الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 307 ] 14975 - قال مالك : لا يعجبني أن تعتكف المرأة في مسجد بيتها ، ولتعتكف في مسجد الجماعة .


14976 - وقال أبو حنيفة : لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ، ولا تعتكف في مسجد الجماعة .

14977 - وقال الثوري : اعتكاف المرأة في بيتها أفضل من اعتكافها في المسجد .

14978 - وهو قول إبراهيم .

14979 - قال أبو عمر : من حجة من أجاز اعتكاف المرأة حديث ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، هذا لأن فيه أنهن استأذنه في الاعتكاف فأذن لهن ، فضربن أخبيتهن في المسجد ، ثم منعهن بعد ، ومعلوم أن منعه لهن كان لغير المعنى الذي أذن لهن من أجله .

[ ص: 308 ] 14980 - وقال أصحاب أبي حنيفة : إنما جاز لهن ضرب أخبيتهن في المسجد للاعتكاف من أجل أنهن كن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

14981 - وللنساء أن يعتكفن في المسجد مع أزواجهن ، وكما أن للمرأة أن تسافر مع زوجها ، كذلك لها أن تعتكف معه .

14982 - وقال من لم يجز اعتكافهن في المسجد أصلا : إنما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف إنكارا عليهن . قال : ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " آلبر يردن " ، أي ليس هذا ببر .

14983 - ولم يختلفوا أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ، فكذلك الاعتكاف .

14984 - قال أبو عمر : ليس في حديث مالك في هذا الباب ذكر دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الاعتكاف الذي قضاه أي وقت هو .

14985 - وقد ذكره غيره : حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، قال سفيان بن عيينة ، قال : سمعت يحيى يحدث عن عمرة ، عن عائشة ، قالت : أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان ، فسمعت بذلك فاستأذنته فأذن لي ، ثم استأذنته حفصة فأذن لها ، ثم استأذنته زينب فأذن لها . قالت : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه ، فلما صلى [ ص: 309 ] الصبح رأى في المسجد أربعة أبنية . . وذكر الحديث .

14986 - وذكره البخاري ، قال : حدثنا محمد بن سلام ، قال : حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان ، وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي يعتكف فيه . قال : فاستأذنته عائشة . . وذكر الحديث .

14987 - وذكره أبو داود ، قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، ويعلى بن عبيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . . وذكر باقي الحديث .

14988 - قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بهذا الحديث مع ثبوته وصحته في وقت دخول المعتكف موضع اعتكافه إلا الأوزاعي ، والليث بن سعد ، وقد قال به طائفة من التابعين .

14989 - وروى ابن وهب عن الليث ، قال : إنما يدخل المعتكف المسجد للاعتكاف قبل الفجر ليلة إحدى وعشرين .

14990 - وذكر الأثرم قال : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن المعتكف في [ ص: 310 ] أي وقت يدخل معتكفه ؟ فقال : يدخل قبل غروب الشمس فيكون يبتدئ ليلته .

فقيل له : قد روى يحيى بن سعيد ، عن عمرة " أن النبي كان يصلي الفجر ثم يدخل معتكفه " فسكت .

14991 - قال : وسمعته مرة أخرى يسأل عن المعتكف في أي وقت يدخل معتكفه ؟ فقال : قد كنت أحب له أن يدخل معتكفه في أول الليل حتى يبيت فيه ويبتدئ ، ولكن حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل معتكفه إذا صلى الغداة " .

14992 - قيل : فمتى يخرج ؟ قال : يخرج منه إلى المصلى .

14993 - قال أبو عمر : اتفق مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة على خلاف هذا الحديث ، إلا أنهم اختلفوا في وقت دخول المعتكف المسجد للاعتكاف إذا نذره أياما وليالي أو يوما واحدا .

[ ص: 311 ] 14994 - فقال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس .

14995 - قال مالك : ومن أراد أن يعتكف يوما أو أكثر دخل معتكفه قبل مغيب الشمس من ليلة ذلك اليوم .

14996 - وقال الشافعي : إذا قال : لله علي اعتكاف يوم ، دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر .

14997 - وقال زفر بن الهذيل ، والليث بن سعد : يدخل قبل طلوع الفجر . والشهر واليوم عندهما سواء . تقدم .

14998 - وروي مثل ذلك عن أبي يوسف .

14999 - وقال الأوزاعي بظاهر حديث عائشة المذكور ، قال : يصلي في المسجد الصبح ويقوم إلى معتكفه .

15000 - وقال أبو ثور : إذا أراد اعتكاف عشرة أيام دخل في اعتكافه قبل طلوع الفجر ، وإذا أراد عشر ليال دخل قبل غروب الشمس .

15001 - قال أبو عمر : ذهب هؤلاء إلى أن الليل لا يدخل في الاعتكاف إلا أن يتقدمه اعتكاف النهار ؛ لأن الليل ليس بموضع اعتكاف ، فلا يصلح الابتداء به ، وذهب هؤلاء إلى أن الليل تبع للنهار على كل حال ابتدأ ، فلذلك ابتدءوا به ، والله [ ص: 312 ] أعلم .

15002 - وأما قوله في حديث مالك : " ثم اعتكف عشرا من شوال " فقد مضى القول في وجوب قضاء الاعتكاف للباد والقاطع بعذر وبغير عذر ، ومضى مع ما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكافه ، كل ذلك في هذا الباب والحمد لله .

15003 - ومضى في الباب قبله خروج المعتكف لمرض يعرض له ، واختلاف العلماء في حكمه .

15004 - فقول مالك في موطئه أصح ما روي عنه في ذلك أن المريض يتم ما بقي عليه من اعتكافه إذا صح .

15005 - واحتج مالك بحديثه في هذا الباب : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد الاعتكاف في رمضان فلم يعتكف ، واعتكف عشرا من شوال " .

15006 - قال مالك : والمتطوع في الاعتكاف ، والذي عليه الاعتكاف أجرهما سواء فيما يحل لهما ويحرم عليهما .

15007 - قال : ولم يبلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان اعتكافه إلا تطوعا .

15008 - قال أبو عمر : هذا قوله مع جملة العلماء ; لأن الاعتكاف وإن لم يكن واجبا - لا على من نذره - فإنه يجب بالدخول فيه كالصلاة النافلة ، والحج والعمرة النافلتين .

15009 - وقد اختلف العلماء في أقل ما يلزمه هاهنا ، ولم يرو في شيء من [ ص: 313 ] الآثار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل على نفسه اعتكافا .

15010 - وذلك دليل على أن اعتكافه كان تطوعا .

15011 - وقد أوضحنا وجه قضائه عشرا من شوال في اعتكافه بما لا معنى لإعادته هاهنا .

15012 - واختلف العلماء في أقل مدة الاعتكاف ف :

15013 - روى ابن وهب عن مالك أن أقله عنده ثلاثة أيام .

15014 - وذكر ابن حبيب أن أقله عنده يوم وليلة .

15015 - وقال ابن القاسم في " المدونة " : وقفت مالكا على ذلك فأنكره ، [ ص: 314 ] وقال : أقله عشرة أيام .

15016 - قال أبو عمر : هذا على الاستحقاق ؛ لأن مالكا قال : من عليه الجمعة فلا يعتكف في غير مسجد الجامع إلا من الجمعة إلى الجمعة .

15017 - وهو قول الشافعي .

15018 - ولا حد عند أبي حنيفة ، والشافعي ، وأكثر الفقهاء في أقل مدته .

15019 - وروى ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن أمية ، قال : إني لأمكث ساعة معتكفا .

15020 - قال عطاء : وسمعت أنه لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام .

15021 - قال عطاء : والاعتكاف ما مكث فيه المعتكف .

التالي السابق


الخدمات العلمية