الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
982 938 - مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام ، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ، وكان أمير ربع من تلك الأرباع . فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر : إما أن تركب ، وإما أن أنزل .

[ ص: 69 ] فقال أبو بكر : ما أنت بنازل ، وما أنا براكب . إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله . ثم قال له : إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له . وستجد قوما فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر ، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف ، وإني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة ، ولا صبيا ، ولا كبيرا هرما ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تخربن عامرا ، ولا تعقرن شاة ، ولا بعيرا ، إلا لمأكلة . ولا تحرقن نحلا ، ولا تفرقنه ، ولا تغلل ، ولا تجبن .


19423 - قال أبو عمر : روى هذا الحديث سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد كما رواه مالك ، فلما انتهى إلى قوله " فدعهم وما حبسوا أنفسهم له " ، قال سفيان : يعني الرهبان ؛ قال : " وستجد قوما قد فحصوا عن أوساط رءوسهم وجعلوا حولها أمثال العصائب فاضرب ما فحصوا من أوساط رءوسهم بالسيف " ، قال سفيان : يعني القسيسين ، ثم ذكر تمام الخبر كما ذكره مالك سواء .

19424 - قال أبو عمر : افتتح أبو بكر الصديق في آخر أيامه قطعة من الشام ، وكان له عليها أمراء ، منهم : أبو عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة ، والأخبار بذلك عند أهل السير مشهورة - وكان يزيد على ربع من الأرباع المشهورة .

[ ص: 70 ] 19425 - وفي ركوب يزيد ومشي أبي بكر رخصة في أن الجليل من الرجال راجلا مع من دونه راكبا للتواضع ، واحتساب الخطى في سبيل الله كما ذكر .

19426 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار أو حرمه الله على النار " .

رواه مالك بن عبد الله الخثعمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

19427 - وكان من سنتهم تشييع الغزاة ابتغاء الثواب ، وفيه ما كانوا عليه من حسن الأدب ، وجميل الهدي ، وأداء ما يلزمهم من توقير أئمة العدل ، وإجلالهم وبرهم .

19428 - وأما قوله : " إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فإنه أراد الرهبان المنفردين عن الناس في الصوامع لا يخالطون الناس ، ولا يطلعون على عورة ، ولا فيهم شوكة ولا نكاية برأي ، ولا عمل .

19429 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج بن أرطاة ، عن يحيى بن جدعان ، عن يحيى بن المطيع أن أبا بكر [ ص: 71 ] الصديق ( رضي الله عنه ) بعث جيشا ، فقال : " اغزوا باسم الله ، اللهم اجعل وفاتهم شهادة في سبيلك " .

ثم قال : " إنكم تأتون قوما في صوامع لهم ، فدعوهم ، وما أعملوا أنفسهم له ، وتأتون قوما قد فحصوا عن أوساط رءوسهم ، فاضربوا ما فحصوا عنه " .

19430 - وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن يحيى بن سعيد هذا الحديث كما رواه مالك ، إلا أنه قال : وستجد أقواما فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر ، وتركوا منها أمثال العصائب ، فاضربوا ما فحصوا عنه بالسيف " .

ثم ذكر تمام الحديث على حسب ما ذكره مالك .

19431 - قال عبد الرزاق : الذين فحصوا عن رءوسهم الشمامسة ، والذين حبسوا أنفسهم هم الرهبان الذين في الصوامع .

19432 - قال أبو عمر - الشمامسة هم أصحاب الديانات ، والرهبان المخالطون للناس من أهل دينهم ، وفيهم الرأي والمكيدة ، والعون بما أمكنهم ، وليسوا كالرهبان الفارين عن الناس المعتزلين لهم في الصوامع .

19433 - روى معمر عن الزهري ، قال : كان أبو بكر إذا بعث جيوشه إلى [ ص: 72 ] الشام ، إنكم ستجدون قوما فحصوا عن رءوسهم ففلقوا رءوسهم بالسيوف ، وستجدون قوما قد حبسوا أنفسهم في الصوامع فذروهم بخطاياهم .

19434 - واختلف الفقهاء في قتل أصحاب الصوامع والعميان ، والزمنى .

19435 - فقال مالك : لا يقتل الأعمى ، ولا المعتوه ، ولا المقعد ، ولا أصحاب الصوامع . الذين طينوا الباب عليهم ، لا يخالطون الناس .

19436 - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

19437 - قال مالك : وأرى أن يترك لهم من الأموال مقدار ما يعيشون به ، إلا أن يخاف من أحدهم ، فيقتل .

19438 - وقال الثوري : لا يقتل الشيخ والمرأة والمقعد .

19439 - وقال الأوزاعي : لا يقتل الحراس والزراع ، ولا الشيخ الكبير ، ولا المجنون ، ولا الراهب .

19440 - وقال الليث : لا يقتل الراهب في صومعته ، ويترك له من ماله القوت .

19441 - وعن الشافعي روايتان : ( إحداهما ) : أنه يقتل الشيخ والراهب .

19442 - واختاره المزني ، وقال : هو أولى بأصله قال : لأن كفر جميعهم [ ص: 73 ] واحد ، وإنما حلت دماؤهم بالكفر .

19443 - قال الشافعي : قد يحتمل أن يكون نهي أبي بكر ( رضي الله عنه ) عن قتلهم ؛ لئلا يشتغلوا بالمقام على الصوامع ، فيفوتهم ما هو أعود عليهم ، كما أنه قد نهى عن قطع الشجر المثمر ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد وعدهم بفتح الشام .

19444 - واحتج الشافعي في قتلهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل دريد بن الصمة يوم حنين .

19445 - قال أبو عمر : يحتج الشافعي بحديث سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اقتلوا الشيوخ المشركين ، واستبقوا شرخهم " .

[ ص: 74 ] 19446 - رواه قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

19447 - وقال البخاري : سماع الحسن بن سمرة صحيح .

19448 - وقال الطبري : إن قاتل الشيخ أو المرأة أو الصبي قتلوا .

19449 - وهو قول سحنون .

19450 - واحتج الطبري بما رواه الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى امرأة فقال : " من قتل هذه ؟ " فقال رجل : أنا يا رسول الله نازعتني قائم سيفي ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

19451 - قال أبو عمر : لم يختلف العلماء فيمن قاتل من النساء والشيوخ أنه مباح قتله ، ومن قدر على القتال من الصبيان ، وقاتل ، قتل .

19452 - وقد روى داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث جيوشه ، قال : " لا تقتلوا أصحاب الصوامع " .

[ ص: 75 ] 19453 - وأما قول أبي بكر - رضي الله عنه - : " لا تقتلوا امرأة ، ولا صبيا " ، فقد تقدم حكم ذلك في صدر هذا الباب .

19454 - وأما قوله : " لا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تخربن عامرا " ، إلى آخر الحديث ، وقد خالف مالك في ذلك ، فقال : لا بأس بقطع نخل الكفار وثمارهم ، وحرق زروعهم . وأما المواشي فلا تحرق .

19455 - والحجة له في خلافة أبي بكر ( رضي الله عنه ) " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النضير وحرقها " ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تعذيب البهائم ، وعن المثلة وأن يتخذ شيء فيه الروح " .

19456 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : لا بأس بتخريب ديارهم [ ص: 76 ] وقطع الشجر وحرقها ؛ لأن الله تعالى يقول ما قطعتم من لينة الآية [ الحشر : 5 ] .

19457 - وأجازوا ذبح الماشية إذا لم يقدر على إخراجها .

19459 - وعن الأوزاعي في رواية أخرى : أنه لا بأس بأن يحرق الحصن إذا فتحه المسلمون ، وإن أحرق ما فيه من طعام أو كنيسة ، وكره كسر الرحا وإفسادها .

19460 - قال : ولا بأس بتحريق الشجر في أرض العدو .

19461 - وقال الشافعي : يحرق الشجر المثمر والبيوت إذا كانت لهم معاقل ، وأكره حرق الزرع والكلأ .

19462 - وكره الليث إحراق النخل والشجر المثمر ، وقال لا تعقر بهيمة .

19463 - وتأول جماعة من العلماء في حديث أبي بكر المذكور ، قالوا : إنما ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وعدهم أن يفتحها الله عليهم .

[ ص: 77 ] 19464 - قال أبو عمر : من ذهب إلى الأخذ بقول أبي بكر فمن حجته ما حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا الحسن بن صالح ، عن خالد بن الفزر ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغلوا " .

19465 - قال أبو بكر : وحدثنا محمد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب ، قال : أتاني كتاب عمر ( رضي الله عنه ) : " لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا ، واتقوا الله في الفلاحين " .

[ ص: 78 ] 19466 - قال : وحدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : " لا يقتل في الحرب الفتى والمرأة ولا الشيخ الفاني ، ولا يحرق الطعام ، ولا النخل ، ولا تخرب البيوت ، ولا يقطع الشجر المثمر " .

19467 - وحجة من قال بقول مالك والشافعي في قطع النخل ، حديث نافع ، عن ابن عمر : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النضير ، وحرق " .

19468 - وحديث أسامة بن زيد قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض يقال لها " أبنا " ، فقال ، ائتها صباحا وحرق " .

التالي السابق


الخدمات العلمية