الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
975 931 - وذكر مالك في هذا الباب : عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك ، فاستنت شرفا أو شرفين ، كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر ، [ ص: 13 ] فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك له حسنات ، فهي له أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها فهي لذلك ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر " . وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر فقال : " لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره


19251 م - قال أبو عمر : في هذا الحديث من الفقه : أن الأعيان لا يؤجر الإنسان في اكتسابها لأعيانها ، وإنما يؤجر بالنية الحسنة في استعمال ما ورد الشرع من الفضل في عمله ؛ لأنها خيل كلها ، وقد اختلفت أحوال مكتسبيها لاختلاف النيات فيها .

19252 - وفيه : أن الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سبب واصل وإن لم يقصد فضل الحسنة تفضلا من الله على عباده المؤمنين ، وليس كذلك حكم السيئات ، والحمد لله .

[ ص: 14 ] 19253 - يدلك على ذلك في هذا الحديث أنه لم يذكر حركات الخيل وتقلبها ورعيها وروثها في سيئات المفتخر بها ، كما ذكرها في حسنات الرابط الذي ربطها ، ألا ترى أنها لو قطعت حبلها نهارا ، فأفسدت زرعا ، أو رمحت فقتلت أو جنت : أن صاحبها بريء من الضمان عند جميع أهل العلم ، ويبين ذلك أيضا قوله في هذا الحديث : ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها ، كان ذلك له حسنات .

19254 - ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - : من كان منتظرا الصلاة فهو في الصلاة .

19255 - وقال - صلى الله عليه وسلم - : انتظار الصلاة بعد الصلاة ذلكم الرباط ، وذلكم الرباط ؛ لأن انتظار الصلاة سبب شهودها .

19256 - وكذلك انتظار العدو في الموضع المخوف ، فيه إرصاد للعدو ، وقوة لأهل الموضع ، وعدة للقاء العدو ، وسبب لذلك كله .

19257 - وقد أوضحنا هذه المعاني في " التمهيد " بالشواهد ، فمن أراد الوقوف عليها قابلها هناك .

19258 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ : قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا بشر بن حجر ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من صحاب كنز . . . " . فذكر الحديث على ما ذكرناه في باب الكنز .

[ ص: 15 ] قال : ثم سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخيل ؟ فقال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وهي لرجل أجر ، ولرجل ستر وجمال ، وعلى آخر وزر ، فأما الذي هي له أجر فهو الذي يتخذها في سبيل الله ، فإن مرت بمرج ، فأكلت منه فما غيبته في بطونها ، فهو له أجر ، وإن مرت بنهر ، فشربت منه ، فما شربت في بطونها ، فهو له أجر وإن استنت شرفا كان له أجر . . " . . حتى ذكر أرواثها وأبوالها ، " وأما الذي له ستر وجمال ، فرجل يتخذها تكرما وتجملا ولاسيما من ظهرها وبطونها في عسره ويسره ، وأما الذي هي عليه وزر ، فرجل ، يتخذها بذخا وأشرا ، ورياء أو سمعة " .

ثم سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر ؟ فقال : " ما أنزل علي فيها شيء ، غير الآية الفاذة الجامعة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ آخر سورة الزلزلة ] .

19259 - وأما قوله : فما أصابت في طيلها ، فالطيل . وهو مكسور الأول ويقال فيه : طول وطيل .

19260 - قال طرفة :

[ ص: 16 ]

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لك الطيل المرخا وثنياه باليد

19261 - وقد أتينا من الشواهد على الطيل بكثير من الشعر في " التمهيد " والحمد لله .

19262 - وأما قوله : فاستنت شرفا أو شرفين ، فإن الاستنان أن يلج الفرس في عدوه في إقباله وإدباره .

19263 - يقال منه : جاءت الإبل سننا أي تستن في عدوها وتسرع .

19264 - ومنه المثل القائل : " استنت الفصال حتى القرعا " ، تضرب [ ص: 17 ] للرجل الضعيف يرى الجلداء يفعلون شيئا ، فيفعل مثله .

19265 - قال عدي بن زيد :

فبلغنا صنعه حتى نشا فاره البال لجوجا في السنن . 19266 - فاره البال ، أي : ناعم البال .

19267 - وقال أعشى همدان :


لا تأسين على شيء فكل     فتى إلى منيته يسنن في عنف

.

19268 - ومنها شواهد غيرها قد ذكرنا أكثرها في " التمهيد " .

19269 - والشرف والشرفان : الكدية والكديتان ، والجبل الصغير المعتدل [ ص: 18 ] والجبلان .

19270 - وأما قوله : تغنيا ، فيريد استغناء يقال فيه : تغنيت تغنيا ، وتغانيت تغانيا ، واستغنيت استغناء وشواهده بالشعر في " التمهيد " .

19271 - وأما قوله : ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

19272 - ( أحدها ) : حسن ملكتها ، والإحسان إليها ، وركوبها غير مشقوق عليها ، وخص الرقاب والظهور بالذكر ؛ لأنه قد تستعار الرقاب في موضع الحقوق اللازمة والفروض الواجبة ، وفي معظم الشيء كما قال الله - عز وجل - : فتحرير رقبة [ النساء : 92 ] يريد الإنسان كله .

[ ص: 19 ] 19273 - وكما قال كثير :


غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا     غلقت لضحكته رقاب المال

.

19274 - وقد يجعلون العنق في مثل هذا كالرقبة ، كما جاء في الحديث : " فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " .

[ ص: 20 ] 19275 - قال : هذا لم يوجب على مالك الخيل فيها شيئا ، يجب عليه إخراجه لعمره من مسكين أو فقير أو قريب أو غيرهم .

19276 - وهذا مذهب من لا يرى في الأموال حقا سوى الزكاة ، وهم جماعة من العلماء .

19277 - ومن حجتهم حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أديت زكاة مالك ، فقد قضيت ما عليك " .

19278 - وقال ابن عباس : من أدى زكاة ماله ، فلا جناح عليه ألا يتصدق .

19279 - وقد ذكرنا إسناد هذين الحديثين في " التمهيد " وذكرنا في باب الكنز من هذا الكتاب في هذا المعنى ما هو الشفاء والحمد لله .

19280 - وقد تأول من قال بهذا في قول الله - عز وجل - : وفي أموالهم حق معلوم [ المعارج : 24 ] أنه الزكاة ، كما قال : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] .

[ ص: 21 ] 19281 - وقال آخرون : معنى قوله : " ولا ينسى حق الله في رقابها ولا ظهورها " إطراق فحلها وإفقار ظهرها ، وحمل عليها في سبيل الله .

19282 - وإلى هذا ونحوه ذهب ابن نافع فيما أحسب ؛ لأن يحيى بن يحيى سأله عن ذلك ؟ فقال : يريد ألا ينسى يتصدق لله تعالى ببعض ما يكسبه عليها .

19283 - وهذا مذهب من قال في المال حقوق سوى الزكاة ؛ لقول الله - عز وجل - : في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم [ المعارج : 24 ، 25 ] .

19284 - وممن قال ذلك : الشعبي ومجاهد ، والحسن وقد ذكرنا الأسانيد عنه بذلك في " التمهيد " .

19285 - وذكر ابن أبي شيبة ، عن ابن علية ، عن أبي حيان ، قال : حدثني مزاحم بن زفر ، قال : كنت جالسا عند عطاء ، فجاءه أعرابي ، فقال : إن لي إبلا ، فهل علي فيها حق بعد الصدقة ؟ قال : نعم .

19286 - وحجة هؤلاء حديث قيس بن عاصم ، قال يا رسول الله : ما خير المال ؟ قال : " نعم المال الأربعون والأكثر الستون ، وويل لأصحاب المئين إلا من أدى حق الله في رسلها ونجدتها ، وأفقر ظهرها وأطرق فحلها ، ومنح [ ص: 22 ] غزيرتها ونحر سمينها فأطعم القانع والمعتر ، وذكر تمامها .

19287 - وقد ذكرنا تمام الخبر في " التمهيد " .

19288 - وقال آخرون : " ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها " : الزكاة الواجبة لله تعالى فيها .

19289 - ولا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل إلا أبا حنيفة ، فإنه أوجب الزكاة فيها إذا كانت الخيل سائمة ذكورا وإناثا يطلب فسلها .

19290 - وقد ذكرنا هذه المسألة بما فيها للعلماء في كتاب الزكاة .

19291 - وأما قوله : فرجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام : فالفخر والرياء معروفان .

19292 - وأما النواء فمصدر ناوأت العدو مناوأة ، ونواء أو هي المناوأة .

19293 - قال أهل اللغة : أصله من ناء إليك ونؤت إليه أي نهض إليك ونهضت إليه .

19294 - قال بشر بن أبي خازم :

[ ص: 23 ]

بلت قتيبة في النواء بفارس     لا طائش رعش ولا وقاف

.

19295 - وقال أعشى باهلة :

[ ص: 24 ]

أما يصبك عدو في مناوأة يوما     فقد كنت تستعلي وتنتصر

.

19296 - وقال أوس بن حجر :

[ ص: 25 ]

إذا أنت ناوأت الرجال ولم تنؤ     بقرنين غرتك القرون الكوامل
ولا يستوي قرن النطاح الذي به     تنوء وقرن كلما نؤت مائل

.

19297 - وأما قوله : الآية الجامعة الفاذة ، فالفاذ هو الشاذ ويقال : فاذة وفذة وفاذ وفذ ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ . . . . . " .

19298 - ومعنى ذلك أنها منفردة في عموم الخير والشر ، لا آية أعم منها .

19299 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا في " التمهيد " .

19300 - وقوله في الحمر في هذا الحديث مثل قوله عليه السلام : " في كل كبد رطبة أجر " .

[ ص: 26 ] 19301 - وكان الحميدي - رحمه الله - يقول : إذا نحرت حمارا فانظر كيف تنحره .

19302 - قال أبو عمر : أما الخيل فقد جاء فيها ما جاء ، وسيأتي في هذا المعنى زيادة عند قوله : عوتبت الليلة في الخيل .

19303 - وروى سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن مسلم بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رئي صباحا وهو يمسح وجه فرسه بردائه ، وقال : " إن جبريل عاتبني الليلة في الخيل " .

19304 - أخبرناه عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا الخشني : قال حدثنا ابن أبي عمر ، قال : حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن مسلم بن يسار ، فذكره .

19305 - وفي هذا الحديث دليل ، والله أعلم ، على أن كلامه ذلك في الخيل كان بوحي من الله - عز وجل - ؛ لأنه قال في الحمر : " لم ينزل علي فيها شيء إلا الآية الجامعة الفاذة " .

19306 - فكأن قوله في الخيل كان بوحي ، والله أعلم ، ألا ترى إلى قوله : " إني عوتبت الليلة في الخيل " ؟

19307 - وروى زيد بن الحباب ، قال : حدثنا رجاء بن أبي سلمة ، قال :

[ ص: 27 ] حدثنا سليمان بن موسى ، قال : سمعت عجلان بن سهل الباهلي يقول : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : من ارتبط فرسا في سبيل الله لم يرتبطه رياء ولا سمعة ، كان من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية .

19308 - وأما حديثه في هذا الباب :

التالي السابق


الخدمات العلمية