الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
816 [ ص: 122 ] ( 34 ) باب الرمل في الطواف

779 - مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ; أنه قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ، ثلاثة أطواف .

[ ص: 123 ] 17047 - قال مالك : وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا .

780 - مالك ، عن نافع ; أن عبد الله بن عمر كان يرمل من الحجر الأسود ، إلى الحجر الأسود ، ثلاثة أطواف ، ويمشي أربعة أطواف .

781 - مالك ، عن هشام بن عروة ؟ أن أباه كان إذا طاف بالبيت ، يسعى الأشواط الثلاثة . يقول :

اللهم لا إله إلا أنتا وأنت تحيي بعدما أمتا

يخفض صوته بذلك

782 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم .

قال ثم رأيته يسعى حول البيت الأشواط الثلاثة .

783 - مالك ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة ، حتى يرجع من منى ، وكان لا [ ص: 124 ] يرمل إذا طاف حول البيت ، إذا أحرم من مكة .


17048 - قال أبو عمر : لا أعلم خلافا أن الرمل - وهو الحركة والزيادة في المشي - لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من السبعة في طواف دخول مكة ، خاصة للقادم الحاج أو المعتمر .

17049 - وفي هذا الحديث دليل على أن الطائف يبتدئ طوافه من الحجر ، وهذا ما لا خلاف فيه أيضا .

17050 - وروى ابن وهب عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقدم مكة يستلم الركن أول ما يطوف .

17051 - قال أبو عمر : إذا بدأ من الحجر مضى على يمينه ، وجعل البيت عن يساره ، وذلك أن الداخل من باب بني شيبة أو غيره أول ما يبتدئ به أن يأتي الحجر . يقصده فيقبله إن استطاع أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه ، فإن لم يقدر قام بحذائه ، فكبر ، ثم أخذ في طوافه ، ثم يمضي على يمينه كما وصفت لك على باب الكعبة إلى الركن الذي لا يستلم ، ثم الذي يليه مثله ، ثم الركن الثالث ، وهو اليماني الذي يستلم ، وهو يلي الأسود ، ثم إلى ركن الحجر الأسود .

17052 - هذا حكم كل طواف واجب وغير واجب ، وهذه طوفة واحدة ، يفعل ذلك ثلاثة أطواف ، يرمل فيها . ثم أربعة مثلها لا يرمل فيها إذا كان هذا كله في طواف الدخول .

[ ص: 125 ] 17053 - وهذا كله إجماع من العلماء أنه من فعل هكذا فقد فعل ما ينبغي .

فإن لم يطف كما وصفنا وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه ولم يجزه ذلك الطواف عندنا .

17054 - واختلف الفقهاء فيمن طاف الطواف الواجب منكوسا .

17555 - فقال مالك ، [ والشافعي ] وأصحابهما : لا يجزئه الطواف منكوسا ، وعليه أن ينصرف من بلاده فيطوف ; لأنه كمن لم يطف .

17056 - وهو قول الحميدي ، وأبي ثور .

17057 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : يعيد الطواف مادام بمكة ، إذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويجزئه .

17058 - وكلهم يقول : إذا كان بمكة أعاد ، وكذلك القول عند مالك والشافعي فيمن نسي شوطا واحدا من الطواف أن لا يجزئه ، وعليه أن يرجع من بلاده على بقية إحرامه فيطوف .

17059 - وقال أبو حنيفة : إن بلغ بلده لم ينصرف وكان عليه دم .

17060 - قال أبو عمر : حجة من لم يجز الطواف منكوسا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلم الركن في أول طوافه ، وأخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره ، وقال : [ ص: 126 ] خذوا عني مناسككم ; فمن خالف فعله فليس بطائف ، وفعله مردود عليه لقوله ، صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " .

17061 - وحجة أبي حنيفة أنه طواف قد حصل بالبيت سبعا ولم يأت به على سنته فيجبر بالدم إذا رجع إلى بلده أو أبعد ; لأن سنن الحج تجبر بالدم .

17062 - وأما الرمل فهو المشي خببا يشتد فيه دون الهرولة ، وهيئته أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه ، هذا حكم الثلاثة الأشواط في الطواف بالبيت طواف دخول لا غيره ، وأما الأربعة الأشواط تتمة السبعة فحكمها المشي المعهود .

17063 - هذا أمر مجتمع عليه أن الرمل لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من طواف الدخول للحاج والمعتمر دون طواف الإفاضة وغيره .

17064 - إلا أن العلماء اختلفوا في الرمل : هل هو سنة من سنن الحج لا يجوز تركها أم ليس بسنة واجبة ؟ لأنه : كان لعلة ذهبت وزالت ، فمن شاء فعليه اختيارا .

[ ص: 127 ] 17065 - فروي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر .

17066 - وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابهم ، والثوري ، وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه : أن الرمل سنة لكل قادم مكة حاجا أو معتمرا في الثلاثة الأطواف الأول .

17067 - وقال آخرون : ليس الرمل بسنة ، ومن شاء فعله ومن شاء لم يفعله .

17068 - روي ذلك عن جماعة من التابعين منهم : عطاء ، وطاوس ، [ ص: 128 ] ومجاهد ، والحسن ، وسالم ، والقاسم ، وسعيد بن جبير .

17069 - وهو الأشهر عن ابن عباس .

17070 - وقد روي عنه مثل قول عمر ومن تابعه .

17071 - وحجة من لم ير الرمل سنة حديث أبي الطفيل ، عن ابن عباس : [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] 17072 - روى فطر ، عن أبي الطفيل ، قال : قلت لابن عباس : زعم قومك أن رسول الله رمل بالبيت ، وقال : ( ذلك سنة ) ، فقال : صدقوا وكذبوا . قلت : ما صدقوا ؟ وما كذبوا ؟ قال : صدقوا ; رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين طاف بالبيت . وكذبوا ؛ ليس ذلك بسنة . إن قريشا زمن الحديبية قالوا : إن به وبأصحابه هزلا ، وقعدوا على قيقعان ينظرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأصحابه : " ارملوا أروهم أن بكم قوة ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني ، فإذا توارى عنهم مشى .

[ ص: 131 ] 17073 - قال أبو عمر : قد روى ابن المبارك ، عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : رمل رسول الله من الحجر إلى الحجر .

[ ص: 132 ] 17074 - وهذا معناه في حجة الوداع أو في عمرته - صلى الله عليه وسلم - لا عام الحديبية .

[ ص: 133 ] 17075 - وروى حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر من الجعرانة ; فرمل بالبيت ثلاثة ، ومشى أربعة .

17076 - ففي هاتين الروايتين عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل الأشواط الثلاثة كلها .

17077 - وهذا مع حديث جابر في حجة الوداع يرد قول من قال : يمشي بين الركنين اليماني والأسود .

17078 - وقد اختلف عن ابن عمر في ذلك .

17079 - وجمهور العلماء على أن الرمل من الحجر إلى الحجر على ما في حديث جابر في الأشواط الثلاثة .

17080 - وقد روى : عطاء وطاوس ، وعكرمة ، عن ابن عباس معنى [ ص: 134 ] حديث أبي الطفيل هذا ، وقد ذكرنا الأحاديث عنهم بذلك في ( التمهيد ) .

17081 - واحتجوا أيضا بحديث الحجاج بن أرطاة عن أبي جعفر وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغ أهل مكة أن بأصحابه هزلا ، فلما قدم مكة قال لأصحابه : " شدوا مآزركم وارملوا حتى يرى قومكم أن بكم قوة " ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرمل .

17082 - قال أبو عمر : هذا ليس بشيء ; لأن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رمل في حجته حجة الوداع من الحجر إلى الحجر ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة . من حديث مالك وغيره عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر .

17083 - وقد ذكرنا جماعة رووه بإسناده كذلك في ( التمهيد ) .

17084 - وهذا يدل على ضعف ما رواه الحجاج بن أرطاة من قوله : " ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرمل .

[ ص: 135 ] [ ص: 136 ] [ ص: 137 ] 17085 - وروى هشام ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ، قال في الرمل : لا تدع شيئا صنعناه مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

17086 - وقد ثبت عن عمر وابن مسعود ، وابن عمر أنهم كانوا يرملون في الطواف ثلاثا - طواف القدوم - فصار سنة معمولا بها لا يضرها من جهلها وأنكرها .

17087 - وروى الشافعي ، قال : حدثني أنس بن عياض ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة ، يعني في حجته .

[ ص: 138 ] 17088 - قال أبو عمر : هذا خير من حديث العلاء بن المسيب ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل في العمرة ومشى في الحج ، وأصح وأثبت إن شاء الله .

17089 - وروى مالك ، وأيوب ، وعبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر بمعنى واحد أنه كان إذا قدم مكة رمل بالبيت وطاف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر .

17090 - قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء بالحجاز والعراق من أئمة الفتوى وأتباعهم ، وهم الحجة على من شذ عنهم ، وقد مضى حديث جابر بما يغني عن الدلائل والتأويل .

17091 - واختلف قول مالك وأصحابه فيمن ترك الرمل في الطواف بالبيت طواف الدخول ، أو ترك الهرولة في السعي بين الصفا والمروة ، ثم ذكر ذلك وهو قريب : 17592 - فمرة قال مالك : يعيد .

17093 - ومرة قال : لا يعيد .

17094 - وبه قال ابن القاسم .

17095 - واختلف قوله أيضا ، هل عليه دم إن أبعده ؟ فقال مرة : لا شيء عليه .

17096 - ومرة قال : عليه دم .

[ ص: 139 ] 17097 - وقال ابن القاسم : وهو خفيف ولا أرى فيه شيئا .

17098 - وكذلك روى ابن وهب عن مالك في موطئه أنه استخفه ، قال ، ولم ير فيه شيئا .

17099 - وروى معن بن عيسى ، عن مالك : أن عليه دما .

17100 - وهو قول الحسن البصري ، وسفيان الثوري .

17101 - وقال ابن القاسم : رجع عن ذلك مالك .

17102 - وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم أن عليه في قليل ذلك وكثيره دما .

17103 - واحتج بقول ابن عباس : من ترك من نسكه شيئا فعليه دم .

17104 - قال أبو عمر : الحجة لمن لم ير فيه شيئا واستخفه أنه شيء مختلف فيه لم تثبت به سنة وألزمه على البراءة حتى يصح ما يجب إثباته فيها .

17105 - وقد روي عن ابن عباس فيمن ترك الرمل : أنه لا شيء عليه .

17106 - وهو قول عطاء ، وابن جريج ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور .

17107 - وأجمعوا أنه ليس على النساء رمل في طوافهن بالبيت ، ولا هرولة في سعيهن بين الصفا والمروة .

[ ص: 140 ] 17108 - وكذلك أجمعوا على أن لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها ، وهم المتمتعون ; لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم .

17109 - واختلفوا في أهل مكة إذا حجوا ، هل عليهم رمل أم لا ؟ .

17110 - فكان ابن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت .

17111 - وقال ابن وهب : كان مالك يستحب لمن حج من مكة أن يرمل حول البيت .

17112 - وقال الشافعي : كل طواف قبل عرفة كل طواف يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه ، وكذلك العمرة .

17113 - قال أبو عمر : قد دخل فيما ذكرنا في هذا الباب جميع معاني الآثار المرسومة من جنسه .

17114 - وأما قول عروة في الطواف : [ ص: 141 ] [ ص: 142 ]

اللهم لا إله إلا أنتا وأنت تحيي بعد ما أمتا

فإن الموزون من الكلام وما يكره كغير الموزون ، وأما الشعر كلام ، فحسنه حسن وقبيحه قبيح .

17115 - وقد روي عنه أنه كان يقول في طوافه مثل هذا من موزون الشعر الذي يجري مجرى الذكر ، وكان شاعرا ( رحمه الله ) ، والشعر ديوان العرب وألسنتهم به رطبة .

[ ص: 143 ] 17116 - وقد كان الحسن يقول في مثل هذا :

يا فالق الإصباح أنت ربي     وأنت مولاي وأنت حسبي
فأصلحن باليقين قلبي     ونجني من كرب يوم الكرب

[ ص: 144 ] 17117 - وقد أوضحنا ما يجوز من الشعر ، ومن رفع العقيرة به ، وما يكره من الغناء وشبهه في كتاب الجامع من هذا الديوان عند ذكر رفع بلال عقيرته .

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليد



التالي السابق


الخدمات العلمية