الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
792 754 - وأما قوله في حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : ثم كما كانوا ببعض طريق مكة قرت بهم رجل من جراد ، فأفتاهم كعب أن يأخذوه فيأكلوه ، فلما قدموا على عمر بن الخطاب ذكروا له ذلك . فقال له : ما حملك على أن تفتيهم بهذا ؟ قال : هو من صيد البحر . قال : وما يدريك ؟ قال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره في كل عام مرتين .


16413 - قال أبو عمر : أما صيد البحر ، فحلال للمحرم والحلال بنص الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وإنما اختلفوا فيما وجد فيه طافيا ، وكذلك اختلفوا في غير السمك منه .

16414 - وسيأتي القول بما للعلماء من المذاهب في كتاب الصيد إن شاء الله .

16415 - فإن كان الجراد نثرة حوت كما ذكر كعب فحلال للمحرم وغير المحرم أكله .

16416 - وما ذكره كعب لم يوقف له على صحة ولم يكذبه في ذلك عمر ولا رد عليه قوله ولا صدقه فيه ; لأنه خشي أن يكون عنده فيه علم من التوراة .

16417 - وهي السنة فيما حدث به أهل الكتاب عن كتابهم ألا يصدقوا ولا يكذبوا ; [ ص: 289 ] لئلا يكذبوا في حق جاءوا به أو يصدقوا في باطل اختلفوا في دليله ; لأن عندهم الحق في التوراة وعندهم الباطل فيما حرفوه عن مواضعه وكتبوه بأيديهم ، وقالوا : هو من عند الله . وما هو من عند الله .

16418 - وقد أفردنا لهذا المعنى بابا كافيا في كتاب العلم والحمد لله .

16419 - وفي إنكار عمر على كعب ما أفتى به المحرمين من أكل الجراد ثم كفه عنه إذ أعلمه بما أعلمه به مما جرى في هذا الباب ذكره دليل على أن العالم لا يجب له نفي شيء ولا إثباته إلا بعلم صحيح قد وقف عليه من كتاب أو سنة أو ما كان في معناهما .

16420 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يحتج به أن الجراد من صيد البحر . رواه حماد بن زيد عن ميمون بن جابان ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الجراد من صيد البحر " .

16421 - وقد اختلف في هذا الحديث على حماد بن زيد ، ومن رواية من جعله من قول أبي هريرة ، وهو أشبه بالصواب .

16422 - وقد روي عن علي من وجه ضعيف أيضا : أنه سئل عن الجراد ؟ [ ص: 290 ] فقال : هو من صيد البحر .

16423 - وروي عن عروة بن الزبير في هذا المعنى نحو ما روي عن كعب ، رواه حماد بن زيد ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال في الجراد : نثرة حوت .

16424 - ذكره الساجي عن يحيى بن حبيب بن عدي ، عن حماد بن زيد .

16425 - ولم أدر ما معنى رواية مالك في " الموطأ " عن كعب في قوله في الجراد : " والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره في كل عام مرتين " ; لأنه قد جاء عن كعب في ذلك ما هو أشبه بما في أيدي أهل العلم .

16426 - ذكر الساجي ، قال : حدثنا بندار ، قال : حدثني يحيى - يعني القطان - قال : حدثنا سالم بن هلال ، قال : حدثنا أبو الصديق الناجي أنه حج مع أبي سعيد الخدري هو وكعب ، فجاء رجل جرادة فجعل كعب يضربها بسوطه ; فقلت : يا أبا إسحاق : ألست محرما ؟ قال : بلى . ولكنه من صيد البحر خرج أوله من منخر حوت .

16427 - قال أبو عمر : ففي هذا الخبر أن أول خلق الجراد كان من منخر حوت لا أنه اليوم مخلوق من نثرة حوت ; لأن المشاهدة تدفع ذلك .

16428 - ويعضد هذا عن كعب ما ذكره مالك ، عن يحيى بن سعيد أن عمر إذ حكم كعب في الجراد حكم فيها بدرهم فقال له عمر : " إنك لتجد الدراهم [ ص: 291 ] لتمرة خير من جرادة " . ولو كان عنده من صيد البحر ما حكم فيه بشيء .

16429 - وجاء عن كعب أنه رأى في الجراد القيمة : " درهم في الجرادة " . من غير هذا الوجه أيضا .

16430 - ذكره الساجي ، قال : حدثنا الربيع ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : أخبرنا سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن يوسف بن ماهك ، أن عبد الله بن أبي عمار أخبره أنه أقبل مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في ناس محرمين وأن كعب أخذ جرادتين ونسي إحرامه ، ثم ذكر إحرامه فألقاهما ، فدخلوا على عمر بن الخطاب ، فقص عليه كعب قصة الجرادتين ; فقال عمر : ومن يدلك لعلمك بذلك يا كعب ؟ قال : نعم . قال : إن حمير تحب الجراد . قال : ما جعلت في نفسك ؟ قال : درهمين ، فقال عمر : بخ درهمان خير من مائة جرادة : اجعل ما جعلت في نفسك .

16431 - قال أبو عمر : لا يصح في الجراد أنه من صيد البحر . إلا عن ابن عباس ، ولا عن من يجب بقوله حجة ، ولم يعرج العلماء ولا جماعة الفقهاء على ذلك .

[ ص: 292 ] 16432 - ذكر الساجي ، قال : حدثنا أحمد بن أبان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال ابن جريج عن عطاء : قلت لابن عباس : ما تقول في صيد الجراد في الحرم ؟ قال : لا يصح . قلت : إن قوما والله يأخذونه . قال : إنهم والله لا يعلمون .

16433 - قال الساجي : وحدثنا أحمد بن أبان ، قال : حدثني سفيان ، عن ابن جريج ، عن بكير ، عن القاسم ، قال : سئل ابن عباس عن رجل أصاب جرادات وهو محرم ؟ قال : فيهن قبض قبضات من طعام وإني لآخذ بقبضة جرادات .

16434 - وهو قول عطاء والجماعة من العلماء .

16435 - واختلفوا فيما يجب على المحرم في الجرادة إذا قتلها ، وسيأتي ذكر ذلك في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله .

16436 - وقال ابن وهب عنه : في الجرادة قبضة ، وفي الجرادات أيضا قبضة .

16437 - قال أبو عمر : كأنه يقول ما دون قبضة من الطعام فلا قدر له .

16438 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : تمر خير من جرادة .

16439 - وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس .

16440 - وفي هذا الباب .

سئل مالك عما يوجد من لحوم الصيد على الطريق : هل يبتاعه المحرم ؟ فقال : أما ما كان من ذلك يعترض به الحجاج ، ومن أجلهم صيد ، فإني أكرهه . وأنهى [ ص: 293 ] عنه ، فأما أن يكون عند رجل لم يرد به المحرمين ، فوجده محرم ، فابتاعه . فلا بأس به .

16441 - قال أبو عمر : وقد مضى ما للعلماء في معنى ما صيد من أجل المحرم مجملا ، ونزيده هنا بيانا بأقوالهم حتى يتبين لك مذاهبهم في ذلك إن شاء الله .

16442 - فمن ذلك قول مالك هنا : أما ما كان من ذلك يعترض الحاج ومن أجلهم صيد فإني أكرهه وأنهى عنه إلى آخر قوله ، ولم يختلف قوله في المحرم يأكل من صيد يعلم أنه قد اصطيد من أجله أن عليه جزاء ذلك الصيد .

16443 - وقال أشهب : سألت مالكا عما صيد لرجل بعينه من المحرمين فقال : لا أحب لأحد من المحرمين ولا من المحلين أكله .

16444 - قال : وما صيد من أجل محرم أو ذبح من أجله من الصيد فلا يحل لمحرم ، ولا لحلال أكله .

16445 - قال : وسئل عما صيد لمحرمين ؟ فقال : ما صيد قبل إحرامهم فلا بأس به ، وما صيد بعد إحرامهم فلا يأكلوه .

16446 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا بأس على المحرم أن يأكل من لحم الصيد ؛ حلال للمحرم ما لم يصده أو يصد له .

16447 - وبه قال أبو ثور .

16448 - وفي هذا الباب : قال مالك ، فيمن أحرم وعنده صيد قد صاده أو ابتاعه : فليس عليه أن يرسله ، ولا بأس أن يجعله عند أهله .

[ ص: 294 ] 16449 - هكذا هذه المسألة في " الموطأ " عند يحيى وطائفة من رواة الموطأ ، وزاد فيها ابن وهب وطائفة عنه أيضا في " الموطأ " قال مالك : من أحرم وعنده شيء من الصيد قد استأنس ودجن ، فليس عليه أن يرسله فلا شيء عليه إن تركه في أهله .

16450 - قال ابن وهب : وسألت مالكا عن الحلال يصيد الصيد أو يشتريه ثم يحرم وهو معه في قفص ؟ فقال مالك : يرسله بعد أن يحرم ولا يمسكه بعد إحرامه .

16451 - وقال الأوزاعي ، وأبو حنيفة وأصحابه : إذا أحرم وفي يده أو معه شيء من الصيد فعليه إرساله . قالوا : ولو كان الصيد في بيته لم يكن عليه إرساله ، كائن ما كان .

16452 - وقال الشافعي : ليس على من ملك صيدا قبل الإحرام ثم أحرم وهو في يده أن يرسله .

16453 - وبه قال أبو ثور ; لأنه في حكم ما دجن من الصيد .

16454 - والحجة لكل واحد من هؤلاء بينت لما قدمنا من الأصول .

16455 - فتحصيل قول مالك أنه كان عنده الصيد في حين إحرامه أرسله من يده وإن كان لأهله فلا شيء عليه .

16456 - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وبه قال أحمد بن حنبل .

16457 - وقال ابن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح : سواء كان في يده أو في بيته عليه أن يرسله ، فإن لم يفعل ضمن .

[ ص: 295 ] 16458 - وهو أحد قولي الشافعي .

16459 - وللشافعي قول آخر : أنه لا يرسله كان في يده أو في أهله .

16460 - وبه قال أبو ثور ، وهو قول مجاهد ، وعبد الله بن الحارث .

16461 - وقال مالك : في صيد الحيتان في البحر والأنهار والبرك وما أشبه ذلك ، إنه حلال للمحرم أن يصطاده .

16462 - قال أبو عمر : هذا ما لا خلاف فيه لقول الله - عز وجل - : ( أحل لكم صيد البحر ) [ المائدة : 96 ] والبحر كل ماء مجتمع على ملح أو عذب .

16463 - قال الله - عز وجل - : ( وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ) [ فاطر : 12 ] .

16464 - وكل ما كان أغلب عيشه في الماء فهو من صيد البحر ، ويأتي هذا الباب في كتاب الصيد إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية