الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
786 [ ص: 269 ] ( 24 ) باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد

748 - مالك ، عن أبي النضر ، مولى عمر بن عبيد الله التيمي ، عن نافع ، [ ص: 270 ] مولى أبي قتادة الأنصاري ، عن أبي قتادة ; أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة . تخلف مع أصحاب له محرمين . وهو غير محرم . فرأى حمارا وحشيا . فاستوى على فرسه . فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه . فأبوا عليه . فسألهم رمحه فأبوا . فأخذه . ثم شد على الحمار فقتله . فأكل منه بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بعضهم . فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سألوه عن ذلك . فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله " .

[ ص: 271 ] 749 - وعن زيد بن أسلم ، أن عطاء بن يسار أخبره عن أبي قتادة ، في الحمار الوحشي ، مثل حديث أبي النضر . إلا أن في حديث زيد بن أسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هل معكم من لحمه شيء " .

750 - وعن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء ، وهو محرم .

16310 - قال مالك : والصفيف القديد .


16311 - قال أبو عمر : يقال إن أبا قتادة كان وجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق البحر مخافة العدو فلذلك لم يكن محرما إذ اجتمع مع أصحابه ; لأن مخرجهم [ ص: 272 ] لم يكن واحدا ، وكان ذلك عام الحديبية ، أو بعده بعام عام القضية . وكان اصطياد أبي قتادة الحمار لنفسه لا لغيره ، والله أعلم .

16312 - وفي هذا الحديث من الفقه : أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده ، وصاده الحلال .

16313 - وفي ذلك دليل في قوله - عز وجل - ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) [ المائدة : 96 ] معناه : الاصطياد .

16314 - وقيل : الصيد ، وأكله لمن صاده . وأما من لم يصده فليس ممن عني بالآية .

[ ص: 273 ] 16315 - ويبين ذلك قوله - تعالى - : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ) [ المائدة : 95 ] ; لأن هذه الآية إنما نهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير .

16316 - وهذا باب اختلف فيه الخلف والسلف .

16317 - فكان عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : يرون للمحرم أكل كل ما صاده الحلال من الصيد الذي يحل للحلال أكله .

16318 - وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه .

16319 - وهو قول عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وأبي هريرة ، وكعب الأحبار .

[ ص: 274 ] 16320 - واحتجوا بحديث أبي قتادة هذا ، وبحديث البهزي وبحديث طلحة بن عبيد الله .

16321 - ذكره السندي ، قال : حدثنا كعب بن علي ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : حدثنا محمد بن المنكدر ، عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي ، عن أبيه ، قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن محرمون ، فأهدي لنا طير وهو راقد ، فأكل بعضنا ، فاستيقظ طلحة ، وفق من أكله ، وقال : أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

16322 - وأما قول عمر ففي الموطأ ذكره عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أنه أفتى الركب المحرمين بأكل صيد وجدوه بالربذة ، ثم قدم المدينة ، فذكره لعمر ، فقال له : لو أفتيتهم بغير ذلك لفعلت بك . يتواعده .

[ ص: 275 ] 16323 - وهذا من عمر لا يكون إلا عن بصيرة قوية عنده في جواز أكل لحم الصيد المحرم إذا صاده الحلال .

16324 - ومثل هذا حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبي هريرة بمعنى ما تقدم سواء .

16325 - ومثله حديث مالك في هذا الباب عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عمر وكعب . . ، إلا أن في حديث زيد بن أسلم قصة الجراد نذكرها في آخر هذا الباب إن شاء الله .

16326 - وقال آخرون : لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال ولا يجوز لمحرم أكل صيد ألبتة على ظاهر عموم قوله - عز وجل - ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) [ المائدة : 96 ] .

16327 - قال ابن عباس : هي مبهمة .

16328 - وكذلك كان علي بن أبي طالب ، وابن عمر لا يريان أكل الصيد للمحرم ما دام محرما .

16329 - وكره ذلك طاوس ، وجابر بن زيد .

[ ص: 276 ] 16330 - وروي عن زيد ، وروي عن الثوري ، وإسحاق مثل ذلك .

16331 - وحجة من ذهب إلى هذا حديث ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش بالأبواء أو بودان ، فرده عليه ، وقال : " لم نرده عليك إلا أنا حرم " ; فلم يعتل بغير الإحرام ، وأطلق من أجله تحريم أكل الصيد لم يقيده بشيء ، وسيأتي القول في معنى هذا الحديث في الباب بعد هذا - إن شاء الله - .

16332 - ومن حجتهم أيضا : حديث زيد بن أرقم : أن ابن عباس قال له : يا زيد : أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدي له صيد فلم يقبله ؟ وقال : إنا حرم . قال : نعم .

16333 - وحديث علي بن أبي طالب في معناه .

[ ص: 277 ] 16334 - وقد ذكرناها كلها في " التمهيد " .

16335 - وقال آخرون : ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله . وما لم يصد له ولا من أجله فلا بأس للمحرم بأكله ، وهو الصحيح عن عثمان في هذا الباب .

16336 - وبه قال مالك . والشافعي وأصحابهما ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .

16337 - وروي أيضا عن عطاء مثل ذلك .

16338 - وحجة من ذهب هذا المذهب أنه عليه تتفق الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكل الصيد مع ظاهر تضادها ، وأنها إذا حملت على ذلك لم تتضاد ولا تدافعت ، وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ، ولا يعارض بعضها بعضا ، ما وجد إلى استعمال ذلك سبيل .

16339 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - معنى ذلك .

16340 - حدثني عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا ابن وهب ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو مولى بني المطلب أنه أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم " .

[ ص: 278 ] 16341 - وحدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثني ابن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن عمرو مولى المطلب ، عن جابر ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " صيد البر لكم حلال ما لم يصيدوه أو يصد لكم " .

16342 - قال أبو عمر : في حديث أبي قتادة المذكور في أول الباب أنه لما استوى على فرسه سأل أصحابه أن يناولوه سوطه أو رمحه ، فأبوا .

16343 - وفي هذا دليل على أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له وهذا إجماع من العلماء .

16344 - واختلفوا في المحرم يدل المحرم أو الحلال على الصيد فيقتله .

16345 - فأما إذا دل المحرم الحلال على الصيد ، فقال مالك ، والشافعي وأصحابهما : [ ص: 279 ] يكره له ذلك ولا جزاء عليه .

16346 - وهو قول أبي ثور .

16347 : وقال المزني : جائز أن يدل المحرم الحلال على الصيد .

16348 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليه الجزاء .

16349 - قال أبو حنيفة : ولو دله في الحرم لم يكن عليه الجزاء .

16350 - وقال زفر : عليه الجزاء في الحل دله عليه أو الحرم .

16351 - وبه قال أحمد ، وإسحاق .

16352 - وهو قول علي ، وابن عباس ، وعطاء .

16353 - واختلفوا أيضا فيما يجب على المحرم يدل المحرم على الصيد فيقتله .

16354 - فقال قوم : عليهما كفارة واحدة ، منهم عطاء ، وحماد بن أبي سليمان .

16355 - وقال آخرون : على كل واحد منهما كفارة .

16356 - وروي ذلك عن سعيد بن جبير ، والشعبي ، والحارث العكلي .

16357 - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .

16358 - وقال الشافعي ، وأبو ثور : لا جزاء إلا على القاتل وحده .

16359 - واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد .

16360 - فقال مالك : إذا قتل جماعة محرمون صيدا ، أو جماعة محلون في الحرم صيدا فعلى كل واحد منهما جزاء كامل .

16361 - وبه قال الثوري ، والحسن بن حي ، وهو قول الحسن البصري ، والشعبي ، [ ص: 280 ] والنخعي ورواية عن عطاء .

16362 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهما جزاء كامل ، وإن قتل جماعة محلون صيدا في الحرم فعلى جماعتهم جزاء واحد .

16363 - وقال الشافعي على كل : عليهم كلهم جزاء واحد ، وسواء كانوا محلين أو محرمين في الحرم .

16364 - وهو قول عطاء ، والزهري ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وأبو ثور .

16365 - وروي عن عمر ، وعبد الرحمن بن عوف : أنهما حكما على رجلين أصابا ظبيا بشاة .

16366 - قال أبو عمر من جعل على كل واحد منهم الجزاء قاسه على الكفارة في قتل النفس ; لأنهم لا يختلفون في وجوب الكفارة على كل واحد من القاتلين في قتل النفس خطأ كفارة كاملة .

16367 - ومن جعل فيه جزاء واحدا قاسه على الدية ، ولا يختلفون على أنه فيمن قتل نفسا خطأ - وإن كانوا جماعة - إنما عليهم دية واحدة يشتركون فيها .

16368 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة هذا ما يدل على أن المحرم المشير لا يجوز له أكل ما أشار بقتله إلى الحلال .

16369 - أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمود بن غيلان ، قال : أخبرنا أبو داود ، قال : أخبرنا شعبة ، قال : أخبرنا عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه : أنهم كانوا في [ ص: 281 ] مسير لهم بعضهم محرم ، وبعضهم ليس بمحرم ، قال : فرأيت حمار وحش فركبت فرسي ، وأخذت الرمح فاستعنتهم ، فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطا من بعضهم فشددت على الحمار فأصبته ; فأكلوا منه فأشفقوا ، وقال فسئل النبي ( عليه السلام ) ، فقال : هل أشرتم أو أعنتم ؟ ، قالوا : لا ، قال : فكلوا .

16370 - وأما حديث مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن الزبير كان يتزود صفيف الظباء في الإحرام فذلك لأنه كان ذلك اللحم الذي جعله صفيفا وتزوده قد ملكه قبل الإحرام فجاز له أكله قبل الإحرام .

16371 - ومذهبه في ذلك مذهب من لا يحرم على المحرم من الصيد ما قتله أو اصطاده دون أكله من صيد الحلال وهو معنى هذا الباب ، وكذلك أدخله فيه مالك .

16372 - والعلماء مجمعون على أن قتل المحرم للصيد حرام وعليه جزاؤه ، وأكله عليه حرام .

16373 - وهم مختلفون فيما صاده الحلال هل يحل للمحرم أكله ، على أقوال .

1637 - ( أحدها ) : أن أكل الصيد حرام على المحرم بكل حال ، على ظاهر قول الله - عز وجل - : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) [ المائدة : 96 ] لم يخص أكلا من قتل .

[ ص: 282 ] 16374 م - ( والثاني ) : أن ما صاده الحلال جاز لمن كان حلالا في حين اصطياده محرما دون من كان محرما من ذلك الوقت وقت اصطياده .

16375 - ( والثالث ) : أن ما صيد لمحرم بعينه جاز لغيره من المحرمين أكله ولم يجز ذلك له وحده .

16376 - ( والرابع ) : أن ما صيد لمحرم لم يجز له ولا لغيره من المحرمين أكله .

16377 - هذه المسألة في الباب بعد هذا إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية