الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
701 [ ص: 319 ] ( 6 ) باب ما جاء في ليلة القدر

662 - مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ؟ أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان . فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه قال : " من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد من صبحها في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر " .

قال أبو سعيد : فأمطرت السماء تلك الليلة . وكان المسجد على عريش . فوكف المسجد .

قال أبو سعيد : فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح ليلة إحدى وعشرين .


[ ص: 320 ] 15042 - قال أبو عمر : في هذا الحديث دليل على أن الاعتكاف في رمضان سنة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على الاعتكاف فيه ، وما واظب عليه فهو سنة .

15043 - والدليل على أنه كان يعتكف في كل رمضان قوله : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان " . وهذا اللفظ يدل على المداومة .

15044 - وفي رواية محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد في هذا الحديث بيان ذلك عن عائشة ، قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان " .

15045 - وأما قوله : " حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبيحتها من اعتكافه " .

15046 - هكذا رواه يحيى بن بكير ، والشافعي عن مالك : " يخرج فيها من صبيحتها " .

15047 - ورواه القعنبي ، وابن وهب ، وابن القاسم ، وجماعة عن مالك وقالوا فيه : " وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه " .

[ ص: 321 ] 15048 - وقد ذكرنا مسألة خروج المعتكف في العشر الأواخر أي وقت هو في باب " خروج المعتكف إلى العيد " .

15049 - وأما خروج من اعتكف العشر الوسط ، أو اعتكف في أول الشهر ف :

15050 - روى ابن وهب ، وابن عبد الحكم ، عن مالك ، قال : من اعتكف أول الشهر أو وسطه فليخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه ، وإن اعتكف ، في آخر الشهر فلا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد ، وكذلك بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

15051 - قال أبو عمر : لا أعلم خلافا في المعتكف في غير رمضان أو في العشر الأول أو الوسط من رمضان أنه لا يخرج من اعتكافه إلا إذا غربت الشمس من آخر أيام اعتكافه .

15052 - وهذا يعضد ويشهد بصحة رواية من روى " يخرج فيها من اعتكافه " .

وأن رواية من روى يخرج من صبيحتها وهم ، وأظن الوهم دخل عليهم من مذهبهم في خروج المعتكف العشر الأواخر في صبيحة يوم الفطر .

15053 - حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو سلمة القعنبي ، قال : حدثنا مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي [ ص: 322 ] الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه . . " ، وذكر الحديث .

15054 - وروى البخاري عن عبد الله بن منير ، عن هارون بن إسماعيل ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن كثير ، عن أبي سلمة ، أنه سأل أبا سعيد الخدري ، قال : قلت : هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر ليلة القدر ؟ قال : نعم ، اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان ، فخرجنا صبيحة عشرين ، فخطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبيحة عشرين ، فقال : " إني أريت ليلة القدر . . فذكر الحديث .

15055 - كذا قال : " صبيحة عشرين " ، وهذا خلاف ما رواه مالك وغيره في حديث أبي سعيد الخدري هذا ، والوجه عندي - والله أعلم - أنه أراد : خطبهم غداة عشرين ليعرفهم أنه اليوم الآخر من أيام اعتكافهم ، وأن الليلة التي تلك الصبيحة هي ليلة إحدى وعشرين - هي المطلوب فيها ليلة القدر بما رأى من الرؤيا .

15056 - وقوله : " إني أريتها ثم أنسيتها ، ورأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين ; فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر " . فهذا يدل على أن ليلة القدر تنتقل ، ويخيل أن يكون قوله : " التمسوها في العشر الأواخر " يعني في الوتر [ ص: 323 ] منها ، أي في ذلك العام ، والله أعلم ، ويحتمل أن يكون ذلك في الأغلب من كل عام ، ورؤياه - صلى الله عليه وسلم - دلته على أنها من ذلك العام في الأيام الباقية من شهر رمضان ، وهي العشر الأواخر وأنها في الوتر منها ؛ فلذلك خاطبهم ثم خاطبهم به ، والله أعلم .

15057 - ويدل على هذا التأويل اختلاف الأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - واختلاف العلماء فيها على ما نراه في هذا الباب إن شاء الله .

15058 - حدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا أحمد بن منصور قال : حدثنا عبد الرحيم بن شريك ، عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر ، فإني قد رأيتها فنسيتها ، وهي ليلة مطر وريح " .

أو قال : " قطر وريح " .

15059 - قال أبو عمر : هذا يدل على أنه أراد في ذلك العام ، والله أعلم .

15060 - وأما قوله : " وكان المسجد على عريش فوكف " فإنه أراد أن سقفه كان معرشا بالجريد من غير طين ، ولذلك كان يكف .

15061 - وقوله : فوكف ، يعني : هطل فتبلل المسجد من ذلك ماء وطينا .

15062 - وقد اختلف قول مالك في الصلاة في الطين على حسب اختلاف الأحوال ; فمرة قال : لا يجزيه إلا أن ينزل بالأرض ويسجد عليها على حسب ما [ ص: 324 ] يمكنه استدلالا بهذا الحديث ؛ لقوله فيه : " فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين " ، ومرة قال : يجزيه أن يومئ إيماء ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، يعني إذا كان الماء قد أحاط به .

15063 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن عمر بن يحيى بن حرب قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد أنه قال : أومأ في ماء وطين .

15064 - قال عمرو : وما رأيت أعلم من جابر بن زيد .

15065 - وقد ذكرنا في " التمهيد " حديث يعلى بن أمية قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابتنا السماء ، فكانت البلة من تحتنا والسماء من فوقنا ونحن في مضيق ، فحضرت الصلاة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأذن وأقام ، وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته والقوم على راحلتهم ، يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع .

15066 - وقد ذكرنا هذا من طرق في " التمهيد " ، وعن جماعة من التابعين مثل ذلك بالأسانيد .

[ ص: 325 ] 15067 - وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الصلاة المكتوبة على الراحلة ؟ فقال : في شدة الحرب ، وأما الأمن فلا إلا في موضعين : التطوع ، وفي الطين المحيط به .

15068 - وقد تكلمنا على هذه المسألة في " التمهيد " وأتينا منه هاهنا وفي كتاب الصلاة بما فيه كفاية ، والحمد لله .

15069 - وفي هذا الحديث ما يدل أن السجود على الأنف والجبهة جميعا ، واجتمع العلماء على أنه إذا سجد على جبهته وأنفه فقد أدى فرض سجوده .

15070 - واختلفوا فيمن سجد على أنفه دون جبهته أو على جبهته دون أنفه ؛ فقال مالك : يسجد على جبهته وأنفه ، فإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجزه ، وإن سجد على جبهته دون أنفه فقد أدى ولا إعادة عليه .

15071 - وقال الشافعي : لا يجزيه حتى يسجد على جبهته وأنفه .

15072 - وهو قول الحسن بن حي .

15073 - واحتج الشافعي بحديثه في هذا الباب وبقوله - عليه السلام - : " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء . . " وذكر منها الوجه .

15074 - وبان في حديث أبي سعيد هذا أن سجوده على وجهه كان على جبهته وأنفه .

15075 - روى حماد بن سلمة عن عاصم الأحول ، عن عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من لم يضع أنفه في الأرض في سجوده فلا صلاة له " .

[ ص: 326 ] 15076 - وقال أبو حنيفة : إذا سجد على جبهته أو ذقنه أو أنفه أجزأه .

15077 - وحجته حديث ابن عباس عن النبي - عليه السلام - : " أمرت أن أسجد على سبعة آراب . . " فذكر منها الوجه .

15078 - قالوا : فأي شيء وضع من الوجه أجزأه .

15079 - وهذا ليس بشيء ؛ لأن حديث ابن عباس قد ذكر فيه جماعة من الحفاظ الأنف والجبهة .

15080 - وقد ذكرناه في " التمهيد " من طرق .

15081 - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المبين عن الله عز وجل مراده قولا وفعلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية