الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
838 [ ص: 212 ] ( 42 ) باب جامع السعي

801 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أنه قال : قلت لعائشة - أم المؤمنين - وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تبارك وتعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 185 ] فما على الرجل شيء أن لا يطوف بهما .

[ ص: 213 ] فقالت عائشة : كلا . لو كان كما تقول ، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما . إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار . كانوا يهلون لمناة . وكانت مناة حذو قديد . وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة . فلما جاء الإسلام . سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك . فأنزل الله تبارك وتعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] .


[ ص: 214 ] 17392 - قال أبو عمر : أما قول عروة في هذا الحديث : " وأنا يومئذ حديث السن " ، ففيه دليل على أنه إذا حدث بهذا الحديث كان يقول غير ما قاله إذ كان في غير السن .

[ ص: 215 ] 17393 - وفي ذلك ما يدل على أن عروة ممن يذهب مذهب عائشة في وجوب السعي بين الصفا والمروة ، وإن كان قد اختلف عنه في ذلك .

17394 - وقد تقدم ما للعلماء في إيجاب السعي من الاختلاف في الباب قبل هذا .

17395 - وأما ما احتجت به عائشة - رضي الله عنها - من قولها : " لو كان كما تقول لكانت : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) " ولو كانت قراءة صحيحة ما جهلتها عائشة ، ولا عابت على عروة ; لأنه كان يجاوبها بأنها كانت قراءة أبي ، وابن مسعود ، وأنها مما نزل القرآن عليه .

17396 - ويشهد لما قلناه سقوطها من المصحف المجتمع عليه .

17379 - وأما " مناة " فصنم ، وهو الذي ذكر الله تعالى أنه أحد الأصنام الثلاثة في قوله تعالى : ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 20 ] .

17398 - وإنما تحرج المسلمون من السعي بين الصفا والمروة ; لأنه كان موضع ذبائحهم لأصنامهم ; فأخبرهم الله تعالى أن الصفا والمروة من شعائر الله لئلا يتحرج من السعي بينهما والطواف بهما .

17399 - ذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عائشة ، [ ص: 216 ] قالت : كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية - ومناة صنم بين مكة والمدينة - فقالوا : يا نبي الله ! إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] . قال عروة : فقلت لعائشة : ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة ; فإن الله - عز وجل - يقول : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما . فقالت : يابن أختي ألا ترى أنه يقول : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] . قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن ، فقال : هذا العلم . قال أبو بكر : ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة ; قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة ، وإن الله تعالى قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر بين الصفا والمروة فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما ؟ فأنزل الله ، عز وجل : إن الصفا والمروة الآية [ 158 من سورة البقرة ] كلها .

قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما ، فيمن طاف ، وفيمن لم يطف .

[ ص: 217 ] 17400 - قال أبو عمر : قول أبي بكر بن عبد الرحمن : " فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين . . . " يعني القائلين بأن الآية نزلت فيمن قال : " يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة " . يعني مناة التي كانت للأنصار لئلا يعظموا غير الله تعالى وكانت لهم آلهة يعبدونها قد نصبوها بين المسلك بين مكة والمدينة ; فكانوا يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة من أجل مناة التي كانت لقريش ، وما أدري موضع مناة الثالثة الأخرى . [ ص: 218 ] والفريق الثاني هم القائلون بأن الآية إنما نزلت لقول من قال : " إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة كما كنا نطوف بالبيت فأمر الله تعالى بالطواف بالبيت ولم يأمر بالطواف بين الصفا والمروة فهل علينا من حرج ألا نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 158 من سورة البقرة ] كلها .

17401 - قال أبو عمر : فهذا تأويل قول أبي بكر بن عبد الرحمن " أسمع هذه الآية أنزلت في الفريقين كليهما ممن طاف ومن لم يطف . يريد أنه سمع القولين معا في سبب نزول الآية ، والآية محتملة لهما ، وكلا القولين علم ، وكذلك قال : " إن هذا لعلم " . " وهذا العلم " .

17402 - ويحتمل قوله " هذا العلم " إشارة إلى قول عائشة واحتجاجها بقوله ، عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 158 : البقرة ] أي قد جعل الطواف بينهما من الشعائر التي أرادها من عباده في الحج والعمرة كما قال : إن الدين عند الله الإسلام [ 19 : آل عمران ] وهذا القول مع العلم سبب نزول الآية على وجوب السعي بين الصفا والمروة كما قال أهل الحجاز ، والله أعلم .

17403 - أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال حدثني محمد بن معاوية ، قال : حدثني أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عمرو بن عثمان ، قال : حدثني أبي ، عن شعيب ، عن الزهري عن عروة قال : سألت عائشة عن قول الله عز وجل فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 185 : البقرة ] فوالله ما على أحد جناح أن [ ص: 219 ] لا يطوف بهما ؟ فقالت عائشة : بئس ما قلت ، يا ابن أختي ! إنما هذه الآية لو كانت كما أولتها كانت " لا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار . قبل أن يسلموا ; كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فلما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 158 : البقرة ] ، ثم قد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما .

17404 - قال أحمد بن شعيب : وأخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدثني سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : قرأت على عائشة : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 158 : البقرة ] [ ص: 220 ] قلت : وما أبالي أن لا يطوف بهما . قالت : بئس ما قلت . . . " وذكر الخبر ، وفيه قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هاشم ; فأعجبه ذلك ، وقال : سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية .

17405 - وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة فأنزل الله ، عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 158 : البقرة ] .

17406 - قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فأراها قد نزلت في هؤلاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية