الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
835 [ ص: 199 ] ( 41 ) باب البدء بالصفا في السعي

798 - مالك ، عن جعفر بن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ، حين خرج من المسجد ، وهو يريد الصفا ، وهو يقول : ( نبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا ) .


[ ص: 200 ] 17337 - قال أبو عمر : في هذا الحديث الخروج من المسجد إلى الصفا عند انقضاء الطواف بالبيت ، ثم يبتدئ السعي ، وهذا إجماع لا خلاف فيه ، لأنها السنة المعمول بها ، وقد مضى بها ذلك .

17338 - وفيه : أن السنة الواجبة أن يبدأ الساعي بين الصفا والمروة من الصفا قبل المروة . قد ذكرنا في كتاب الصلاة من هذا الديوان ما للعلماء في مثل هذا الخطاب .

17339 - قالوا : ومن المذاهب في دخول البيت بما يسن فيها من السنن والفرائض وقد ذكرناه بما فيه كفاية ، فلا معنى لإعادته هاهنا .

17340 - وفي حديث جابر في الحج - الحديث الطويل - قال : ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفا فرقى عليها حتى رأى البيت ، فحمد الله ووحده وكبره . فأجمعوا أنه هكذا ينبغي للحاج والمعتمر أن يفعل إن قدر . فإن لم يفعل ولم يرق على الصفا وقام في أسفله فلا خلاف بينهم أنه يجزئه .

17341 - وأجمعوا على أن من سنة السعي بين الصفا والمروة أن ينحدر الراقي على الصفا بعد الفراغ من الدعاء ، فيمشي على حسب مشيته وعادته في المشي وجبلته حتى يبلغ بطن المسيل ، ثم يرمل بمشيه حتى يقطعه ، فإذا قطعه إلى مائل المروة ، وجازه مشى على سجيته حتى يأتي إلى المروة فيرقى عليها حتى يبدو له البيت ، ثم يقول عليها نحو ما قاله من الدعاء والتكبير والتهليل على الصفا ، وإن وقف أسفل المروة أجزاه في قول جميعهم . ثم ينزل عن المروة يمشي على سجيته حتى ينتهي إلى بطن المسيل ، فإذا انتهى إليه سعى شدا ، ورمل حتى يقطعه إلى [ ص: 201 ] الجانب الذي يلي الصفا ، يفعل ذلك سبع مرات يبدأ في كل ذلك بالصفا ويختم بالمروة ، وإن بدأ بالمروة قبل الصفا ألغى شوطا واحدا .

17342 - وهذا كله قول جماعة الفقهاء .

17343 - وقد روي عن عطاء أنه إن جهل أجزأه .

17344 - وروي عنه أنه لا يعتد بهذا الشوط كما قال سائر العلماء .

17345 - واختلفوا في السعي بين الصفا والمروة هل هو واجب فرضا من فرض الحج أو هو تطوع وسنة ؟ .

17346 - قال مالك : من جهل فلم يسع بين الصفا والمروة ، أو أفتي بأن ذلك ليس عليه ، فذكر ، وطاف بالبيت ، ثم خرج إلى بلاده ، فإنه يرجع متى ما ذكر على ما بقي من إحرامه ، حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويهدي .

17347 - قال مالك : ذلك أحب إلي .

17348 - فإن كان أصاب النساء رجع فقضى ما عليه من الطواف بالبيت ، وبالصفا والمروة ; ثم اعتمر ، مكان عمرته التي أفسدها بالوطء .

17349 - وكذلك من لم يسع بين الصفا والمروة في حجه حتى وطئ أهله كان عليه تمام حجته ، وحج قابل ، والهدي .

[ ص: 202 ] 17350 - هذا كله قوله في " الموطأ " وغيره .

17351 - وقال الثوري : من نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يرجع إلى بلاده فإنه يجزئه دم يهديه .

17352 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إذا ترك السعي بين الصفا والمروة حتى يرجع إلى بلاده فإنه يجزئه دم يهديه .

17353 - وقال الشافعي : السعي بين الصفا والمروة واجب .

17354 - واحتج في ذلك ، فقال : حدثني عبد الله بن المؤمل ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن صفية بنت شيبة ، قالت أخبرتني بنت أبي تجراة ، قالت : دخلت مع نسوة من قريش دار آل ابن أبي حسين ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة ، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى إني لأقول : إني لأرى ركبتيه ، وسمعته يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " .

[ ص: 203 ] 17355 - وكذلك رواه أبو نعيم : الفضل بن دكين ، عن عبد الله بن المؤمل .

17356 - وقد اضطرب فيه غير هذين على عبد الله بن المؤمل . وقد جود الشافعي وأبو نعيم إسناده ومعناه .

17357 - وقال الشافعي وهذا عندنا - والله أعلم - على إيجاب السعي بين الصفا والمروة من قبل أن هذا الحديث لا يحتمل إلا السعي بينهما ، أو السعي في بطن الوادي ، وهو بعض العمل وجب في كله ، وهو ما قلنا .

17358 - قال الشافعي : من ترك السعي بين الصفا والمروة في الحج فالنساء عليه حرام حتى يرجع فيسعى فيما بينهما ، فإن وطأ فعليه العود حتى يطوف بينهما ويهدي .

17359 - قال أبو عمر : من قوله ، وقول غيره تأتي واضحة إن شاء الله فيما بعد .

17360 - وقال أبو ثور في ذلك كله مثل قول الشافعي .

17361 - وهو قول عائشة - رضي الله عنها - أن السعي بين الصفا والمروة فرض .

17363 - وبه قال مالك ، والشافعي ، ومن ذكرنا معهم .

[ ص: 204 ] 17364 - أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثني محمد بن معاوية ، قال : حدثني ابن محمد الفريابي ، قال حدثني عمرو بن علي ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، قال : حدثني هشام بن عروة ، قال : أخبرني أبي ، عن عائشة ، قالت : والله ما أتم الله حج رجل ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة .

[ ص: 205 ] 17365 - وقال ابن عباس ، وأنس ، وعبد الله بن الزبير : هو تطوع .

17366 - وبه قال الكوفيون .

17367 - وهو قول الحسن ، وابن سيرين .

17368 - قال أبو عمر : قول سفيان والكوفيين في إيجابهم الدم يحتمل أن يكون عندهم تطوعا ، ويحتمل أن يكون عندهم سنة ، وهو الأظهر في إيجابهم الدم .

[ ص: 206 ] 17369 - وقد روي أن الحسن ، وقتادة ، قالا فيمن ترك السعي : عليه دم .

17370 - وروي عن الحسن أنه قال : لا شيء عليه ; رواه يحيى القطان ، عن الأشعث ، عن الحسن في الرجل ينسى السعي بين الصفا والمروة ، قال : ليس عليه شيء .

17371 - وروي عن طاوس أنه قال فيمن ترك السعي بين الصفا والمروة : عمرة .

17372 - وهذا عندي كقول من أوجبه ; لأن كل من يوجبه يوجب على تاركه الرجوع إليه من بلده ، فإذا وجب عليه الرجوع من بلده حتى يسعى لم يدخل الحرم إلا محرما ، وأقل الإحرام عمرة ، ومن شأن السعي اتصاله بالطواف قبله .

17373 - وروي عن عطاء فيمن ترك السعي بين الصفا والمروة أو نسيه أنه ليس عليه شيء .

17374 - وروي عنه أن عليه دما .

17375 - قال أبو عمر : حجة من لم يوجب السعي قوله ، عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] واحتجوا بقراءة أبي ، وابن مسعود ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ) . وهذه قراءات لم تثبت في المصحف فلا حجة فيها قاطعة .

[ ص: 207 ] 17376 - وقد قالت عائشة في ذلك - مما سيأتي بعد - ما نبين به أنها رأته واجبا .

17377 - قالوا : ولم تقم بوجوبه حجة يجب التسليم لها . وضعفوا حديث عبد الله بن المؤمل .

17378 - قال أبو عمر : قد رواه مع ابن المؤمل غيره ، وقد ذكرناه في " التمهيد " .

17379 - وعبد الله بن المؤمل لم يطعن عليه أحد إلا من سوء حفظه ، ولم يعارضه في هذا الحديث ولا خالفه فيه غيره فيتبين فيه سوء حفظه .

17380 - وممن رواه كما رواه عبد الله بن المؤمل : حماد بن زيد ، عن بديل بن ميسرة ، عن المغيرة بن حكيم ، عن صفية بنت شيبة ، عن امرأة ، قالت : " رأيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . . . " ، فذكر مثله .

17381 - وإذا أثبت حديثه وجب فيه فرض السعي بين الصفا والمروة ، والله أعلم .

17382 - وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناسك الحج ومشاعره ; فبين في ذلك : السعي بين الصفا والمروة فصار بيانا للآية ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ; فما لم يجمعوا عليه أنه سنة وتطوع ، فهو واجب بظاهر القرآن والسنة بأنه من الحج [ ص: 208 ] المفترض على من استطاع السبيل إليه .

17383 - ذكر عبد الرزاق ، عن أيوب ، عن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : ما تم حج امرئ ولا عمرته حتى يطوف بين الصفا والمروة . وليس في حديثها هذا حجة قاطعة لا تحتمل التأويل .

التالي السابق


الخدمات العلمية