الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
705 666 - وأما حديث مالك في هذا الباب ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، أنه قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ، فقال : " أني أريت هذه الليلة في رمضان ، حتى تلاحى رجلان ; فرفعت ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة " .


[ ص: 332 ] 15101 - هكذا روى مالك هذا الحديث عن أنس ، قال : " خرج علينا رسول الله .

15102 - وخالفه أصحاب حميد كأنهم قرءوه عن حميد ، عن أنس ، عن عبادة بن الصامت قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه .

15103 - أخبرناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن حميد ، عن أنس ، عن عبادة قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان ، فقال : " إني خرجت أن أخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان ، ولعل ذلك أن يكون خيرا ، فالتمسوها في التاسعة ، والسابعة ، والخامسة " .

15104 - وكذلك رواه يحيى القطان ، وبشر بن المفضل ، وابن أبي عدي ، وحماد بن سلمة ، وغيرهم ، عن حميد ، عن أنس ، عن عبادة ، كلهم جعله من مسند عبادة .

15105 - وقال علي بن المديني : وهم فيه مالك ، وخالفه أصحاب حميد وهم [ ص: 333 ] أعلم به منه ، ولم يكن له وحميد علم كعلمه بمشيخة أهل المدينة .

15106 - قال أبو عمر : ليس في حديث عبد الوهاب هذا " فرفعت " وهو في حديث مالك وغيره ، والله أعلم بما أراد رسوله بقوله ذلك ، والأظهر من معانيه أنه رفع علم تلك الليلة عنه فأنسيها بعد أن كان علمها ، وكان سبب ذلك ما كان من تلاحي الرجلين ، والله أعلم .

15107 - والملاحاة : المراء ، والمراء لا تؤمن فتنته ولا تفهم حكمته ، ومن تقدم الملاحاة أنهم حرموا ليلة القدر في تلك الليلة ، ولم يحرموها في ذلك العام ؛ بدليل قوله : " التمسوها في التاسعة والخامسة " والله أعلم .

15108 - وأما قوله : " في التاسعة " فإنه أراد تاسعة تبقى وهي ليلة إحدى وعشرين ، وقوله : " والسابعة " السابعة تبقى ، وهي ليلة ثلاث وعشرين ، و " الخامسة " يريد الخامسة تبقى وهي ليلة خمس وعشرين .

15109 - وهذا عن الأغلب : في أن الشهر ثلاثين يوما ، وهو الأصل بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ومعلوم أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين ، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الشهر تسع وعشرون " و " ثلاثون " وقد أوضحنا هذا المعنى بالآثار والشواهد في " التمهيد " .

15110 - قال أبو عمر : في ليلة إحدى وعشرين حديث أبي سعيد الخدري من رواية مالك وغيره ، وفي ليلة ثلاث وعشرين حديث عبد الله بن أنيس الجهني ، وقد [ ص: 334 ] تقدم ذكره . وفي ليلة سبع وعشرين حديث أبي بن كعب ، وحديث معاوية ، وهي كلها صحاح تدل على انتقال ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر في الأغلب ، ولا يبعد أن تكون في غير العشر الأواخر ولا أن يكون في غير الوتر .

15111 - ذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر في كل وتر .

15112 - وأما حديث أبي بن كعب فحدثناه عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن حرب ، ومسدد قالا : حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن زر قال : قلت لأبي بن كعب : يا أبا المنذر : أخبرني عن ليلة القدر ؛ فإن صاحبنا سئل عنها ، فقال : من يقم الحول يصبها ، فقال : رحم الله أبا عبد الرحمن ، والله لقد علم أنها في رمضان ولكن كره أن تتكلوا ، والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني ، قلت : يا أبا المنذر : أني علمت ذلك ؟ قال : بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : ما الآية ؟ قال : تطلع الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع .

[ ص: 335 ] 15113 - وأما قوله : " إنها تكون في غير الوتر " فلحديث عبد الله بن أنيس ، وقد ذكرناه بإسناده في " التمهيد " أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر ؟ فقال : " كم الليلة " ؟ قلت : اثنان وعشرون . قال : " هي الليلة " ثم رجع فقال : " أو القابلة " يريد ثلاثا وعشرين .

15114 - وفي هذا الحديث دليل على جواز كونها ليلة اثني وعشرين وليس ذلك بوتر ، إلا أنه حديث انفرد به عباد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس ، عن أنيس ، عن أبيه ، وعباد ليس بالقوي .

15115 - وممن ذهب إلى هذا : الحسن البصري .

15116 - ذكر معمر عن من سمع الحسن يقول : نظرت الشمس عشرين سنة فرأيتها تطلع ليلة أربع وعشرين من رمضان ليس لها شعاع .

15117 - وأما قولي : إنها قد تكون في غير العشر الأواخر ; فلما رواه جعفر ، عن أبيه ، أن علي بن أبي طالب كان يتحرى ليلة القدر ليلة تسعة عشر ، وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين .

15118 - وروى يزيد بن هارون قال : أخبرنا المسعودي ، عن حوط الخزاعي قال : سألت زيد بن أرقم عن ليلة القدر فما تمارى ولا شك ليلة تسع عشرة [ ص: 336 ] ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان .

15119 - وعن الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال : قال عبد الله بن مسعود : تحروا ليلة القدر ليلة سبع عشرة صبيحة بدر ، أو إحدى وعشرين ، أو ثلاث وعشرين .

15120 - وقد روي حديث ابن مسعود هذا مرفوعا ، وقد ذكرناه وما كان مثله في " التمهيد " .

15121 - وذكرنا هناك بالأسانيد عن أربعة من الصحابة ، أن ليلة القدر في كل رمضان : ابن عمر ، وابن عباس ، وأبي ذر ، وأبي هريرة .

[ ص: 337 ] 15122 - ومنهم من يروي حديث أبي عمر ، وحديث أبي ذر مرفوعين ، وقد ذكرنا ذلك في " التمهيد " .

15123 - وروى ابن جريج قال : أخبرني داود بن أبي عاصم ، عن عبد الله بن محصن قال : قلت لأبي هريرة ، وعمر : إن ليلة القدر قد رفعت ؟ قال : كذب من قال ذلك . قلت : فهي في كل رمضان ؟ قال : نعم .

15124 - وهذا كله من قول ابن مسعود وغيره يرد رواية من روى عن ابن مسعود " من يقم الحول يصبها ، وأن ذلك على ما تأوله عليه أبي بن كعب حين قال : " أحب أبا عبد الرحمن أن لا يتكلوا " .

15125 - وقد حكى الجوزجاني عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد أنهم قالوا : ليلة القدر في السنة كلها ، كأنهم ذهبوا إلى قول ابن مسعود .

[ ص: 338 ] 15126 - قال مالك ، والشافعي ، والثوري ، ومحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور : هي منتقلة في العشر الأواخر من رمضان ولا يدفعون أن يكون في كل رمضان .

15127 - قال أبو عمر : روى حماد بن سلمة قال : أخبرنا ربيعة بن كلثوم ، قال : سأل رجل الحسن - وأنا عنده - فقال : يا أبا سعيد ، أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي ؟ قال : إي والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان ، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها .

15128 - وذكرنا في " التمهيد " خبر ابن عباس من طريق عكرمة عنه ، ومن طريق سعيد بن جبير أيضا عنه - واختصرنا هنا الخبرين معا - أن عمر بن الخطاب دعا جماعة من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ليلة القدر ، فقالوا : كنا نراها في العشر الأوسط ، وبلغنا أنها في العشر الأواخر ، وأكثروا في ذلك ، فقال ابن عباس : إني لأعلم أي ليلة هي . فقال عمر : وأي ليلة هي . فقال : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر . فقال عمر : من أين علمت ذلك ؟ قال : رأيت الله عز وجل خلق سبع سماوات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام يدور الدهر عليهن ، وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ، فتلا قوله - عز وجل - : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ المؤمنون : 14 ] [ ص: 339 ] وأما يأكل من سبع ، فقول الله تعالى : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] فالأب للأنعام ، والسبعة للإنسان .

15129 - قال أبو عمر : وفي هذا الخبر أن عمر سأل من حضره يومئذ من الصحابة - وكانوا جماعة - عن معنى نزول سورة إذا جاء نصر الله والفتح [ الفتح : 1 ] ، فوقفوا ولم يزيدوا على أن قالوا : أمر نبيه - عليه السلام - إذا فتح الله عليه أن يسبحه ويستغفره ؟ فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال : معنى يا أمير المؤمنين أنه نعى إليه نفسه ، وأعلمه أنه قابضه إليه إذا دخلت العرب في الدين أفواجا . فسر عمر بذلك ، وقال : يلوموني في تقريب هذا الغلام ، فقال عبد الله بن مسعود : لو أدرك أسناننا ما عاشره منا رجل ، ونعم ترجمان القرآن ابن عباس .

التالي السابق


الخدمات العلمية