الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
699 [ ص: 299 ] ( 4 ) باب قضاء الاعتكاف

661 - مالك عن ابن شهاب ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعتكف ، فلما انصرف إلى المكان [ ص: 300 ] الذي أراد أن يعتكف فيه ، وجد أخبية : خباء عائشة ، وخباء حفصة ، [ ص: 301 ] وخباء زينب ، فلما رآها سأل عنها ، فقيل له : هذا خباء عائشة ، وحفصة ، وزينب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آلبر تقولون بهن ؟ " ثم [ ص: 302 ] انصرف فلم يعتكف ، حتى اعتكف عشرا من شوال .


14955 - قال أبو عمر : كذا روى يحيى بن يحيى هذا الحديث عن مالك ، عن ابن شهاب ، ولم يتابعه على روايته عن مالك عن ابن شهاب أحد من رواة " الموطأ " ، والحديث معروف عن مالك وغيره ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة ، ولم يروه ابن شهاب أصلا ، ولا يعرف هذا الحديث لابن شهاب ، لا من رواية مالك ، ولا من رواية غيره من أصحابه ، وإنما هو في " الموطأ " وغيره لمالك ، عن يحيى بن سعيد ، كذلك رواه جماعة الموطأ عن مالك .

14956 - وكذلك رواه أصحاب يحيى بن سعيد عنه ، عن عمرة لا يذكر عائشة ، ومنهم من يرويه عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، لا يذكر عمرة .

14957 - وقد ذكرنا كثيرا من طرقه بذلك ، عن يحيى بن سعيد في " التمهيد " ، وذكره البخاري عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أراد أن يعتكف " وساقه [ ص: 303 ] بكماله .

18908 - وذكره البخاري أيضا عن أبي النعمان عارم بن الفضل ، عن حماد بن زيد ، قال : حدثنا يحيى بن سعد ، عن عمرة ، عن عائشة .

14959 - قال أبو عمر : هذا الحديث أدخله مالك في باب قضاء الاعتكاف ، وهو أعظم ما اعتمد عليه من فقه .

[ ص: 304 ] 14960 - ومعنى ذلك عندي - والله أعلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد عزم على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ، فلما رأى ما كرهه من تنافس زينب ، وحفصة ، وعائشة في ذلك ، وخشي أن يدخل نيتهن داخلة ، انصرف ، ثم وفى الله عز وجل بما نواه من فعل البر ، فاعتكف عشرا من شوال ، وفي ذلك جواز الاعتكاف في غير رمضان ، وهو أمر لا خلاف فيه .

14961 - وأما قوله في الحديث : " آلبر تقولون بهن " فمعناه يظنون بهن البر ، وأنا أخشى عليهن أن يردن الكون معي على ما يريد النساء من الانفراد بالأزواج في كل حين وإن لم يكن حين جماع ، فكأنهن مع إرادتهن لذلك لم يكن اعتكافهم خالصا لله ، فكره لهن ذلك ، وهو معنى قوله في غير حديث مالك : " آلبر تردن - أو يردن " كأنه توبيخ ، أي : ما أظنهن يردن البر .

14962 - وقد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره لأزواجه الاعتكاف لشدة مؤنته ، لأن ليله ونهاره سواء .

14963 - قال مالك : لم يبلغني أن أبا بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا ابن المسيب ، ولا أحدا من سلف هذه الأمة اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن ، وذلك - والله أعلم - لشدة الاعتكاف .

14964 - ولو ذهب ذاهب إلى أن الاعتكاف للنساء مكروه بهذا الحديث لكان مذهبا ، ولولا أن ابن عيينة - وهو حافظ - ذكر فيه أنهن استأذنه في الاعتكاف لقطعت بأن الاعتكاف للنساء في المساجد غير جائز .

[ ص: 305 ] 14965 - وما أظن استئذانهن محفوظا ، ولكن ابن عيينة حافظ ، وقد تابعه الأوزاعي ، وابن فضيل في أن عائشة استأذنته لنفسها ، وبعضهم يقول : إن عائشة استأذنته لنفسها وحفصة في الاعتكاف ، فأذن لمن استأذنه منهن ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم فيما في نيتهن .

14966 - وفي هذا الحديث من الفقه ، أن الاعتكاف يلزم مع النية بالدخول فيه ، فإذا دخل الإنسان ثم قطعه - لزمه قضاؤه .

14967 - وإنما قلنا : إنه يلزمه بالنية مع الدخول وإن لم يكن في حديث مالك ذكر دخوله في ذلك الاعتكاف الذي قضاه إلا في رواية ابن عيينة لهذا الحديث ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه . فلما صلى الصبح - يعني في المسجد - وهو موضع اعتكافه مع عقد نيته على ذلك ، والنية هي الأصل في الأعمال ، وعليها تقع المجازات ، فمن هنا - والله أعلم - قضى اعتكافه في ذلك في شوال - صلى الله عليه وسلم - .

14967 م - وقد ذكر سنيد ، قال : حدثنا معمر بن سليمان عن كهمس ، عن معبد بن ثابت في قوله عز وجل : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله الآية [ 75 من سورة التوبة ] : " إنما هو شيء يروه في أنفسهم ولم يتكلموا به ، ألا تسمع إلى قوله تعالى في الآية : أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب " [ التوبة : 78 ] .

14968 - قال : وحدثنا معتمر قال : ركبت البحر ، فأصابتنا ريح شديدة ; فنذر [ ص: 306 ] قوم معنا نذورا ، ونويت أنا شيئا لم أتكلم به ، فلما قدمت البصرة سألت أبا سليمان التيمي فقال : يا بني ف به .

14969 - فغير نكير أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى الاعتكاف من أجل أنه كان قد نوى أن يعمله وإن لم يدخل فيه ; لأنه كان أوفى الناس لربه بما عاهده عليه ، وأبدرهم إلى طاعته ، فإن كان دخل فيه فالقضاء واجب عند العلماء ، لا يختلف في ذلك الفقهاء ، وإن كان لم يدخل فيه فالقضاء مستحب لمن هذه حاله عند أهل العلم مندوب إليه أيضا مرغوب فيه .

14970 - ومن العلماء من أوجب قضاءه عليه ، من أجل أنه كان عقد عليه نيته ، والوجه عندنا ما ذكرنا .

14971 - ومن جعل على المعتكف قضاء ما قطعه من اعتكافه ، قاسه على الحج التطوع يقطعه صاحبه عمدا أو مغلوبا .

14972 - وقد ذكرنا حكم قطع الصلاة التطوع والصيام التطوع ، وما للعلماء في ذلك من المذاهب فيما مضى من هذا الكتاب .

14973 - وذكر الأثرم قال : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن النساء أيعتكفن ؟ قال : نعم .

14974 - وقد ذكرنا طرفا من اختلاف العلماء في مكان معتكف النساء في أول باب الاعتكاف ، وقد ذكرنا هاهنا ما هو على شرطنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية