الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
813 [ ص: 107 ] ( 33 ) باب ما جاء في بناء الكعبة

776 - مالك عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ; أن عبد الله [ ص: 108 ] ابن محمد بن أبي بكر الصديق ، أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة ، اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " قالت فقلت : يا رسول الله . أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت " قال : فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين ، اللذين يليان الحجر ، [ ص: 109 ] إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم .

777 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عائشة - أم المؤمنين - قالت : لا أبالي : أصليت في الحجر أم في البيت .

778 - مالك أنه سمع ابن شهاب يقول : سمعت بعض علمائنا يقول : ما حجر الحجر ، فطاف الناس من ورائه ، إلا إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت كله .


[ ص: 110 ] 17005 - قال أبو عمر : أما حديث عائشة المسند في أول هذا الباب فيه وجوب معرفة بناء قريش للكعبة ، وأن بنيانهم لها لم يتم على قواعد إبراهيم .

17006 - والقواعد : أسس البيت . واحدتها قاعدة : عند أهل اللغة .

17007 - قالوا : والواحدة من النساء اللاتي قعدت عن الولادة قاعد - بغير هاء - والجمع فيهما جميعا قواعد .

17008 - قال الله ، عز وجل : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت [ البقرة : 127 ] .

17009 - قال : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا [ النور : 60 ] .

17010 - وقد ذكرنا بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت ، ومن بناه أيضا قبلهما على حساب ما روي قبل ذلك .

17011 - فقد قيل : آدم أول من أمر ببنيانه .

17012 - وقيل : بل شيث بن آدم ، وقد ذكرنا هذا هناك .

[ ص: 111 ] [ ص: 112 ] 17013 - ونذكر هاهنا بنيان قريش له خاصة ، وهم القوم الذين ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله لعائشة : ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم .

17014 - وفي هذا الحديث أيضا حديث الرجل مع أهله في باب العلم وغيره من أيام الناس ، وغير ذلك من معاني الفقه .

17015 - وفيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر ، وذلك - والله أعلم - لأنهما كسائر حيطان البيت التي لا تستلم ، لأنهما ليسا بركنين على حقيقة بناء إبراهيم ، عليه السلام .

17016 - وأما بنيان قريش للبيت الحرام فلا خلاف في ذلك ، وقد اختلف [ ص: 113 ] في تاريخ بنائهم له : 17017 - فذكر موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال : كان بين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة .

17018 - وذكر ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن ابن الأسود محمد بن عبد الرحمن ، قال : إن الله - عز وجل - بعث محمدا على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة . 17019 - وقال محمد بن جبير بن مطعم : بني البيت بعد خمس وعشرين سنة بعد الفيل .

17020 - وقال ابن إسحاق : على رأس خمس وثلاثين سنة .

17021 - وقد ذكرنا الآثار عن هؤلاء كلهم في التمهيد .

17022 - وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كان البيت عريشا تقتحمه العنز حتى إذا كان قبل مبعث رسول الله بخمس عشرة سنة بنته قريش .

17023 - وعن معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل ، قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدد ، وكانت قدر ما [ ص: 114 ] تقتحمها العناق ، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا ، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا ، وكانت ذات ركنين هيئة هذه الحلقة ، فأقبلت سفينة من الروم تريد الحبشة ، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت السفينة ، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها ، فوجدوا روميا عندها ، فأخذوا الخشب وقدموا بالرومي ، فقالت قريش : نبني بهذا الخشب بيت ربنا ، فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز ، سوداء الظهر ، بيضاء البطن ، فجعلت كلما أتى أحد إلى البيت ليهدمه أو يأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها ، فاجتمعت قريش عند المقام ، فعجوا إلى الله تعالى ، فقالوا : ربنا لم ترع ، أردنا تشريف بيتك وتزينه ، فإن كنت ترضى بذلك ، وإلا فما بدا لك فافعل . فسمعوا خواتا في السماء - يعني صوتا ورجة - فإذا هم بطائر - أعظم من النسر أسود الظهر أبيض البطن والرجلين فغرز مخالبه في قفا الحية ، فانطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد فهدمتها قريش ، وجعلوا يبنونها بالحجارة حجارة الوادي ، تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا ، فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ضاقت عليه النمرة ، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة ، فنودي : يا محمد ! خمر عورتك . فلم ير عريانا بعد ذلك .

[ ص: 115 ] وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين ، وبين مخرجه من مكة وبنيانها خمس عشرة سنة .

فلما جيش الحصين بن نمير ، فذكر حريقها في زمن ابن الزبير ، فقال ابن الزبير : إن عائشة أخبرتني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة ، فإنهم تركوا منها سبعة أذرع في الحجر . ضاقت بهم النفقة والخشب "
.

قال ابن خثيم : فأخبرني ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، أنها سمعت ذلك من رسول الله . قالت : وقال النبي ، عليه السلام : " وجعلت له بابين شرقيا وغربيا يزحفون من هذا ويخرجون من هذا " ; ففعل ذلك ابن الزبير .

وكانت قريش قد جعلت لها درجا يرقى عليها من يأتيها ، فجعلها ابن الزبير لاصقة بالأرض .

قال ابن خثيم : وأخبرني ابن سابط ، أن زيدا أخبره أنه لما بناها ابن الزبير كشفوا عن القواعد ، إذا الحجر مثل الخلقة ، والحجارة مشتبكة بعضها ببعض ، إذا حركت بالعتلة تحرك الذي بالناحية الأخرى .

قال ابن سابط : فأراني ذلك ليلا بعد العشاء في ليلة مقمرة ، فرأيتها أمثال الخلف متشبكة أطراف بعضها ببعض .

[ ص: 116 ] 17024 - قال معمر : وأخبرني الزهري ، قال : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلم أجمرت امرأة الكعبة ، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة ، فاحترقت ، فتشاورت قريش في هدمها وهابوا هدمها ; فقال لهم الوليد بن المغيرة : ما تريدون بهذا الإصلاح أم الفساد ؟ فقالوا : الإصلاح . قال : فإن الله تعالى لا يهلك المصلح . قالوا فمن الذي يعلوها ؟ قال الوليد بن المغيرة : أنا أعلوها فأهدمها ، فارتقى الوليد بن المغيرة على ظهر البيت ومعه الفأس ، فقال : اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح . ثم هدم . فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتها ما خافوا من العذاب هدموا معه ، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن : أي القبائل تلي رفعه ؟ حتى : كاد يشجر بينهم ، فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة ، فاصطلحوا على ذلك ، فاطلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام عليه وشاح نمرة ، فحكموه ، فأمر بالركن فوضع في ثوب ، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاها ناحية من الثوب ، ثم ارتقى إليه الركن ، فكان هو يضعه ، صلى الله عليه وسلم .

17025 - وذكر ابن جريج ، عن مجاهد معنى حديث أبي الطفيل المتقدم ذكره ، ومعنى حديث الزهري هذا وحديثهما أكمل وأتم .

17026 - وفي هذا الباب حديث تفرد به إبراهيم بن طهمان عن مالك ، [ ص: 117 ] عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " لقد هممت أن أهدم الكعبة ، وأبنيها على قواعد إبراهيم ، وأجعل لها بابين ، وأسويها بالأرض ، فإنهم إنما رفعوها أن لا يدخلها إلا من أحبوا " .

17027 - وروينا أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير لما جاء في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتثله ابن الزبير ; فقال له مالك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين : أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه ; فتذهب هيبته من صدور الناس .

[ ص: 118 ] 17028 - قال أبو عمر : في حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم في هذا الباب دليل على أن الحجر من البيت ، وإذا صح ذلك فواجب إدخاله في الطواف .

17029 - وأجمع العلماء أن كل من طاف بالبيت لزمه أن يدخل الحجر في طوافه .

17030 - واختلفوا فيمن لم يدخل الحجر في طوافه : فالذي عليه جمهور أهل العلم أن ذلك لا يجزئ ، وأن فاعل ذلك في حكم من لم يطف الطواف كاملا ، وأن من لم يطف الطواف الواجب كاملا يرجع من طوافه حتى يطوفه . وهو طواف الإفاضة .

17031 - قال ذلك الشافعي وأحمد ، وأبو ثور . وداود .

17032 - وهو قول ابن عباس ، وعطاء .

17033 - وكان ابن عباس يقول : الحجر من البيت ، وليطوفوا بالبيت العتيق [ الحج : 29 ] .

17034 - ويقول : طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجر .

17035 - قال مالك ، والشافعي ، ومن وافقهما : من لم يدخل الحجر [ ص: 119 ] في طوافه ولم يطف من ورائه ، شوطا أو شوطين أو أكثر ، ألغى ذلك وبنى على ما كان طاف طوافا كاملا قبل أن يسلك في الحجر ، ولا يعتد بما يسلك في الحجر .

7036 - وقال أبو حنيفة : من سلك في الحجر ولم يطف من ورائه - وذكر ذلك وهو بمكة - أعاد الطواف ، فإن كان شوطا قضاه ، وإن كان أكثر قضى ما بقي عليه من ذلك ، فإن خرج من مكة وانصرف إلى الكوفة ، فعليه دم وحجة تام .

17037 - وروي عن الحسن البصري نحو ذلك ، قال : من فعل ذلك فعليه الإعادة فإن حل أهراق دما .

[ ص: 120 ] 17038 - وأما حديثه عن هشام بن عروة ، عن أمه ، عن عائشة أنها قالت : ( ما أبالي أصليت في الحجر أم في البيت ، فليس فيه أمر من أن الحجر من البيت ، وأن من صلى فيه كمن صلى في البيت ، وسنذكر اختلاف العلماء في الصلاة في البيت في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله .

17039 - وقد اختلف العلماء في صلاة ركعتي الطواف في الحجر فأكثر العلماء على أن ذلك جائز لا بأس به .

17039 - وهو مذهب عطاء .

17040 - وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي .

17041 - وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن الزبير ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم .

17042 - وكل هؤلاء يرى الصلاة في البيت جائزة نافلة وفريضة ، وإن كان منهم من يستحب أن تصلى الفريضة خارج البيت والنافلة أيضا .

[ ص: 121 ] 17043 - وقال مالك : لا يصلي أحد صلاة واجبة في البيت ولا في الحجر .

17044 - قال : ومن ركع ركعتي الطواف الواجب في الحجر أعاد الطواف والسعي ضمن الصفا والمروة ، وإن لم يركعهما حتى بلغ بلده أهراق دما ولا إعادة عليه .

17045 - وأما قول ابن شهاب عن بعض علمائهم فإنما فيه الشهادة بأن الحجر من البيت ، وأنه من لم يطف به من ورائه لم يستكمل الطواف بالبيت . ولا خلاف عليه بين العلماء أنه من لم يدخل الحجر في طوافه لا يجزيه ذلك الطواف ما دام بمكة ، لأنه لم يستوعب الطواف بالبيت .

17546 - واختلفوا : هل ينوب عنه الدم لمن رجع إلى بلاده أم لا بد له من الرجوع إليه على ما ذكرناه ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية