الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
794 756 - مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الرحمن بن عامر بن ربيعة قال : رأيت عثمان بن عفان بالعرج ، وهو محرم ، في يوم صائف . قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان . ثم أتي بلحم صيد ، فقال لأصحابه : كلوا . فقالوا : أو لا تأكل أنت ؟ فقال : إني لست كهيئتكم . إنما صيد من أجلي .

757 - وعن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين ; أنها قالت له : يا ابن أختي . إنما هي عشر ليال ، فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ; تعني أكل لحم الصيد .

[ ص: 306 ] 16510 - قال مالك : في الرجل المحرم يصاد من أجله صيد فيصنع له ذلك الصيد ، فيأكل منه وهو يعلم ، أنه من أجله صيد . فإن عليه جزاء ذلك الصيد كله .


16511 - قال أبو عمر : أما حديث عثمان ففيه من الفقه أنه لا بأس على المحرم في اليوم الشديد الحر أن يغطي وجهه ، فإن الله تعالى غني عن تعذيب المؤمن نفسه .

16512 - وقد تأول قوم في ذلك على عثمان أنه قال كان مذهبه أن إحرام المحرم في رأسه دون وجهه . وقد ذهب إلى ذلك قوم ، وقد تقدم ذكر هذه المسألة في بابها من هذا الكتاب .

16513 - وقد يحتمل أن يكون عثمان قد اقتدى بفعله ذلك على مذهب ابن عمر ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم .

16514 - ولكن الظاهر من مذهبه أن إحرام المحرم في رأسه دون وجهه .

16515 - وفيه أن من وسع الله عليه وسع على نفسه في الملبس وغيره ، إن الله - عز وجل - يحب أن يرى أثر نعمته على عبده إذا أنعم بها عليه ، وهذا ثابت المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

16516 - وقد يحتمل أن يكون لباسه الأرجوان ; لأنه صوف ، والأرجوان الشديد الحمرة .

16517 - قال أبو عبيد : ولا يقال لغير الحمرة أرجوان .

[ ص: 307 ] 16518 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا نلبس الأرجوان " .

16519 - وعن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن لبسه .

16520 - وقد ذكرنا الأحاديث بذلك في موضعها من هذا الكتاب ، وذكرنا ما يعارضها واختلاف العلماء في معناها هناك ، والحمد لله .

[ ص: 308 ] 16521 - وأما قوله لأصحابه في لحم الصيد : " كلوا فإني لست كهيئتكم ; إنه صيد من أجلي " ، فقد مضى هذا المعنى .

16522 - وقال أشهب ، عن مالك : أنه سئل عن معنى قول عثمان " إنما صيد من أجلي " ؟ فقال : إنما ذلك من أجل أنه صيد له بعد أن أحرم . ، فأما ما صيد من أجل محرم أو محرمين ، وذبح قبل الإحرام فلا بأس له ، إنما مثل ذلك مثل رجل صاد هاهنا صيدا فذبحه وحمل لحمه معه ، ثم أحرم .

16523 - وأما قول عائشة لعروة : " إنما هي عشر ليال " تعني أيام الحج ، فإنها خاطبت بهذا من كان إحرامه قبل يوم التروية أن يكف عن أكل لحم الصيد جملة ، فما صاده الحلال من أجله أو من أجل غيره ، ليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ، ويترك ما شك فيه وحاك في صدره .

16524 - وأما قول مالك : ما على المحرم إذا أكل من صيد صيد من أجله جزاؤه كله . فإن العلماء في ذلك مذاهب منها ما قاله مالك أنه يجزئ الصيد كله إذا أكل منه . ومنه أنه لا يجزئ منه إلا مقدار ما أكل . وقول ثالث : أنه ليس عليه جزاؤه لأنه أكل صيدا حلال أكله لصائده . وإنما حرم الله على المحرم قتل الصيد لا أكله .

16525 - هذا على مذهب عمر بن الخطاب وأبي هريرة ، والزبير ، وكعب ، ومن تابعهم على ذلك على ما ذكرناه عنهم .

16526 - واختلف قول الشافعي في ذلك ، فمرة قال : من أكل من صيد صاده حلال من أجله أنه يفدي ما أكل منه .

[ ص: 309 ] 16527 - ومرة قال : لا شيء عليه ، وهو قول أبي ثور .

16528 - وهو الذي ذكره المزني عن الشافعي في المحرم يأكل من صيد صيد من أجله مما قد ذبحه حلال أو صاده أنه لا جزاء عليه فيما أكل منه ، لأن الله - تعالى - إنما جعل الجزاء على من قتل الصيد . وهذا لم يقتله وليس من أكل محرما يكون عليه جزاء .

16529 - ولم يختلف قوله أن المحرم ممنوع من كل ما صيد من أجله ، واختلف قوله في وجوب الجزاء عليه إن أكل منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية