الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
106 88 - وأما حديث مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، [ ص: 91 ] أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : لقد شق علي اختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر ، إني لأعظم أن أستقبلك به . فقالت : ما هو ؟ ما كنت سائلا عنه أمك ، فسلني عنه . فقال : الرجل يصيب أهله يكسل ولا ينزل ؟ فقالت : إذا جاوز الختان الختان ؛ فقد وجب الغسل . فقال أبو موسى الأشعري : لا أسأل عن هذا أحدا ، بعدك أبدا .


2853 - فإنه وإن لم يكن مسندا في ظاهره - فإنه يدخل في المسند بالمعنى والنظر ؛ لأنه محال أن ترى عائشة نفسها حجة على غيرها من الصحابة في حين تنازعهم واختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم ، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه ؛ لأن كل واحد منهم ليس بحجة على صاحبه عند التنازع في الرأي : فلم يبق إلا أن تسليم أبي موسى لها كان لعلمه أن ما احتجت به كان عن رسول الله .

2854 - ومع ما ذكرنا من هذا الاستدلال فقد روي حديثها هذا عنها مسندا عن النبي - عليه السلام - .

2855 - فمن ذلك ما رواه أبو قرة موسى بن طارق عن مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي موسى عن عائشة ، عن النبي - عليه السلام - قال : " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " .

2856 - وروى علي بن زيد ، عن ابن المسيب قال : نازع أبو موسى ناسا من الأنصار ، فقالوا : الماء من الماء . قال سعيد : فانطلقت أنا وأبو موسى حتى دخلنا على [ ص: 92 ] عائشة ، فقال لها أبو موسى الذي تنازعوا فيه . فقالت عائشة : عندي الشفاء من ذلك . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جلس بين الشعب الأربع ، وألصق الختان بالختان ، فقد وجب الغسل " .

2857 - وروى حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، عن عبد الله بن رباح ، عن عبد العزيز بن النعمان ، عن عائشة قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقى الختانان اغتسل " .

2858 - وروى القاسم بن محمد وعطاء بن أبي رباح ، وأم كلثوم بنت أبي بكر كلهم عن عائشة قالت : " كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعله فنغتسل " .

2859 - وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث عن عائشة كلها في التمهيد ، وهي مرفوعة مسندة ، فدل على صحة التأويل المذكور ، وبالله التوفيق .

2860 - وروى مثل ذلك جماعة من الصحابة أيضا : فمن ذلك حديث شعبة ، وسعيد ، وأبان ، وهمام ، وحماد بن سلمة ، وهشام ، وكلهم عن قتادة ، عن الحسن ، عن رافع عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال : " إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل " .

2861 - وروى عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 93 ] " إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل " .

2862 - وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد .

2863 - وعلى هذا مذاهب أهل العلم ، وبه الفتوى في جميع الأمصار ، فيما علمت .

2864 - وممن قال بذلك من الفقهاء مالك وأصحابه ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والليث بن سعد ، والحسن بن حي ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، والطبري .

2865 - واختلف أصحاب داود في هذه المسألة : فمنهم من قال في هذه المسألة بما عليه الفقهاء والجمهور على ما وصفنا ، من إيجاب الغسل بالتقاء الختانين . ومنهم من قال : لا غسل إلا بإنزال الماء الدافق ، وجعل في الإكسال الوضوء .

2866 - واحتج من ذهب إلى هذا بما رواه يحيى القطان وغيره عن هشام بن عروة ، قال : أخبرني أبو أيوب الأنصاري ، قال : أخبرني أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله ! إذا جامع الرجل امرأته فلم ينزل ، قال : " يغسل ما مس المرأة ثم يتوضأ ، ويصلي " .

2867 - وهذا الحديث قد صح عن أبي بن كعب ، وصح بما قدمنا أنه منسوخ ، وأن الفتيا بذلك كانت في أول الإسلام ، ثم أمروا بالغسل ، فلا حجة في هذا عند أحد يعرف ما يقول .

[ ص: 94 ] 2868 - وفي حديث مالك ما يدل على أن أبي بن كعب كان يفتي بما حدث به عنه أبو أيوب ، حتى صح عنده بعد ما ذكره عنه سهل بن سعد ، فنزع عن ذلك ، ورجع عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية