الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
738 [ ص: 88 ] ( 9 ) باب العمل في الإهلال

699 - ذكر فيه مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر . أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " .

قال : وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها . لبيك لبيك . لبيك وسعديك . والخير بيديك لبيك . والرغباء إليك والعمل
.


[ ص: 89 ] 15543 - كذا روى هذا الحديث جماعة رواة عن مالك وكذلك رواه أصحاب نافع ، أيضا .

15544 - ورواه ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

15545 - وروى ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا في تلبية رسول الله ( عليه السلام ) دون زيادة ابن عمر من قوله .

15546 - وفي حديث أبي هريرة زيادة " لبيك إله الحق " .

15547 - واختلفت الروايات في فتح " إن " وكسرها ، وقوله " إن الحمد [ ص: 90 ] والنعمة لك " . وأهل العربية يختارون في ذلك الكسر .

15548 - وأجمع العلماء على القول بهذه التلبية ، واختلفوا في الزيادة فيها .

15549 - فقال مالك : أكره أن يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

15550 - وهو أحد قولي الشافعي .

15551 - وقد روي عن مالك : أنه لا بأس أن يزاد فيها ما كان ابن عمر يزيده في هذا الحديث .

15552 - وقال الشافعي : لا أحب أن يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا شيئا يعجبه ، فيقول : لبيك إن العيش عيش الآخرة .

15553 - وقال الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور : لا بأس بالزيادات في التلبية على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد فيها ما شاء .

15554 - قال أبو عمر : من حجة من ذهب إلى هذا ما رواه القطان ، عن جعفر بن محمد ، قال : حدثني أبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أهل رسول الله [ ص: 91 ] - صلى الله عليه وسلم - . . ، فذكر التلبية بمثل حديث ابن عمر .

15555 - قال : والناس يزيدون : لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام ، والنبي ( عليه السلام ) يسمع فلا يقول لهم شيئا .

15556 - واحتجوا أيضا بأن ابن عمر كان يزيد فيها ما ذكره مالك وغيره عن نافع في هذا الحديث .

15557 - وما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول بعد التلبية : لبيك ذا النعماء والفضل الحسن . لبيك مرهوبا منك ، ومرغوبا إليك .

15558 - وعن أنس بن مالك أنه كان يقول في تلبيته : لبيك حقا حقا . تعبدا وزقا .

15559 - ومن كره الزيادة في التلبية احتج بأن سعد بن أبي وقاص أنكر على من سمعه يزيد في التلبية ما لم يعرفه .

وقال : ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
.

15560 - رواه يحيى بن سعيد ، عن ابن عجلان ، قال : حدثني عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعد .

[ ص: 92 ] 15561 - قال أبو عمر : من زاد في التلبية ما يجمل ويحسن من الذكر فلا بأس ، ومن اقتصر على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أفضل عندي .

15562 - ومعنى التلبية إجابة عباد الله - عز وجل - ربهم فيما فرض عليهم من حج بيته ، والإقامة على طاعته .

15563 - يقال منه قد ألب بالمكان . إذا أقام به .

15564 - وقال الراجز :

لب بأرض ما تخطاها الغنم

.

15565 - وإلى هذا ذهب الخليل .

15566 - قال أبو عمر : وقال جماعة من العلماء : إن معنى التلبية إجابة [ ص: 93 ] إبراهيم - عليه السلام - حين أذن بالحج في الناس .

15567 - روى جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : " لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له : أذن في الناس بالحج . قال : رب وما يبلغ الصوت ؟ قال : أذن وعلي البلاغ . فنادى إبراهيم : أيها الناس ، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق . قال فسمعه ما بين السماوات والأرض . أفلا ترون الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون .

15568 - وروى ابن جريج ، عن مجاهد في قوله تعالي : ( وأذن في الناس بالحج ) [ الحج : 27 ] قال : قام إبراهيم على مقامه ، قال : أيها الناس : أجيبوا ربكم ، فقالوا : اللهم لبيك فمن حج البيت فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ .

15569 - قال أبو عمر : معنى " لبيك اللهم لبيك " أي إجابتي إليك إجابة بعد إجابة .

15570 - ومعنى قول ابن عمر " لبيك وسعديك " أي أسعدنا سعادة بعد سعادة وإسعادا بعد إسعاد .

15571 - وقد قيل : معنى " وسعديك " سعادة لك .

15572 - وكان ثعلب يقول : " إن " بالكسر في قوله : " إن الحمد والنعمة [ ص: 94 ] لك " أحب إلي ; لأن الذي يكسرها يذهب إلى أن الحمد والنعمة لك على كل حال ، والذي يفتح يذهب إلى أن المعنى لبيك إلى أن الحمد لك . أي لبيك ولهذا السبب .

15573 - واستحب الجميع أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بإثر صلاة يصليها .

15574 - وكان مالك يستحب أن يبتدئ المحرم بالتلبية بإثر صلاة نافلة ، أقلها ركعتان ، وكره أن يحرم بإثر الفريضة دون نافلة . فإن أحرم بإثر صلاة مكتوبة فلا حرج .

15575 - وقال غيره : ويحرم بإثر نافلة أو فريضة من ميقاته إذا كانت صلاة يتنفل بعدها ، فإن كان في غير وقت صلاة لم يبرح حتى يحل وقت صلاة فيصلي ثم يحرم إذا استوت به راحلته ، وكان ممن يمشي فإذا خرج من المسجد أحرم .

15576 - وقال العلماء بتأويل القرآن في قوله ( عز وجل ) ( فمن فرض فيهن الحج ) [ البقرة : 197 ] قالوا : الفرض التلبية .

15577 - قاله عطاء ، وطاوس ، وعكرمة ، وغيرهم .

15578 - وقال ابن عباس : الفرض الإهلال ، والإهلال التلبية .

15579 - وقال ابن مسعود وابن الزبير : الفرض الإحرام . وهو كله معنى واحد .

15580 - وقالت عائشة : لا إحرام إلا لمن أحرم ولبى .

15581 - وقال الثوري : الفرض : الإحرام ، والإحرام : التلبية ، والتلبية في الحج مثل التكبير في الصلاة .

[ ص: 95 ] 15582 - قال أبو عمر : اللفظ بالتلبية في حين فرض الإحرام عند الثوري وأبي حنيفة ركن من أركان الحج ، والحج إليها مفتقر ، ولا تجزئ التلبية عنها عندهما . إلا أن أبا حنيفة يجوز عنده سائر الوجوه من التهليل والتكبير والتسبيح عن التلبية كما يفعل في الإحرام بالصلاة .

15583 - ولم أجد عند الشافعي نصا في ذلك ، وأصوله تدل على أن التلبية ليست من أركان الحج عنده .

15584 - وهو قول الحسن بن حي .

15585 - وأوجب التلبية أهل الظاهر : داود ، وغيره .

15586 - وقال الشافعي : تكفي النية في الإحرام بالحج من أن يسمى : حجا ، أو عمرة .

15587 - قال : وإن لبى حجا أو عمرة لحجه يريد عمرة فهي عمرة ، وإن لبى بحج يريد عمرة فهي عمرة ، وإن لبى بعمرة يريد حجا فهو حج ، وإن لبى ليس يريد حجا ولا عمرة فليس بحج ولا عمرة ، وإن لبى ينوي الإحرام ولا ينوي حجا ولا عمرة فله الخيار يجعله أيهما شاء ، وإن لبى وقد نوى أحدهما فنسي ، فهو قارن لا يجزئه غير ذلك .

هذا قول الشافعي .

15588 - قال أبو عمر : ذكر إسماعيل بن إسحاق ، عن أبي ثابت ، قال : قيل لابن القاسم : أرأيت المحرم من مسجد ذي الحليفة إذا توجه من فناء المسجد بعد [ ص: 96 ] أن صلى فتوجه وهو ناس أن يكون في توجهه محرما ؟ .

فقال ابن القاسم : أراه محرما فإن ذكر من قريب لبى ولا شيء عليه ، وإن تطاول ذلك عليه ولم يذكر حتى خرج من حجه رأيت أن يهريق دما .

15589 - قال إسماعيل : وهذا يدل على أن الإهلال للإحرام ليس عنده بمنزلة التكبير للدخول في الصلاة ، لأن الرجل لا يكون داخلا في الصلاة إلا بالتكبير ، ويكون داخلا في الإحرام بالتلبية وبغير التلبية من الأعمال التي توجب الإحرام بها على نفسه ، مثل أن يقول : قد أحرمت بالحج ولعمرة ، أو يشعر الهدي ، وهو يريد بإشعاره : الإحرام ، أو يتوجه نحو البيت وهو يريد بتوجهه : الإحرام ، فيكون بذلك كله وما أشبهه محرما .

15590 - وكان مالك يرى على من ترك التلبية من أول إحرامه إلى آخر حجه دما يهريقه .

15591 - وكان الشافعي وأبو حنيفة لا يريان على من أحرم على ما قدمنا عنهما ، ثم لم يلب إلى آخر الحج شيئا .

وفى هذا الباب :

التالي السابق


الخدمات العلمية