الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
911 [ ص: 127 ] [ ص: 128 ] ( 63 م ) باب تعجيل الصلاة بعرفة وتعجيل الوقوف بها

866 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أنه قال : كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف . أن لا تخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج قال : فلما كان يوم عرفة جاءه عبد الله بن عمر حين زالت الشمس ، وأنا معه ، فصاح به عند سرادقه : أين هذا ؟ فخرج عليه الحجاج وعليه ملحفة معصفرة فقال ما لك يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال : الرواح إن كنت [ ص: 129 ] تريد السنة . فقال : أهذه الساعة ؟ قال : نعم قال : فأنظرني حتى أفيض علي ماء ، ثم أخرج ، فنزل عبد الله حتى خرج الحجاج ، فسار بيني وبين أبي ، فقلت له : إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم ، فاقصر الخطبة وعجل الصلاة . قال فجعل ينظر إلى عبد الله بن عمر ، كيما يسمع ذلك منه ، فلما رأى ذلك عبد الله قال : صدق سالم .


18327 - قال أبو عمر : هذا الحديث يخرج من المسند ؛ لقول عبد الله بن عمر للحجاج : الرواح إن كنت تريد السنة .

[ ص: 130 ] 18328 - وكذلك قول سالم له : إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الصلاة .

18329 - وقول ابن عمر : صدق .

18330 - وقد ذكرنا رواية معمر وغيره عن الزهري لهذا الحديث ومن قال إن الزهري شهد هذه القصة معهم ، وصحح سماع الزهري من ابن عمر يومئذ ، وبينا ذلك في كتاب " التمهيد " .

[ ص: 131 ] 18331 - وفي هذا الحديث فقه ، وأدب ، وعلم كثير من أمور الحج :

18332 - فمن ذلك : أن إقامة الحج إلى الخلفاء ومن جعلوا ذلك إليه [ ص: 132 ] وأمروه عليه .

18333 - وفيه أيضا : أنه يجب أن يضم إلى الأمير على الموسم من هو [ ص: 133 ] أعلم منه بالكتاب والسنة وطرق الفقه .

18334 - وفيه الصلاة خلف الفاجر من السلاطين ما كان إليهم إقامته [ ص: 134 ] من الصلوات ، ومثل الحج والأعياد والجمعات .

18335 - ولا خلاف بين العلماء أن الحج يقيمه السلطان للناس ، ويستخلف عليه من يقيمه لهم على شرائعه وسننه فيصلون خلفه برا كان أو فاجرا أو مبتدعا ما لم تخرجه بدعته عن الإسلام .

18336 - وفيه : أن الرجل الفاضل لا نقيصة عليه في مشيه مع السلطان الجائر فيما يحتاج إليه .

18337 - وفيه : أن رواح الإمام من موضع نزوله من عرفة إلى مسجدها حين تزول الشمس للجمع بين الظهر والعصر في المسجد في أول وقت الظهر ، وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلزم ذلك كله من بعد عن المسجد بعرفة ، أو قرب أن لا يكون موضع نزوله متصلا بالصفوف ، فإن لم يفعل وصلى بصلاة الإمام فلا حرج .

18338 - وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نزل بعرفة عند الصخرات قريبا من منزل الأمراء اليوم .

18339 - وروي عنه : أنه نزل بنمرة من عرفة ، وحيث ما نزل بعرفة فجائز ، وكذلك وقوفه منها حيث شاء ما وقف إلا بطن عرنة .

18340 - وقد ذكرنا ما يلزم من وقف ببطن عرنة وما للعلماء في [ ص: 135 ] ذلك .

18341 - فإذا زاغت الشمس وراح إلى المسجد بعرفة فيصلي بها الظهر والعصر جميعا مع الإمام في أول وقت الظهر .

18342 - أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثني محمد بن بكر قال : حدثني أبو داود قال : حدثني أحمد بن حنبل قال : حدثني وكيع قال : حدثني نافع بن عمر ، عن سعيد بن حسان ، عن ابن عمر قال : لما قتل الحجاج ابن الزبير أرسل إلى ابن عمر : أية ساعة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يروح في هذا اليوم ؟ قال : إذا كان ذلك رحنا ، فلما أراد ابن عمر أن يروح قال : أزاغت الشمس ؟ قالوا : لم تزغ الشمس ، وقال : أزاغت الشمس قالوا : لم تزغ ، ثم قال : أزاغت . فلما قالوا قد زاغت ارتحل .

18343 - وفي حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، وأتى الوادي ، وخطب الناس . ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم راح إلى الموقف .

18344 - قال أبو عمر : هذا كله لا خلاف بين العلماء المسلمين فيه .

18345 - واختلف الفقهاء في وقت أذان المؤذن بعرفة في الظهر والعصر ، وفي جلوس الإمام للخطبة قبلها : [ ص: 136 ] 18346 - فقال مالك : يخطب الإمام طويلا ، ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب ، ثم يصلي .

18347 - وهذا معناه أن يخطب الإمام صدرا من خطبته ، ثم يؤذن المؤذن فيكون فراغه مع فراغ الإمام من الخطبة ، ثم ينزل فيصلي الظهر ، ثم يقيم المؤذن الصلاة للعصر .

18350 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إذا صعد الإمام المنبر أخذ المؤذن في الأذان ، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام فخطب ، ثم ينزل ويقيم المؤذن الصلاة .

18351 - وبه قال أبو ثور .

18352 - وسئل مالك عن الإمام إذا صعد المنبر يوم عرفة ، أيجلس قبل أن يخطب ؟ قال : نعم . ثم يقوم ، فيخطب طويلا ، ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب ثم يصلي .

[ ص: 137 ] 18353 - ذكره ابن وهب عنه .

18354 - قال : وقال مالك : يخطب خطبتين .

18355 - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . ما قدمنا يدل على أن الإمام يجلس ، فإذا فرغ المؤذن ، قام يخطب .

18356 - وقال الشافعي : إذا أتى الإمام المسجد خطب الخطبة الأولى ، ولم يذكر جلوسا عند صعود المنبر ، فإذا فرغ من الأولى جلس جلسة خفيفة قدر قراءة قل هو الله أحد ( سورة الإخلاص ) ، ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى . 18357 - وأجمع العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى بعرفة صلاة المسافر لا صلاة جمعة ، ولم يجهر بالقراءة .

18358 - وكذلك أجمعوا أن الجمع بين الظهر والعصر يوم عرفة مع الإمام سنة مجتمع عليها .

18359 - واختلفوا فيمن فاتته الصلاة يوم عرفة مع الإمام ، هل له أن يجمع بينهما أم لا ؟ . فقال مالك : يجمع بين الظهر والعصر إذا فاته ذلك مع الإمام ، وكذلك المغرب والعشاء يجمع بالمزدلفة إذا فاتته مع الإمام .

18360 - وقال الثوري : صل مع الإمام بعرفة الصلاتين إن استطعت ، وإن صليت في ذلك فصل كل صلاة لوقتها .

[ ص: 138 ] 18361 - وكذلك قال أبو حنيفة : لا يجمع بينهما إلا من صلاهما مع الإمام ، وأما من صلى وحده فلا يصلي كل صلاة منهما إلا لوقتها .

18362 - وهو قول إبراهيم .

18363 - وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق : جائز أن يجمع بينهما من المسافرين من صلى مع الإمام ومن صلى وحده إذا كان مسافرا .

18364 - وحجتهم أن جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان من أجل السفر ، ولكل مسافر الجمع بينهما كذلك .

18365 - واختلف العلماء في الأذان للجمع بين الصلاتين بعرفة .

18366 - فقال مالك : يصليهما بأذانين وإقامتين .

18367 - وقال الشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، والطبري : يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين بإقامة لكل صلاة .

18368 - وقد روي عن مالك مثل ذلك ، والمشهور عنه وتحصيل مذهبه ما قدمنا ذكره ( من قوله في صلاتي المزدلفة ، والحجة له ، قد تقدمت هناك ) .

[ ص: 139 ] 18369 - واختلف عن أحمد بن حنبل : فروي عنه ، وعن إسحاق بن راهويه : أنه يجمع بينهما بإقامة إقامة دون أذان .

18370 - رواه الكوسج عنهما .

18371 - وروى عنه أحمد الأثرم : من فاتته الصلاة مع الإمام فإن شاء جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين ، وإن شاء بإقامة إقامة .

18372 - وحجة مالك ومن قال بقوله في ذلك ما رواه إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن حميد أبي قدامة : أنه صلى مع عمر بن الخطاب الصلاتين بأذانين وإقامتين .

18373 - وعن ابن مسعود مثل ذلك بالمزدلفة ، ومنهم من ذكر عنه ذلك في حديث عرفة والمزدلفة ، وقال فيه المحاربي : لا أعلمه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

18374 - والحجة للشافعي ومن قال بأذان واحد وإقامتين حديث جابر - الحديث الطويل - في الحج .

18375 - ورواه جماعة من الثقات عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، وساقوا الحديث بطوله ، وفيه : فلما أتى عرفة خطب ، فلما فرغ بالخطبة أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر لم يصل بينهما شيئا ، الحديث . [ ص: 140 ] 18376 - وفي لبس الحجاج المعصفر وترك ابن عمر الإنكار عليه مع أمر عبد الملك إياه أن لا يخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج دليل على أنه مباح عنده ، وإن كان جماعة من أهل العلم يكرهونه .

18377 - وكان مالك ( رحمه الله ) يكره المصبغات للرجال والنساء ، وخالف في ذلك أسماء بنت أبي بكر .

18378 - وروي عن عائشة مثل قول مالك ، ورواه الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عائشة ، كانت تكره المثرد بالمعصفر .

18379 - ومن كان يكره لبس المصبغات بالعصفر ، ثم في الإحرام : الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأبو ثور .

18380 - ورخص فيه الشافعي ، وجماعة لأنه ليس بطيب .

18381 - وفي الحديث من الفقه ما يدل على أن تأخير الصلاة بعرفة بعد الزوال قليلا لعمل يكون من أعمال الصلاة مثل الغسل والوضوء وما أشبه ذلك أنه لا بأس بذلك .

18382 - وفيه : الغسل للوقوف بعرفة ؛ لأن قول الحجاج لعبد الله بن [ ص: 141 ] عمر : أنظرني حتى أفيض علي ماء ، كذلك كان .

18383 - وهو مذهب عبد الله بن عمر ، وأهل العلم يستحبونه .

18384 - وفيه : إباحة فتوى الصغير بين يدي الكبير ألا ترى أن سالما علم الحجاج قصر الخطبة وتعجيل الصلاة ، وأبوه ابن عمر إلى جنبه ، وقصر الصلاة في ذلك الموضع وفي غيره سنة ، وتعجيل الصلاة في ذلك الموضع سنة مجتمع عليها في أول وقت الظهر ، ثم يصلي العصر بإثر السلام من الظهر .

18385 - وأجمع العلماء على أن الإمام لو صلى بعرفة يوم عرفة بغير خطبة أن صلاته جائزة ، وأنه يقصر الصلاة إذا كان مسافرا ، وإن لم يخطب ويسر القراءة فيهما لأنهما ظهر وعصر قصرتا من أجل السفر .

18386 - وأجمعوا أن الخطبة قبل الصلاة يوم عرفة .

18387 - وأما قوله : ( عجل الصلاة ) فكذلك رواه يحيى ، وابن القاسم ، وابن وهب ، ومطرف .

18388 - وقال فيه القعنبي وأشهب : إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة ، وعجل الوقوف مكان : عجل الصلاة .

18389 - وهو غلط ؛ لأن أكثر الرواة عن مالك على خلافه ، وتعجيل [ ص: 142 ] الصلاة بعرفة سنة .

18390 - وقد يحتمل قول القعنبي أيضا ؛ لأن تعجيل الوقوف بعد تعجيل الصلاة والفراغ منها سنة أيضا ، ومعلوم أنه من عجل الصلاة عجل الوقوف لأنه بإثرها متصل بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية