .

14899 - وكان الشافعي لا يكره للمعتكف أن يصعد المنارة .

14900 - وهو قول أبي حنيفة ، وبه قال أبو ثور .

14901 - وكره ذلك مالك ، ولم يرخص فيه .

14902 - واختلفوا في المعتكف يصعد المئذنة ليؤذن ف :

14903 - كره ذلك مالك ، والليث ، وقالا : لا يصعد على ظهر المسجد .

14904 - وقال الحسن بن حي : لا بأس بذلك كله .

14905 - قال أبو حنيفة : إن يفعل لم يضره شيء ، ولا يفسد اعتكافه ولو كانت خارج المسجد .

14906 - وهو قول الشافعي .

[ ص: 289 ] 14907 - وقال مالك : لا يشتمل المعتكف في مجالس أهل العلم ، ولا يكتب العلم .

14908 - وقال عطاء بن أبي رباح ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد الرحمن ، والليث بن سعد ، والشافعي : لا بأس أن يأتي المعتكف مجالس العلماء في المسجد الذي يعتكف فيه .

14909 - قال أبو عمر : من كره ذلك كما كرهه مالك فلأن مجالس العلم شاغلة له ، كما جعل على نفسه وقصده من الاعتكاف ، وإذا لم يشهد الجنازة ويعد المريض على أن لا يتعدى اعتكافه إلى شيء من أعمال البر إلا اعتكافه .

14910 - وكما لا تقطع صلاة التطوع ولا غيرها لعمل بر سواها من إصلاح بين الناس وغير ذلك ، فكذلك لا يدع اعتكافه لما يشغله عنه من أعمال البر ، ومن رخص في مشاهدته مجالس العلم في المسجد فلأنه عمل لا ينافي اعتكافه ، وإنما يكره له ما ينافي اعتكافه من اللهو والباطل والحرام .

14911 - قال أبو عمر : مالك أقرب بأصله من هؤلاء ; لأنهم ذهبوا إلى أن المعتكف لا يشهد جنازة ، ولا يعود مريضا ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية