الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
712 [ ص: 14 ] ( 2 ) باب غسل المحرم

673 ( م ) - مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه ; أن عبد الله بن عباس ، والمسور بن مخرمة ، اختلفا بالأبواء . فقال عبد الله : يغسل المحرم رأسه ، وقال المسور بن مخرمة : لا يغسل المحرم رأسه . قال فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين . وهو يستر بثوب ، فسلمت عليه ، فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين . أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ قال ، فوضع أبو أيوب يده على الثوب ، فطأطأه حتى بدا لي رأسه ، ثم قال لإنسان يصب عليه : اصبب . فصب على رأسه . ثم حرك رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل .


[ ص: 15 ] 15181 - قال أبو عمر : روى هذا الحديث يحيى بن يحيى ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بن حنين ، عن أبيه . . ، فذكره ، ولم يتابعه على إدخال نافع بين زيد بن أسلم وبين إبراهيم بن عبد الله أحد من رواة " الموطأ " ، وذكر نافع هنا خطأ من خطأ اليد ، والله أعلم لا شك فيه ، ولذلك طرحته من الإسناد كما طرحه ابن وضاح .

15182 - وقد روى عن إبراهيم هذا : ابن شهاب ، ونافع مولى عبد الله بن عمر ، وزيد بن أسلم ، ومحمد بن عمرو بن علقمة ، ومحمد بن إسحاق ، والحارث بن أبي ذباب ، ويزيد بن أبي حبيب ، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ، وموسى بن عبيدة ، وغيرهم .

15183 - وحنين جد إبراهيم هذا يقال إنه مولى العباس بن عبد المطلب . وقيل : مولى علي بن أبي طالب ، والله أعلم .

15184 - وفيه من الفقه : أن الصحابة إذا اختلفوا لم تكن في قول واحد منهم [ ص: 16 ] حجة على غيره إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة . ألا ترى أن ابن عباس والمسور لما اختلفا لم يكن لواحد منهما حجة على صاحبه حتى أدلى ابن عباس بالحجة بالسنة ففلج .

15185 - وهذا يبين لك أن قوله ( عليه السلام ) : " أصحابي كالنجوم . " هو على ما فسره المزني وغيره وأن ذلك في النقل ; لأن جميعهم ثقات عدول فواجب قبول ما نقل كل واحد منهم ، ولو كانوا كالنجوم في آرائهم واجتهادهم إذا اختلفوا لقال ابن عباس للمسور : أنت نجم ، وأنا نجم فلا عليك ، وبأينا اقتدى المقتدي فقد اهتدى ، ولما احتاج لطلب البينة والبرهان من السنة على صحة قوله .

15186 - وكذلك سائر الصحابة ( رضوان الله عليهم ) إذا اختلفوا ; حكمهم كحكم ابن عباس والمسور ، وهم أول من تلا : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] .

15187 - قال العلماء : إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه ( عليه السلام ) ما كان حيا ، فإن قبض فإلى سنته .

15188 - ألا ترى أن ابن مسعود قيل له : إن أبا موسى الأشعري قال في أخت وابنة وابنة ابن : إن للابنة النصف ، وللأخت النصف ، ولا شيء لبنت الابن . وأنه قال للسائل : ائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا . فقال ابن مسعود ( قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ) [ الأنعام : 56 ] أقضي فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " للبنت النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت .

15189 - وبعضهم لم يرفع هذا الحديث وجعله موقوفا على ابن مسعود ، [ ص: 17 ] وكلهم رووا فيه : و ( قد ضللت إذا . . ) الآية [ 56 من سورة الأنعام ] .

15190 - وفي " الموطأ أن أبا موسى الأشعري أفتى بجواز رضاع الكبير ، ورد ذلك عليه ابن مسعود ، قال أبو موسى : لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم .

15191 - وروى مالك عن ابن مسعود : أنه رجع عن قوله في الربيبة إلى قول أصحابه في المدينة .

15192 - وهذا الباب طويل ، إذا كان الصحابة خير أمة أخرجت للناس وهم أهل العلم والفضل لا يكون أحدهم حجة على صاحبه ، إلا الحجة من كتاب الله أو سنة نبيه ، فمن دونهم أولى أن يعضد قوله بما يجب التسليم له .

15193 - قال مجاهد في قوله - عز وجل - ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل [ ص: 18 ] إليك من ربك هو الحق ) [ الآية الكريمة ( 6 ) من سورة سبأ ] . قال : أصحاب محمد ( عليه السلام ) .

15194 - قال مالك : الحكم حكمان : حكم جاء به كتاب الله ، وحكم أحكمته السنة .

15195 - قال : ومجتهد رأيه فلعله يوفق ، ومتكلف فطعن عليه .

15196 - قال : وذكر ابن وضاح عن ابن وهب ، قال : قال لي مالك : الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء ، ويؤتي من أحب من عباده ، وليس بكثرة المسائل .

1519 - قال أبو عمر : وقد استوفينا هذا المعنى في كتاب العلم .

15198 - وفي هذا الحديث دليل على أن ابن عباس قد كان عنده في غسل المحرم رأسه ، والله أعلم ، علم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنبأه ذلك أبو أيوب أو غيره .

15199 - ألا ترى أن قول عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب : " أرسلني إليك ابن عباس أسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ " ولم يقل : هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ فالظاهر أنه كان عنده من ذلك علم .

15200 - واختلف العلماء في غسل رأسه ; فكان مالك لا يجيز ذلك للمحرم ويكرهه له .

15201 - ومن حجته : أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام .

[ ص: 19 ] 15202 - قال مالك : فإذا أوفى المحرم جمرة العقبة جاز له غسل رأسه وإن لم يحلق قبل الحلق ; لأنه إذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث . ولبس الثياب .

15203 - قال : وهذا الذي سمعت من أهل العلم .

15204 - وروى جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه رأى قيس بن سعد بن عبادة غسل أحد شقي رأسه بالشجرة فالتفت ، فإذا هديه قد قلدت ، فقام ، فأهل قبل أن يغسل شق رأسه الآخر .

15205 - وفي حديث سعد بن قيس من الفقه : أنه كان يذهب إلى أنه من قلد هديه أو قلد عنه هديه بأمره فهو محرم ، وهذه مسألة ستأتي في موضعها إن شاء الله من هذا الكتاب .

15206 - وفيه : أن قيس بن سعد بن عبادة كان لا يرى أن يغسل المحرم رأسه .

15207 - ويحمل حديث أبي أيوب عند مالك : أنه كان ربما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه من الجنابة محرما فلا يكون عليه فيه حجة ، وعند غيره يحمله على العموم والظاهر ; لأنه لم يجر في الحديث لواحد منهم ذكر الجنابة . ومحال أن يختلف عالمان في غسل المحرم وغير المحرم رأسه من الجنابة .

[ ص: 20 ] 15208 - وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود : لا بأس أن يغسل المحرم رأسه بالماء وهو محرم .

15209 - وكان عمر بن الخطاب يغسل رأسه بالماء ، وهو محرم ويقول : لا يزيده الماء إلا شعثا .

15210 - وروي في الرخصة في ذلك عن : ابن عباس ، وجابر ، وعليه جماعة التابعين ، وجمهور الفقهاء ، وقد أجمعوا أن المحرم يغسل رأسه من الجنابة .

15211 - وأتباع مالك في كراهته للمحرم غسل رأسه بالماء قليل .

15212 - وقد كان ابن وهب ، وأشهب يتغاطسان في الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم في إبايته من ذلك ، وكان ابن القاسم يقول : إن من غمس رأسه في الماء أطعم شيئا خوفا من قتل الدواب .

15213 - قال أبو عمر : لا يجب الفداء في ذمة المحرم إلا بيقين الحكم وغير ذلك استحباب ، ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب الماء على رأسه لحر يجده .

15214 - وكان أشهب يقول : لا أكره للمحرم غمس رأسه في الماء .

15215 - قال : وما يخاف في الغمس ينبغي أن يخاف مثله في صب الماء على الرأس من الحر .

15216 - وأما غسل المحرم رأسه بالخطمي أو السدر . فالفقهاء على كراهية ذلك .

[ ص: 21 ] 15217 - هذا مذهب مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة .

15218 - وكان مالك ، وأبو حنيفة يريان الفدية على المحرم إذا غسل رأسه بالخطمي .

15219 - وقال أبو ثور : لا شيء عليه إن فعل .

15220 - وكان عطاء ، وطاوس ، ومجاهد : يرخصون للمحرم إذا كان قد لبد رأسه في الخطم ليلين .

15221 - وروي عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك .

15222 - ويحتمل أن يكون هذا من فعل ابن عمر بعد رمي جمرة العقبة ، وكان إذا لبد حلق ، وإنما كان فعله ذلك عونا على الحلق .

15223 - واحتج بعض المتأخرين على جواز غسل المحرم رأسه بالخطمي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمحرم الميت أن يغسلوه بماء وسدر ، وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب المحرم ; فدل ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسدر ، قال : والخطمي في معناه .

15224 - وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء تأتي في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله .

5225 - واختلفوا في دخول المحرم الحمام فتدلك ، وإن نقى الوسخ فعليه الفدية .

[ ص: 22 ] 15226 - وكان الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود : لا يرون بدخول المحرم بأسا .

15227 - وروي عن ابن عباس من وجه ثابت : أنه كان يدخل الحمام وهو محرم .

15228 - وفيه : استتار الغاسل بالثوب معلوم .

15229 - وفيه : أن الذي كان يستره بالثوب لا يطلع منه على ما يتستر به من مثله ، فالسترة واجبة عن القريب والبعيد .

15230 - وأما قوله " يغتسل بين القرنين " فقال ابن وهب : هما العمودان المبنيان اللذان فيهما الساقية على رأس الجحفة .

15231 - وقال غيره : هما حجران مشرفان أو عمودان على الحوض يقوم عليهما السقاة .

في هذا الباب عن مالك

التالي السابق


الخدمات العلمية