الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 241 ] 16168 - وفي هذا الباب أيضا .

قال مالك : العمرة سنة ، ولا نعلم أحدا من المسلمين أرخص في تركها .


16169 - قال أبو عمر : هذا اللفظ يدل ظاهره على وجوب العمرة وقد جهل بعض الناس مذهب مالك فظن أنه يوجب العمرة فرضا بقوله : ولا نعلم أحدا من المسلمين أرخص في تركها .

16170 - وقال : هذا سبيل الفرائض وليس كذلك عند جماعة أصحابه ولا يختلفون عنه أنها سنة مؤكدة .

16171 - وقال إبراهيم النخعي : هي سنة حسنة .

16172 - وكان الشافعي ببغداد يقول : هي سنة لا فرض ، وقال بمصر هي فرض لازم كالحج مرة في الدهر .

16173 - وهو قول ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، وداود ، وسعيد بن جبير .

16174 - وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور على اختلاف عنه .

16175 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : هي تطوع وليست بواجبة .

[ ص: 242 ] 16176 - . وهو قول الشعبي ، وبه قال أبو ثور ، وداود .

16177 - وروي عن ابن مسعود ، قال : الحج فريضة والعمرة تطوع .

16178 - وذكر الطبري أن قول أبي ثور كقول الشافعي المصري ، يوجبون العمرة .

16179 - وذكره ابن المنذر ، عن أبي حنيفة فأخطأ عليه عند جماعة أصحابه .

16180 - وقال الثوري : الذي بلغنا وسمعنا أنها واجبة .

16181 - وقال الأوزاعي : كان ابن عباس يقول : إنها واجبة كوجوب الحج .

16182 - قال أبو عمر : المعروف من مذهب الثوري والأوزاعي إيجابها .

16183 - ومن حجة من لم يوجب العمرة أن الله ( عز وجل ) لم يوجب العمرة بنص مجتمع عليه ، ولا أوجبها رسوله في ثابت النقل عنه ، ولا اتفق المسلمون على إيجابها ; والفروض لا تجب إلا من هذه الوجوه أو من دليل منها لا مدفع فيه .

16184 - وحجة من أوجبها - وهم الأكثر - قوله - تعالى - : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) [ البقرة : 196 ] .

16185 - ومعنى أتموا عند من قال بذلك : أقيموا الحج والعمرة لله .

16186 - وقالوا : لما كان ( أقيموا ) في قوله - تعالى - : ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) [ ص: 243 ] [ النساء : 103 ] أي فأتموا الصلاة كان معنى ( أتموا ) : أقيموا .

16187 - وروى الثوري عن منصور ، والأعمش عن إبراهيم في حرف ابن مسعود : ( وأقيموا الحج والعمرة ) إلى ( البيت ) ، قال : الحج : المناسك كلها . والعمرة : الطواف والسعي .

16188 - ذكر ابن وهب ، عن مالك ، قال : العمرة سنة وليست بواجبة مثل الحج لكل شيء قدرا .

16189 - وذكر ابن وهب عن مالك أيضا ، قال : لا يعتمر في السنة إلا مرة كما لا يحج إلا مرة .

16190 - وقال أحمد ، وإسحاق : العمرة واجبة وتقضى منها المتعة .

16191 - وهو قول جماعة من السلف .

16192 - وروي عن عمر بن الخطاب ، قال : كتب الله عليكم الحج والعمرة .

16193 - وروي وجوب العمرة عن : علي ، وابن عباس ، وابن عمر .

16194 - وروى ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : والله إنها لقرينتها في كتاب الله ( عز وجل ) ، ( وأتموا الحج والعمرة لله ) [ البقرة : 196 ] .

16195 - وروى ابن جريج ، وأيوب ، وعبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : ليس أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إليهم السبيل .

[ ص: 244 ] 16196 - والآثار عمن ذكرنا كثيرة جدا .

16197 - وروي عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله ، ألا نخرج ونجاهد معك ، فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد ؟ قال : " لا ، إن لكن أحسن الجهاد ، حج البيت حج مبرور " .

16198 - ومعنى هذه الآية عند من لم يوجب العمرة فرضا وجوب إتمامها وإتمام الحج على من دخل فيها .

16199 - قالوا : ولا يقال : ( أتموا ) إلا لمن دخل في ذلك العمل .

16200 - واستدلوا على صحة هذا التأول بالإجماع على أن من دخل في حجة أو عمرة ضرورة كانت أو غير ضرورة متطوعا كان أو مؤديا فرضا ثم عرض له ما يفسده عليه أنه واجب عليه إتمام ذلك الحج وتلك العمرة والتمادي فيهما مع فسادهما حتى يتمهما ثم يقضي بعد بخلاف الصلاة .

16201 - وهذا الإجماع أولى بتأويل الآية إلى من ذهب إلى إيجاب العمرة لظاهر قوله - تعالى - : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) .

16202 - وفي تأويل الآية أيضا قولان آخران قد مضى ذكرهما في هذا الباب .

16203 - ومن حجة من لم يوجب العمرة حديث الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمرة : أواجبة هي ؟ قال : " لا . ولأن تعتمر خير لك " .

[ ص: 245 ] 16204 - وهذا لا حجة فيه عند أهل العلم بالحديث ; لانفراد الحاج به ، وما انفرد به فليس بحجة عندهم .

[ ص: 246 ] 16205 - وقد روى شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين ، قال : قلت : يا رسول الله إن أبي شيح كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ؟ قال : " فاحجج عن أبيك واعتمر " .

16206 - وهذا الحديث عندهم أصح من حديث الحجاج بن أرطأة .

16207 - وقد روى الثوري ، عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الحج واجب ، والعمرة تطوع " .

[ ص: 247 ] 16208 - وهذا منقطع ، ولا حجة فيه .

16209 - ومثله مما يعارضه حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم : " العمرة الحج الأصغر . . " .

16210 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أنه كان يحدث أنه لما نزلت ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) [ آل عمران : 97 ] ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما هي حج وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة . . والذي نفسي بيده لو قلت كل عام لوجبت .

[ ص: 248 ] 16211 - قال معمر : قال قتادة : العمرة واجبة .

16212 - قال : وأخبرنا ابن جريج ، عن ابن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

16213 - قال : وأخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، قال : سمعت ابن عباس : إنها لقرينتها في كتاب الله . ثم قرأ : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . [ البقرة : 196 ] .

16214 - قال : وأخبرني الثوري ، عن سعيد الجريري وسليمان التيمي ، عن حيان بن عمير ، عن عباس ، قال : العمرة واجبة .

16215 - قال : وأخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إليه سبيلا ، ومن زاد بعدهما شيئا فهو خير وتطوع .

16216 - قال : وأخبرني الثوري ومعمر ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : العمرة واجبة .

16217 - قال : وأخبرنا عبد الله بن أبي سليمان ، قال : سألت سعيد بن جبير عن العمرة : واجبة هي ؟ قال : نعم . فقال له نسير بن رومان : إن الشعبي يقول ليست واجبة . قال : كذب الشعبي ، إن الله - تعالى - يقول : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) [ البقرة : 196 ] .

[ ص: 249 ] 16218 - قال أبو عمر : قوله " كذب " هاهنا معناه غلط ، وهو معروف في اللغة ، وقد أتينا بشواهده في غير هذا الموضع .

16219 - قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان ، ولا بد منهما كما قال الله - تعالى - ( من استطاع إليه سبيلا ) حتى أهل بوادي قائلا إلا أهل مكة فإن عليهم حجة وليست عليهم عمرة من أجل أنهم أهل البيت يطوفون به ، وإنما العمرة من أجل الطواف .

16220 - قال أبو عمر : قول عطاء هذا بعيد من النظر ولو كانت العمرة ساقطة عن أهل مكة لسقطت عن الآفاق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية