الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
741 704 - مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبيد بن جريج ; أنه قال ، لعبد الله بن عمر : يا أبا عبد الرحمن ، رأيتك تصنع أربعا لم أر [ ص: 104 ] أحدا من أصحابك يصنعها . قال : وما هن يا ابن جريج ؟ قال : رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ، ورأيتك تلبس النعال السبتية . ورأيتك تصبغ بالصفرة . ورأيتك ، إذا كنت بمكة ، أهل الناس إذا رأوا الهلال ، ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية ، فقال عبد الله بن عمر : أما الأركان ، فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس إلا اليمانيين ، وأما النعال السبتية ، فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر ، ويتوضأ فيها ، فأنا أحب أن ألبسها . وأما الصفرة ، فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها . فأنا أحب أن أصبغ بها . وأما الإهلال ، فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته .


15624 - قال أبو عمر : عبيد بن جريج من ثقات التابعين .

15625 - ذكر الحسن الحلواني ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا [ ص: 105 ] ابن وهب ، قال : حدثني أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن عبيد بن جريج ، قال : حججت مع ابن عمر من بين حج وعمرة : اثنتي عشرة مرة .

15626 - قال أبو عمر : في هذا الحديث دليل على أن الاختلاف في الأفعال والأقوال والمذاهب كان في الصحابة ، موجودا ، وهو عند العلماء أصح ما يكون في الاختلاف إذا كان بين الصحابة ، وأما ما أجمع عليه الصحابة واختلف فيه من بعدهم فليس اختلافهم بشيء . وإنما وقع الاختلاف بين الصحابة بالتأويل المحتمل فيما سمعوه أو رأوه ، أو فيما انفرد بعلمه بعضهم دون بعض ، أو فيما كان منه - صلى الله عليه وسلم - على طريق الإباحة في فعله لشيئين مختلفين في وقته .

15627 - وفي هذا الحديث دليل على أن الحجة عند الاختلاف سنة ، وأنها حجة على ما خالفها ، وليس من خالفها عليها حجة .

15628 - ألا ترى أن ابن عمر لما قال له ابن جريج : " رأيتك تصنع أشياء لم يصنعها أحد من أصحابك . . . " لم يستوحش من مفارقة أصحابه إذ كان عنده في ذلك علم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل لي ابن جريج : الجماعة أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك ، ولعلك قد وهمت كما يقول اليوم من لا علم له ، بل انقاد للحق إذ : سمعه . وهكذا يلزم الجميع .

15629 - وأما قوله : " رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين " ، فالسنة التي عليها جمهور الفقهاء وأئمة الفتوى بالأمصار أن ذينك الركنين يستلمان دون غيرهما .

[ ص: 106 ] 15630 - وروينا عن ابن عمر أنه قال : ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلام الركنين الذين يليان الحجر أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم .

15631 - وأما السلف فقد اختلفوا في ذلك .

15632 - فروي عن جابر وأنس ، وابن الزبير ، والحسن ، والحسين ( رضي الله عنهم ) أنهم كانو يستلمون الأركان كلها .

15633 - وعن عروة مثل ذلك .

15634 - وعن جابر بن زيد : ومن يتق شيئا من البيت ؟ وكان معاوية يستلم الأركان ، فقال ابن عباس لمعاوية : ألا تقتصر على استلام الركنين . فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجورا .

15635 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : [ ص: 107 ] حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الطفيل قال : حج ابن عباس ، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها ، قال ابن عباس : إنما استلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذين الركنين الأيمنين ؟ فقال معاوية : ليس من أركانه مهجور .

15636 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الطيالسي ، قال : حدثنا ليث بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين .

15637 - وأما قوله : " رأيتك تلبس النعال السبتية " فهي النعال السود التي ليس فيها الشعر .

15638 - ذكره ابن وهب صاحب مالك .

[ ص: 108 ] 15639 - وقال الخليل : السبت : الجلد المدبوغ بالقرظ .

15640 - وقال الأصمعي : هو الذي ذكره ابن قتيبة .

15641 - وقال أبو عمرو الشيباني : هو كل جلد مدبوغ .

[ ص: 109 ] 15642 - وقال أبو زيد جلود البقر خاصة مدبوغة كانت أو غير مدبوغة ، ولا يقال لغيرها سبت . وجمعها سبوت .

15643 - وقال غيره : السبت : نوع من الدباغ يقلع الشعر ، وتلبس النعال منها .

[ ص: 110 ] 15644 - قال أبو عمر : لا أعلم خلافا في جواز لباس النعال السبتية في غير المقابر ، وأما في المقابر فقد جاء فيها عن النبي ( عليه السلام ) ، وعن العلماء ما قد ذكرناه في " التمهيد " وليس هذا موضع ذكره .

[ ص: 111 ] 15645 - وأما قوله في حديث مالك : ( ورأيتك تصبغ بالصفرة ، وقول ابن عمر : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها ) ، فإن العلماء اختلفوا في تأويل هذا الحديث .

15646 - فقال قوم : أراد الخضاب بها ، واحتجوا برواية مسدد وغيره ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن عبيد الله بن عمر ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن ابن جريج ، قال : قلت لابن عمر : أربع خصال رأيتك تضعهن . قال : [ ص: 112 ] وما هن ؟ قلت : رأيتك تلبس النعال السبتية ، ورأيتك لا تستلم غير الركنين اليمانيين ، ورأيتك تصفر لحيتك . . ، وساق الحديث .

وفيه : وأما تصفيري لحيتي فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصفر لحيته . . ، وذكر تمام الخبر .

15647 - ومثل ذلك رواية محمد بن إسحاق لهذا الحديث عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبيد بن جريج ، قال قلت لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن : رأيتك تصفر لحيتك ؟ قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصفر بالورس ، فأنا أحب أن أصفر به كما كان يصنع .

15648 - ورواه حماد بن سلمة ، عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن ابن جريج ، قال : رأيت ابن عمر يصفر لحيته ، قلت له : رأيتك تصفر لحيتك ؟ قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصفر لحيته .

15649 - وروى عيسى بن يونس ، عن عبد الواحد بن زياد ، عن الحجاج ، عن عطاء : رأيت ابن عمر ولحيته صفراء .

15650 - وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث عن الذي ذكرنا عنهم في " التمهيد " .

[ ص: 113 ] 15651 - وذكرنا حديث أبي الدرداء أنه قال : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخضب ، ولكنه قد كان فيه شعرات بيض ، فكان يغسلها بالحناء والسدر .

15652 - وقد ذكر ابن أبي خيثمة في هذا أخبارا كثيرة وفي هذه أيضا .

15653 - وقال آخرون : معنى قول عبيد بن جريج في حديث مالك ( رأيتك تصبغ بالصفرة ) ، أراد أنه كان يصفر ثيابه ، ويلبس ثيابا صفرا ، وأما الخضاب فلم يكن [ ص: 114 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخضب ، واحتجوا بآثار كثيرة ، قد ذكرنا في هذا الموضع ، وفي باب ربيعة من " التمهيد " . وفي كتاب " الجامع " منها ديوان من ذلك كفاية .

[ ص: 115 ] 15654 - وقد حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أحمد بن سعد ، قال حدثنا زهير بن معاوية ، عن حميد الطويل ، قال : سئل أنس بن مالك عن الخضاب ؟ فقال : خضب أبو بكر بالحناء والكتم . فخضب عمر بالحناء ، قيل له : فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء .

15655 - قال حميد : كن سبع عشرة شعرة .

15656 - وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، قال : سألت سعيد بن المسيب : أخضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : لم يبلغ ذلك .

[ ص: 116 ] 15657 - وذكر مالك عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق ، والمصبوغ بالزعفران .

15658 - قال أبو عمر : حديث ابن عمر هذا يدل على أن قوله في حديث عبيد بن جريج كان في صبغ الثياب بالصفرة لا في خضاب الشعر .

15659 - وأما قوله في الحديث : ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية ؟ فقال ابن عمر : لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 117 ] يهل حتى تنبعث له راحلته . فإن ابن عمر قد جاء بحجة قاطعة نزع بها وأخذ بالعموم في إهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يخص مكة من غيرها .

15660 - وقال : لا يهل الحاج إلا في وقت يتصل له عمله وقصده إلى البيت ومواضع المناسك والشعائر ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل واتصل له عمله .

15661 - وقد تابع ابن عمر على إهلاله هذا في إهلال المكي من غير أهلها : جماعة من أهل العلم .

15662 - ذكر عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى .

15663 - قال ابن طاوس : وكان أبي إذا أراد أن يحرم من المسجد استلم الركن ، ثم خرج .

15664 - قال ابن جريج : وقال عطاء : إهلال أهل مكة أن يهل أحدهم حين تتوجه به دابته نحو منى ، فإن كان ماشيا فحين يتوجه نحو منى .

15665 - وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلوا في حجتهم مع النبي ( عليه السلام ) عشية التروية حين توجهوا إلى منى .

15666 - قال ابن جريج : وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله وهو يخبر عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فأمرنا بعد ما طفنا أن نحل . فال : وإذا أردتم أن [ ص: 118 ] تنطلقوا إلى منى فأهلوا . قال : فأحللنا من البطحاء .

15667 - وفي هذه المسألة مذهب آخر لعمر بن الخطاب تابعه عليه أيضا جماعة من العلماء سنذكره في باب إهلال أهل مكة إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية