الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
980 [ ص: 54 ] ( 3 ) باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو

936 - ذكر فيه مالك : عن ابن شهاب ، عن ابن لكعب بن مالك ؛ قال " حسبت أنه قال : عبد الرحمن بن كعب " أنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين قتلوا ابن أبي الحقيق ، عن قتل النساء والولدان ، قال : فكان رجل منهم يقول : برحت بنا امرأة ابن أبي الحقيق بالصباح : فأرفع السيف عليها ، ثم أذكر نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكف ، ولولا ذلك استرحنا [ ص: 55 ] منها .

937 - وذكر عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة ، فأنكر ذلك ، ونهى عن قتل النساء والصبيان .


19382 - قال أبو عمر : أما حديثه عن ابن شهاب فحديث مرسل لم يسنده [ ص: 56 ] أحد عن مالك إلا الوليد بن مسلم ، فقال فيه : عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك .

19383 - وقد ذكرنا الإسناد عنه بذلك في " التمهيد " .

19384 - وأما رواة الموطأ عن مالك ، فاختلفوا فيه .

19385 - فقال ابن القاسم ، وابن بكير ، وبشر بن عمر ، وأبو المصعب عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن ابن كعب بن مالك ، حسبت أنه قال عبد الرحمن كما قال يحيى .

19386 - وقال القعنبي : حسبت أنه قال : عبد الله بن كعب ، أو عبد الرحمن بن كعب .

19387 - وقال : ابن وهب عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن ابن لكعب بن مالك ، لم يقل : عبد الله ، ولا عبد الرحمن ، ولا حسبت شيئا من ذلك .

19388 - وأما اختلاف أصحاب ابن شهاب في إسناد هذا الحديث فكثير جدا وقد ذكرناه في " التمهيد " .

19389 - وأما ابن أبي الحقيق فرجل من اليهود ويسمى سلاما ، ويكنى أبا رافع وقد ذكرنا خبره في كتاب " الدرر في اختصار المغازي والسير " . ومن [ ص: 57 ] الذين قتلوه بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوضحنا خبره هناك وفي [ ص: 58 ] " التمهيد " .

19390 - وأما حديثه عن نافع ، فمرسل عند أكثر أهل الرواية كما رواه يحيى .

19391 - وقد أسنده عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عبد الرحمن : الوليد بن مسلم ، ومحمد بن المبارك الصوري ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وإسحاق بن محمد [ ص: 59 ] الرازي ، قد ذكرنا الأسانيد عنهم في " التمهيد " .

19392 - وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

19393 - وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب : ابن عباس ، وعائشة ، وأبو سعيد الخدري ، وأنس ، والأسود [ ص: 60 ] بن سريع ، وغيرهم .

19394 - وأجمع العلماء على القول بذلك ، ولا يجوز عندهم قتل نساء الحربيين ولا أطفالهم ؛ لأنهم ليسوا ممن يقاتل في الأغلب ، والله - عز وجل - يقول : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم [ البقرة : 190 ]

19395 - واختلفوا في النساء والصبيان إذا قاتلوا :

19396 - فجمهور العلماء على أنهم إذا قاتلوا قوتلوا .

19397 - وممن قال ذلك : الثوري ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث ، [ ص: 61 ] والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور كل هؤلاء وغيرهم ينهون عن قتلهم إذا لم يقاتلوا ؛ لأنهم مال للمسلمين إذا سبوا استحيوا .

19398 - وقد كان حكم رسول الله في مغازيه أن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذراري والعيال ، والآثار بذلك متواترة ، وهو أمر مجتمع عليه ؛ إلا أن تقاتل المرأة وتأتي ما يوجب القتل .

19399 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يزيد بن هارون : عن هشام عن الحسن ، قال : إذا قاتلت المرأة من المشركين ، أو خرجت معهم إلى دار المسلمين فلتقتل .

19400 - قال أبو عمر : قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة والخندق [ ص: 62 ] وأم قرفة ، وقتل يوم الفتح قينتين كانتا تعينا ابن خطل بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

19401 - أخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير - بن زهير بن حرب - قال : حدثني : عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن أبي الزناد ، عن المرقع بن صيفي ، عن حنظلة الكاتب ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ، فمر بامرأة مقتولة ، والناس مجتمعون عليها ، ففرجوا له : فقال : " ما كانت هذه تقاتل ؛ الحق خالدا ، فقل له ، لا تقتل امرأة ولا ذرية ولا عسيفا " .

[ ص: 63 ] 19402 - وروى وكيع ، عن صدقة الدمشقي ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، قال : كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ البقرة : 190 ] فكتب إلى أن ذلك في النساء والذرية : ومن لم ينصب لكم الحرب .

19403 - وروى سنيد ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عمرو بن ميمون ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى جعونة وكان أمره على الأدراب ألا تقتل امرأة ولا [ ص: 64 ] شيخا ولا صغيرا ولا راهبا .

19404 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبد الله بن نمير ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن أسلم مولى عمر أن عمر كتب إلى عماله ينهاهم عن قتل النساء والصبيان ، ويأمرهم بقتل من جرت عليه المواسي .

19405 - قال : وحدثنا عبد الله بن نمير ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كتب عمر إلى أمراء الأجناد : لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ، واقتلوا من جرت عليه المواسي .

19406 - وفي كتاب ابن عباس مجاوبا لنجدة الحروري ، قال له : ذكرت أن العالم صاحب موسى قد قتل الوليد ولو كنت تعلم من الولدان ما علم ذلك العالم [ ص: 65 ] من ذلك الوليد ما قتلتهم ، ولكنك لا تعلم ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الولدان فاعتزلهم .

19407 - وهو حديث مروي عن ابن عباس من وجوه كثيرة صحاح .

19408 - واختلف الفقهاء في رمي الحصن بالمنجنيق إذا كان فيه أسارى مسلمون ، وأطفال المشركين .

19409 - فقد قال مالك : أما رمي الكفار بالمنجنيق ، فلا بأس بذلك .

[ ص: 66 ] 19410 - قال ولا تحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى من المسلمين ؛ لقول الله - عز وجل - لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ الفتح : 25 ] .

19411 - وقال أبو حنيفة ، والثوري : لا بأس برمي حصون الكفار ، وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفال ، ولا بأس أن يحرق الحصن ويقصد بذلك من فيه من الكفار ، فإن أصابوا في ذلك مسلما فلا دية ، ولا كفارة .

19412 - وقال الأوزاعي : إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين لم يرموا ؛ لقول الله - عز وجل - ولولا رجال مؤمنون . . . الآية [ الفتح : 25 ] .

19413 - قال : ولا يحرق المركب الذي فيه أسارى المسلمين ، ويرمى الحصن . فإن مات أحد من المسلمين فهو خطأ .

19344 - قال الشافعي : لا بأس برمي الحصن ، وفيه أسارى المسلمين وأطفال ، ومن أصيب ، فلا شيء فيه ، وإن تترسوا ففيه قولان :

( أحدهما ) : يرمون .

( والآخر ) : لا يرمون . إلا أن يكونوا إذا رمى أحدهم أيقن بضرب المشرك ويتوقى المسلم جهده ، فإن أصاب في هذه الحال مسلما ، وعلم أنه مسلم ، فالدية مع الرقبة وإن لم يعلمه مسلما ، فالرقبة وحدها .

19415 - قال أبو عمر : روى ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار [ ص: 67 ] من المشركين يبيتون ، فيصاب من ذراريهم ونسائهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هم منهم " ، وربما قال : " هم من آبائهم " .

19416 - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر سراياه بالغارة على المشركين وبالتبييت ، ويقول : " إذا سمعتم أذانا فأمسكوا ، وإن لم تسمعوا أذانا ، فأغيروا " .

19417 - وقال لأسامة بن زيد " أغر على أبنا صباحا وحرق " .

19418 - وبعث - صلى الله عليه وسلم - غالب بن عبد الله الليثي في سرية ، قال جندب بن مكيث : كنت فيهم ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشن الغارة على بني الملوح [ ص: 68 ] بالكديد .

19419 - وقد ذكرنا هذه الآثار كلها بأسانيدها في " التمهيد " .

19420 - وبهذا عمل الخلفاء الراشدين بعده - صلى الله عليه وسلم - لمن بلغته الدعوة فيمن قال بهذه الأحاديث ، زعم أن قوله تعالى - عز وجل - : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية [ الفتح : 25 ] خصوص في أهل مكة .

19421 - وأما مالك ، والأوزاعي ، فذهبا إلى أن الآية عامة في سائر الناس ، وأن حديث الصعب بن جثامة ، وما كان مثله من التبييت والغارة ، فليس فيه ذكر مسلم يتترس به .

19422 - وقول مالك أصح ما قيل في ذلك ؛ لتحريم الله دم المسلم تحريما مطلقا ، لم يخص به موضعا من موضع ، وإنما قتل الشيوخ والرهبان والفلاحين ، ويأتي ذكره في حديث أبي بكر بعد هذا إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية