الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
6 حديث خامس 6 - مالك ، عن نافع مولى عبد الله بن عمر ، أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله : إن أهم أمركم عندي الصلاة ، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع . ثم كتب : أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا ، إلى أن يكون ظل أحدكم مثله . والعصر والشمس مرتفعة ، بيضاء نقية ، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة ، قبل غروب الشمس . والمغرب ، إذا غربت الشمس . والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل . فمن نام فلا نامت عينه ، فمن نام فلا نامت عينه . فمن نام فلا نامت عينه . والصبح ، والنجوم بادية مشتبكة .


359 - هكذا روى مالك ، عن نافع : أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله .

360 - ورواه عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله ، فذكر مثله بمعناه ، وفي حديث غير هذا ما كان عليه من الاهتبال بأمور المسلمين إذ ولاه الله أمرهم .

[ ص: 236 ] 361 - وإنما خاطب العمال لأن الناس تبع لهم ، كما جاء في المثل : " الناس على دين الملك " .

362 - وروي عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس ، هم : الأمراء ، والعلماء " .

363 - ومن استرعاه الله رعية لزمه أن يحوطها بالنصيحة ، ولا نصيحة تقدم على النصيحة في الدين لمن لا صلاة له ، ولا دين لمن لا صلاة له .

364 - روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " من استرعاه الله رعية فلم يحطها بالنصيحة لم يرح رائحة الجنة " .

365 - وكان عمر لرعيته كالأب الحدب ; لأنه كان يعلم أن كل راع مسئول عن رعيته .

366 - وأما قوله : " حفظها " - فحفظها : علم ما لا تتم إلا به من وضوئها وسائر أحكامها .

367 - وأما قوله " وحافظ عليها " - فتحتمل المحافظة على أوقاتها ، والمسابقة إليها .

[ ص: 237 ] 368 - والمحافظة إنما تكون على ما أمر به العبد من أداء فريضة ، ولا تكون إلا في ذلك أو في معناه من فعل ما أمر به العبد ، أو ترك ما نهي عنه .

369 - ومن هنا لا يصلح أن تكون المحافظة من صفات الباري ، ولا يجوز أن يقال : محافظ ، ومن صفاته : حفيظ ، وحافظ - جل وتعالى علوا كبيرا .

370 - وأما قوله : " أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا " فإنه أراد فيء الإنسان أن يكون ذراعا زائدا على القدر الذي تزول عليه الشمس صيفا وشتاء ، وذلك ربع قامة .

371 - ولو كان القائم ذراعا لكان مراد عمر من ذلك ربع ذراع ، ومعناه - على ما قدمناه - لمساجد الجماعات ; لما يلحق الناس من الاشتغال ، ولاختلاف أحوالهم فمنهم : الخفيف ، والثقيل في حركاته .

372 - وقد مضى في حديث ابن شهاب في أول الكتاب من معاني الأوقات ما يغني عن القول هاهنا في شيء منها .

373 - ودخول الشمس صفرة معلومة في الأرض تستغني عن التفسير .

374 - والفرسخ ثلاثة أميال ، واختلف في الميل ، وأصح ما قيل فيه : ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع .

[ ص: 238 ] 375 - وهذا كله من عمر على التقريب ، وليس في شيء من ذلك تحديد ، ولكنه يدل على سعة الوقت . وما قدمنا في الأوقات يغني والحمد لله .

376 - وأما قوله : " وآخر العشاء ما لم تنم " فكلام ليس على ظاهره ، ومعناه النهي عن النوم قبلها ; لأنه قد ثبت النهي عن النوم قبلها ، واشتهر عند العلماء شهرة توجب القطع أن عمر لا يجهل ذلك .

377 - ومن تأول على عمر إباحة النوم قبل العشاء فقد جهل ، ويدلك على ذلك دعاؤه على من نام قبل أن يصلي العشاء وألا تنام عينه ، فكرر ذلك ثلاثا مؤكدا .

378 - وأما الصبح فقد قدمنا أنه كان من مذهبه ومذهب أبي بكر : التغليس بالصبح ، ويشهد لذلك قوله : " والنجوم بادية مشتبكة " وهذا على إيضاح الفجر لا على الشك فيه ; لإجماع المسلمين على أن من صلى وهو شاك في الفجر فلا صلاة له .

379 - وأما تأويل أصحابنا في حديث عمر هذا إلى عماله : أنه أراد مساجد الجماعات فلحديث مالك ، عن عمه أبي سهيل بن مالك ، عن أبيه : أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : " أن صل الظهر إذا زاغت الشمس " فهذا على المنفرد لئلا يتضاد خبره ، أو يكون على الإعلام بأول الوقت ; ليعلم بذلك رعيته .

380 - وأهل العلم لا يرون النوم قبل العشاء ، ولا الحديث بعدها ، وقد رخص فيه قوم ، وسيأتي هذا المعنى مجودا في موضعه إن شاء الله .

[ ص: 239 ] 381 - وقد ذكر الساجي أبو يحيى قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن كردوس قال : خرج ابن مسعود ، وأبو مسعود ، وحذيفة ، وأبو موسى من عند الوليد ، وقد تحدثوا ليلا طويلا ، فجاءوا إلى سرة المسجد فتحدثوا حتى طلع الفجر .

382 - قال أبو عمر : هذا معناه عندي أن تكون ضرورة دعتهم إلى هذا في حين شكوى أهل الكوفة بالوليد بن عقبة ، وابتداء طعنهم على عثمان .

383 - وقد جاء في الحديث : " لا سمر بعد العشاء إلا لمصل ، أو مسافر ، أو دارس علم " .

384 - وما كان في معنى هذه الثلاثة مما لا بد منه فله حكمها ، والأصل في هذا حديث أبي المنهال سيار بن سلامة ، عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء التي تدعونها : العتمة ، ويكره النوم قبلها " .

[ ص: 240 ] 385 - والحديث بعدها رواه عن أبي المنهال شعبة ، وعوف ، وغيرهما .

386 - ومن هذا الباب قول حذيفة : جدب لنا عمر السمر بعد العتمة : يعني عابه علينا ، كذلك شرحه أبو عبيدة ، وغيره .

387 - وعن عمر أيضا فيه حديث آخر : " أنه كان يقول لهم إذا صلى العتمة : انصرفوا إلى بيوتكم " ذكره أبو عبيدة أيضا .

388 - وسائر ما في حديث أبي سهيل هو في حديث نافع ، وحديث نافع أتم ، وقد مضى فيه القول ، وأمره لأبي موسى بأن يقرأ في الصبح سورتين طويلتين من المفصل على الاختيار لا على الوجوب .

389 - ولا واجب في القراءة غير فاتحة الكتاب ، وغير ذلك مسنون مستحب ، وفي حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر في ذلك قوله : أن صل العشاء ما ( بينك ) وبين ثلث الليل ، فإن أخرت فإلى شطر الليل ، ولا تكن من الغافلين .

390 - وقد مضى في آخر وقت المختار من الأحاديث المسندة : ثلث الليل ، ونصف الليل ، وعلى ذلك اختلاف العلماء الذي ذكرنا .

391 - فمن ذهب إلى ثلث الليل تأول قوله : " ولا تكن من الغافلين " فتؤخرها إلى شطر الليل .

392 - ومن ذهب إلى أن آخر وقتها المختار : نصف الليل ، تأول ولا تكن من الغافلين فتؤخرها بعد شطر الليل ، أو إلى أن يخرج وقتها ، ولعله ذهب إلى [ ص: 241 ] أن آخر وقتها الذي صلاها فيه رسول الله شطر الليل ، وأن ما بعد ذلك فوت لقوله - عليه السلام - " ما بين هذين وقت " .

393 - ولست أقول : إن من صلاها قبل الفجر صلاها قاضيا بعد خروج وقتها لدلائل .

394 - ( منها ) حديث أبي هريرة : إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى .

395 - ولأنها لو فاتت بانقضاء شطر الليل ما لزمت الحائض تطهر ، والمغمى عليه يفيق ، إذا أدركا من وقتها ركعة قبل الفجر ، كما لا تلزمهما بعد الفجر ، ولا الصبح بعد طلوع الشمس .

التالي السابق


الخدمات العلمية