الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
956 912 - مالك ، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال : حدثني شيخ بسوق البرم بالكوفة ، عن كعب بن عجرة أنه قال : جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي . وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملا . فأخذ بجبهتي ، ثم قال : " احلق هذا الشعر . وصم ثلاثة أيام . أو أطعم ستة مساكين " وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم أنه ليس عندي ما أنسك به .


18934 - وليس في حديث حميد ذكر مقدار الطعام كما هو ، ولا في [ ص: 302 ] حديث عطاء وعبد الكريم ، والشيخ الذي روى عنه عطاء الخراساني هذا الحديث ، الذي لقيه بسوق البرم بالكوفة ، قيل : هو عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقيل : هو عبد الرحمن بن معقل بن مقرن ، وكلاهما كوفي يروي هذا الحديث ويعرف به .

18935 - وقد ذكرنا طرقه عنهما في باب حميد ، وباب عطاء الخراساني ، من " التمهيد " .

وذكرنا هنا اختلاف ألفاظ الناقلين لحديث كعب بن عجرة هذا مستوعبة في باب حميد بن قيس ، وأكثرها وردت بلفظ التخيير ، وهو نص القرآن في قوله - تعالى - : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة : 196 ] .

وعليه مضى عمل العلماء وقبولهم .

18936 - واختلف الفقهاء في مبلغ الإطعام في فدية الأذى

18937 - فقال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم : الإطعام في ذلك : مدان مدان ، بمد النبي - عليه السلام - لكل مسكين ، ستة مساكين .

[ ص: 303 ] 18938 - وهو قول أبي ثور ، وإسحاق ، وداود .

18939 - وروي عن الثوري ، أنه قال في الفدية : من البر نصف صاع ، ومن التمر ، والشعير ، والزبيب صاع .

19840 - وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله ، جعل نصفا من بر يعدل صاعا من تمر وشعير ، وهو أصله في الكفارات .

18941 - وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي ، مرة قال : إن أطعم برا ، فمد لكل مسكين ، وإن أطعم تمرا ، فنصف صاع .

18942 - قال أبو عمر : لم يختلف الفقهاء أن الإطعام لستة مساكين ، وأن الصيام ثلاثة أيام ، وأن النسك شاة ، على ما في حديث كعب بن عجرة ، إلا شيئا روي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع ، أنهم قالوا : الإطعام لعشرة مساكين ، والصيام عشرة أيام . ولم يتابعهم أحد من العلماء على ذلك كما في السنة ، في حديث كعب بن عجرة من خلافه .

18943 - وقال الله - تعالى - : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة : 196 ] .

18944 - قال ابن عباس : المرض : أن تكون برأسه قروح . والأذى : [ ص: 304 ] القمل .

18945 - وقال عطاء : المرض : الصداع ، والقمل ، وغيره .

18946 - قال أبو عمر : حديث كعب بن عجرة أصل هذا الباب في معنى الآية عند العلماء .

18947 - حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن كامل قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال : سمعت أحمد بن صالح يقول : حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها عند جماعة العلماء ، ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب ، ولا رواها عن كعب إلا رجلان ثقتان من أهل الكوفة ، عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد الله بن معقل ، وهي سنة [ ص: 305 ] أخذها أهل المدينة ، وغيرهم عن أهل الكوفة .

18948 - قال ابن شهاب سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب ، فلم يثبتوا كم عدة المساكين .

18949 - قال أبو عمر : أجمعوا أن الفدية واجبة على من حلق رأسه من عذر وضرورة .

18950 - وأجمع العلماء على أنه إذا كان حلقه لرأسه من أجل ذلك ، فهو مخير في ما نص الله عليه من الصيام والصدقة والنسك .

18951 - واختلفوا في من حلق رأسه عامدا من غير ضرورة ، أو تطيب لغير ضرورة :

[ ص: 306 ] 18952 - فقال مالك : بئس ما فعل ، وعليه الفدية ، هو مخير فيها ; إن شاء صام ثلاثة أيام ، وإن شاء ذبح شاة ، وإن شاء أطعم ستة مساكين مدين مدين من قوته ، أي ذلك شاء فعل .

18953 - ومن حجته أن السنة قد وردت في كعب بن عجرة ، في حلقة رأسه وقد أذاه هوامه . 50 18954 - ولو كان حكم الضرورة مخالفا لنبيه - عليه السلام - ولما لم تسقط الفدية من غير ضرورة ، علم أن الضرورة وغيرها سواء .

18955 - وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور : ليس بمخير إلا في الضرورة ; لشرط الله - تعالى - بقوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه [ البقرة : 196 ] .

فأما إذا حلق ، أو لبس ، أو تطيب عامدا من غير ضرورة ، فعليه دم ، لا غير .

18956 - واختلفوا فيمن حلق ، أو لبس ، أو تطيب عامدا من غير ضرورة .

18957 - فقال مالك : العامد ، والناسي ، في ذلك سواء في وجوب الفدية .

18958 - وقال إسحاق ، وداود : لا فدية عليهم في شيء من ذلك ; إن [ ص: 307 ] صنعه ناسيا .

18959 - وجمهور العلماء يوجبون الفدية على المحرم إذا حلق شعر جسده ، أو أطلى ، أو حلق موضع المحاجم .

18960 - وبعضهم يجعل عليه في ذلك كله دما ، ولا يجيز إلا في الضرورة .

18961 - وقال داود : لا شيء عليه في حلق شعر جسده .

18962 - واختلفوا في موضع الفدية

18963 - فقال مالك : يفعل من ذلك ما شاء ، أين شاء بمكة ، أو بغيرها ، وإن شاء ببلده ، سواء عنده في ذلك ذبح النسك ، والإطعام ، والصيام .

18964 - وهو قول مجاهد .

18965 - والذبح عند مالك هاهنا سنة ، وليس بهدي .

18966 - قال : الهدي لا يكون إلا بمكة ، والنسك يكون حيث شاء .

18967 - وحجته في أن النسك جائز أن يكون بغير مكة حديث عن يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد المخزومي ، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر ، أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر ، وخرج معه من [ ص: 308 ] المدينة ، فمروا على حسين بن علي ، وهو مريض بالسقيا ، فأقام عليه عبد الله بن جعفر ، حتى إذا خاف الموت خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء بنت عميس ، وهما بالمدينة فقدما عليه ، ثم إن حسينا أشار إلى رأسه ، فأشار علي بحلق رأسه ، ثم نسك عنه بالسقيا ، فنحر عنه بعيرا .

18968 - فهذا أوضح في أن الدم في فدية الأذى جائز أن يهراق بغير مكة .

18969 - وجائز عند مالك في الهدي ، إذا نحر في الحرم ، أن يعطاه غير أهل الحرم ؛ لأن البغية فيه إطعام المساكين .

18970 - ولم يختلفوا أن الصوم جائز أن يؤتى به في غير الحرم .

18971 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي : الدم ، والإطعام ، لا يجزئ إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ; لأنه لا منفعة في الصوم لجيران بيت الله من أهل مكة والحرم .

18972 - وهو قول طاوس .

18973 - وقال : ما كان من دم ، فبمكة ، وما كان من إطعام ، أو صيام ، فحيث شاء .

[ ص: 309 ] 18974 - وعن أبي حنيفة وأصحابه مثله .

18975 - ولم يختلف قول الشافعي أن الدم والإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم .

18976 - قال أبو عمر : لا يوجب مالك الفدية إلا على من حلق قبل أن يرمي ، وأما من حلق قبل أن ينحر ، فلا شيء عليه عنده .

18977 - وقال أبو حنيفة : من حلق قبل أن ينحر ، أو قبل أن يرمي فعليه الفدية .

18978 - وقال الشافعي : إن حلق قبل أن يرمي ، أو قبل أن ينحر ، فلا شيء عليه .

18979 - وسنزيد هذه المسألة بيانا في باب جامع الحج ، إن شاء الله - عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية