الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
978 934 - وذكر مالك في هذا الباب عن زيد بن أسلم ؛ قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح ، إلى عمر بن الخطاب ، يذكر له جموعا من الروم ، وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر بن الخطاب : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة ، يجعل الله بعده فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وأن الله تعالى يقول في كتابه ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [ آل عمران : 200 ]


[ ص: 44 ] 19349 - قال أبو عمر : قد روي هذا الخبر متصلا عن عمر بأكمل من هذه الرواية .

19350 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا عبد الله بن يونس قال : حدثنا بقي ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : جاء أبو عبيدة الشام حضر هو وأصحابه ، فأصابهم جهد شديد ، فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر : سلام عليك ، أما بعد فإنها لم تكن شدة إلا جعل الله بعدها مخرجا ، ولن يغلب عسر يسرين ، وكتب إليه ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [ آل عمران : 200 ] ، فكتب إليه أبو عبيدة : سلام عليك أما بعد ، فإن الله - عز وجل - يقول : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد . . . إلى قوله متاع الغرور [ الحديد : 20 ] فقرأه عمر على الناس وقال : يا أهل المدينة : إنما كتب أبو عبيدة يعرض لكم ، ويحض الناس على الجهاد .

وقال زيد : قال إني لقائم في السوق إذا أقبل قوم ينصون قد اطلعوا من التيه ، فيهم حذيفة بن اليمان يبشرون الناس ، قال : فخرجت نشتد حتى دخلت على عمر ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! أبشر بنصر الله والفتح ، فقال عمر : الله أكبر رب قائل لو كان خالد بن الوليد !

19351 - قال أبو عمر : في هذا الخبر : ما كانوا عليه من المشورة في أمورهم وقد أتى الله على من كان أمرهم شورى بينهم . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاور [ ص: 45 ] أصحابه في الحروب ؛ ليقتدى به .

19352 - وفيه أن الرئيس حق عليه الحذر على جيشه ، و ألا يقدمهم على الهلكة ؛ ولذلك أوصى بعض السلف من الأمراء أمير الجيش ، فقال له : كن كالتاجر الكيس الذي لا يطلب ربحا إلا بعد إحراز رأس ماله .

19353 - فهذا معنى كتاب أبي عبيدة ، والله أعلم .

19354 - وأما جواب عمر ، فجواب مؤمن موقن بما وعد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من ظهور دينه على الدين كله . وأنه ستفتح عليه ديار كسرى وقيصر ، ولذلك أمره بالصبر وانتظار الفرج .

19355 - وهو أمر له بالبقاء ؛ لأنه أدرب ، وصار في بلادهم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموهم فاثبتوا " ويروى فاصبروا .

19356 - حدثني عبد الوارث بن سليمان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى ، قال : أخبرنا أبو إسحاق الفزاري ، عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكاتبه ، قال : كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحرورية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال : " يا أيها الذين آمنوا لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، [ ص: 46 ] فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف .

19357 - ورواه ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة بإسناده ، قال فيه : فإذا لقيتموهم فاثبتوا ، فإن جلبوا وصاحوا فعليكم بالصمت .

19358 - أخبرنا سعيد بن يعيش وعبد الوارث ، قالا : حدثنا قاسم : قال : حدثنا محمد بن غالب ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال " لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، وإذا لقيتموهم فاثبتوا " .

19358 - وحدثنا عبد الوارث ويعيش قالا : حدثنا قاسم ، قال : وحدثنا محمد بن غالب ، قال : حدثنا عفان قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " لا تمنوا لقاء العدو ، سلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا واعلموا أن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف . "

19359 وأما أبو عبيدة فولاه عمر بن الخطاب قيادة الجيوش بالشام في أول ولايته ، وعزل خالد بن الوليد عنه ، وذلك سنة أربع عشرة ، وكانت اليرموك سنة خمس عشرة ، فاجتمعت الروم في جمع ولم تجتمع في مثلها قبل ولا بعد .

[ ص: 47 ] قال ابن إسحاق : في مائة ألف .

وقال ابن الكلبي : في ثلاثمائة ألف ، وعليهم ماهانو - رجل " من البابا ومن كان تنصر ولحق بالروم ، وكانت الوقعة في رجب ، فنصر الله المسلمين وأظهرهم ، وحضرت أسماء بنت أبي بكر مع زوجها الزبير ، فحدثت قالت : إن كان الرجل من العدو يمر ليسعى ، فتصيب قدماه عروة أطناب خبائي ، فيسقط على وجهه ميتا ما أصاب السلاح .

19360 - وروى محمد بن أبي الحسن ، عن إسحاق بن زائدة ، عن أبي واقد الليثي قال : رأيت الرجل يوم اليرموك من العدو فيسقط فيموت ، فقلت في نفسي لو أني أضرب أحدهم بطرف ردائي ظننت أنه يموت ، وجعل الله للمسلمين من الغم الشديد الذي كان نزل بهم فرجا ومخرجا كما قال عمر - رضي الله عنه .

19361 - وأما قوله : لن يغلب عسر يسرين ، فإنه أراد معنى قول الله تعالى فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا [ 5 : 6 من سورة الشرح ] .

19362 - قال أبو عبيدة وغيره من أهل العلم باللغة : إن النكرة إذا ثنيت كانت اثنتين ، فقوله : يسرا ويسرا يسران ، والعسر والعسر عسر واحد ، كأنه جاء للتأكيد ؛ لأنه معرفة ، هكذا قالوا أو معناه .

19363 - قال أبو عمر : أحسن ما روي في قول الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " . [ آل عمران : 200 ] ما قاله محمد بن كعب القرظي .

[ ص: 48 ] 19364 - رواه ابن وهب قال : أخبرني أبو صخر المزني ، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [ آل عمران : 200 ] قال : اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم عليه ، ورابطوا عدوكم وعدوي حتى يترك دينه لدينكم ، واتقوا الله في ما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون إذا لقيتموني .

19365 - وأخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل الحافظ قال : أخبرنا أبو إسحاق محمد بن قاسم بن شعبان الفقيه ، قال : حدثنا إبراهيم بن عثمان ، والحسين الضحاك ، واللفظ لإبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، قال : حدثنا محمد بن عمر الواقدي ، عن هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : كتب أبو بكر الصديق إلى عمرو بن العاص ( رضي الله عنهما ) : أما بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجمع ، وأن الله تعالى لم ينصرنا مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - بكثرة عدد ، ولا بكثرة خيل ولا سلاح ، ولقد كنا ببدر وما معنا إلا فرسان وإن نحن إلا نتعاقب الإبل ، وكنا يوم أحد ، وما معنا إلا فرس واحد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركبه ، ولقد كان الله يظهرنا ويعيننا على من خالفنا ، فاعلم يا عمرو أن أطوع الناس لله تعالى أشدهم بغضا للمعصية ، وأن من خاف الله تعالى ردعه خوفه عن كل ما لله تعالى معصية ، فأطع الله تعالى ، وسم ومر أصحابك بطاعته ، فإن المغبون من حرم طاعة الله ، واحذر على أصحابك [ ص: 49 ] البيات ، وإذا نزلت منزلا ، فاستعمل على أصحابك أهل الجلد والقوة ؛ ليكونوا نعم الذين يحرضونهم ويحفظونهم ، وقدم أمامك الطائع حتى يأتوا بالخير ، وشاور أهل الرأي والتجربة ، ولا تستبد برأيك دونهم ، فإن في ذلك احتقارا للناس ومعصية لهم ، فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحرب ، وإياك والاستهانة بأهل الفضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد عرفنا وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار عند موته حين قال : " أحسنوا إلى محسنهم ، وجاوزوا عن مسيئهم ، وقرب بهم منك ، وأدنهم واستشرهم ، أشركهم في أمرك ، ولا يغب عني خبرك كل يوم بما فيه إن قدرت على ذلك ، وأشبع الناس في بيوتهم ، ولا تشبعهم عندك ، وتعاير أهل الرعاية ، والأحداث بالعقوبة ، من غير تعد عليهم ، وليكن تقدمك إليهم في ما تنهى عنه قبل العقوبة تبرأ إلى أهل الذمة من معرتهم ، واعلم أنك مسئول عما أنت فيه ، فالله الله يا عمرو فيما أوصيك فيه - جعلني الله وإياك من رفقاء محمد - صلى الله عليه وسلم - في دار المقامة ، وقد كتبت إلى خالد بن الوليد يمدك بنفسه ومن معه ، فله مدد في الحرب ، وهو ممن يعرف الله تعالى ، فلا يخالف ، وشاوره ، والسلام عليك .

التالي السابق


الخدمات العلمية