الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1003 [ ص: 223 ] 959 - وذكر عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ؛ أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله . إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، أيكفر الله عني خطاياي ؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نعم " ، فلما أدبر الرجل ، ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أو أمر به فنودي له . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كيف قلت ؟ " ، فأعاد عليه قوله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل " .


20132 - هكذا روى الحديث يحيى ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، وتابعه على ذلك جمهور الرواة للموطأ " .

[ ص: 224 ] 20133 - ورواه معن بن عيسى والقعنبي ، عن مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد ، لم يذكرا يحيى بن سعيد ، فالله أعلم .

20134 - وقد رواه ابن أبي ذئب ، والليث بن سعد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

20135 - وقد ذكرناهما في " التمهيد " .

20136 - ورواية يحيى بن سعيد لهذا الحديث ، عن يحيى بن سعيد موجودة كما قال مالك .

20136 - حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، . قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ، قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله ، كفر الله به خطاياي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، كفر الله به خطاياك ، إلا الدين ، كذلك قال لي جبريل .

20137 - قال أبو عمر : جعل يزيد بن هارون الصبر والاحتساب والإقبال من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطا لتكفير الذنوب والخطايا ، وكذلك ذلك في رواية ابن أبي ذئب والليث وقد يحتمل معنى رواية مالك أيضا .

20138 - وفي هذا الحديث أن القتل في سبيل الله على الشرط المذكور لا [ ص: 225 ] تكفر به تبعات الآدميين - والله أعلم - ، وإنما يكفر ما بين العبد وبين ربه من كبيرة وصغيرة ؛ لأنه لم يستثن فيه خطيئة صغيرة ولا كبيرة إلا الدين الذي هو من حقوق بني آدم .

20139 - ويشهد لذلك حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يدخل أحد من أهل الجنة الجنة وأحد من أهل النار يتبعه بمظلمة ، ولا يدخل أحد من أهل النار النار وأحد من أهل الجنة ، يتبعه بمظلمة ، قال : قلنا يا رسول الله ! وكيف وإنما نأتي الله ( - عز وجل - ) حفاة عراة غرلا ؟ قال : " بالحسنات والسيئات " .

20140 - وقد ذكرنا هذا الخبر بإسناده في " التمهيد " .

20141 - روى مالك عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلله " ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته ، فإن لم تكن له حسنات ، أخذ من سيئاته ، وطرح عليه .

20142 - وروى سفيان بن عيينة ، عن سعد ، عن عمرو بن مرة ، قال :

[ ص: 226 ] سمعت الشعبي يقول : حدثنا الربيع بن خثيم ، وكان من معادن الصرف ، قال : إن أهل الدنيا في الآخرة أشد تقاضيا له منكم في الدنيا ، فيجلس لهم فيأخذونه ، فيقول : يا رب ! ألست قد أتيت حافيا عاريا ، فيقول خذوا من حسناته بقدر الذي لهم ، فإن لم يكن لهم حسنات يقول : زيدوا على سيئاته من سيئاتهم .

[ ص: 227 ] 20143 - وقد ذكرنا في " التمهيد " أحاديث كثيرة صحاحا فيها التشديد في الدين ، منها :

20144 - حديث سعد بن الأطول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " إن أخاك محتبس في دينه ، فاقض عنه .

20145 - ومنها : حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : نفس المؤمن معلقة بدينه ، أو قال : " ما كان عليه دين حتى يقضى عنه " .

20146 - ومنها حديث محمد بن جحش قال : كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موضع الجنائز مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ رفع رأسه ، ثم نكسه ، ثم وضع راحته على جبهته ، وقال : سبحان الله ! ماذا نزل في التشديد في الدين .

[ ص: 228 ] 20147 - ومنها حديث البراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " صاحب الدنيا مأسور يوم القيامة في الدنيا " .

20148 - وفي هذا الحديث من الفقه أن قضاء الدين عن الميت بعده في الدنيا ، ينفعه في آخرته ، ولذلك أمر وليه بالقضاء عنه ، ولا ميراث إلا بعد قضاء الدين .

20149 - وفي حديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنع عن الصلاة على رجل ، ترك عليه دينا دينارين ، لم يدع لهما وفاء ، فلما ضمنهما أبو قتادة ، صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد ذكرنا الخبر بذلك كله ، عن أبي قتادة بإسناده في " التمهيد " .

20150 - وهذا كله كان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدين قبل أن يفتح الله عليه الفتوحات في أرض العرب ، وقبل أن تترادف عليه الزكوات ، فلما كان ذلك أنزل الله عليه سورة " براءة " ، وفيها للغارمين سهم ، وأنزل آية الفيء ، وفيها حقوق للمساكين وابن السبيل والأنصار والمهاجرين والذين جاءوا من بعدهم إذا كانوا لمن سبقهم بالإيمان مستغفرين ، فلما نزل ذلك كله في آية الفيء ، وآية قسم الصدقات للفقراء والغارمين .

[ ص: 229 ] 20151 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ترك مالا ، فلورثته ، ومن ترك دينا أو عيالا فعلي " .

20152 - فكل من مات ، وقد ادان دينا ، في مباح ، ولم يقدر على أدائه فعلى الإمام أن يؤدي ذلك عنه من سهم الغارمين ، أو من الصدقات كلها ؛ لأن من وضعها في صنف واحد عند أكثر العلماء ، أجزأه على ما قد أوضحناه في كتاب الزكاة .

20153 - وعلى الإمام أن يؤدي دين من وصفنا حاله من الفيء الحلال للغني والفقير .

20154 - واجب على كل ذي دين أن يوصي به ، ولا يبيتن ليلتين دون أن تكون الوصية مكتوبة ؛ لأنه لا يدري متى يفجؤه الموت .

20155 - وقد أجمع العلماء فيمن عليه دين أنه الوصية عليه به واجبة إذا لم يؤده قبل .

20156 - والأفضل أن يؤدي دينه في حياته ، فإذا أوصى به ، وترك ما يؤدى منه ذلك الدين ، فليس بمحبوس عن الجنة إن شاء الله .

20157 - وكذلك إذا أوصى به ، ولم يكن عنده ما يؤدي منه ، ولا قدر على أدائه في حياته ، فعلى الإمام أن يؤدي عنه دينه ، كما وصفنا إذ الأخير المسئول عنه .

20158 - أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا مطلب بن شعيب قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال :

[ ص: 230 ] حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفي من المسلمين ، وترك دينا ، فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا ، فلورثته .

[ ص: 231 ] 20159 - وروى المقدام بن معدي كرب ، عن النبي - عليه السلام - مثله .

20160 - وقد ذكرناه في " التمهيد " .

20161 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو المتوكل العسقلاني ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي على أحد مات وعليه دين ، فأتي بميت ، فقال : ( أعليه دين ؟ قالوا : نعم . ديناران ، فقال : صلوا على صاحبكم .

قال أبو قتادة الأنصاري : هما علي يا رسول الله ، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما فتح الله على رسوله ، قال : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فمن ترك دينا ، فعلي قضاؤه
.

20162 - قال أبو عمر : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من توفي من المسلمين وعليه دين ، فعلي قضاؤه " ، يحتمل أن يكون أراد : إذا لم يترك مالا يؤدى منه ، وظاهر الحديث يوجب عمومه كل دين مات عنه المسلم ، ولم يؤده في حياته .

20163 - والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن الميت المسلم كان وجبت له حقوق في بيت المال من الفيء وغيره ، لم تصل إليه ، فتوجب على الإمام ، أن يؤدي ذلك الدين عنه كما لو كان للميت دين على غيره من المسلمين . أو الذميين جاز أن [ ص: 232 ] يؤخذ دينه الذي له ، فيؤدى منه ما عليه من الدين ، ويخلص ماله لورثته ، فإن لم يفعل الغريم ذلك أو السلطان ، رفع القصاص بينهم في الآخرة ، ولم يحبس عن الجنة بدين له مثله على غيره في بيت المال أو على غريم جحد ، ولم يثبت الدين عليه في القضاء ، أو أن غريمه لم يعلم به ، أو لم يصل إليه ، أو دين أقر به لوارث في مرضه ، فلم يجز القاضي إقراره ، وكان صادقا فيه محقا ، فهذا كله ، وما كان مثله لا يحبس به صاحب الدين عن الجنة إذا كان ممن استحقها بثواب الله على عمله ، إلا أن يكون ما عليه من الدين أكثر مما له في بيت المال أن على الغريم ، ولم تف بذلك حسناته ، فالقصاص منه .

20164 - ومعلوم أن حق المسلم في بيت المال ، وإن لم يتعين عنده مال من ماله يعلمه الذي أحصى كل شيء عددا ، وأحاط بكل شيء علما ، يأخذه له ممن ظلمه فيه يوم لا دينار فيه ولا درهم ، إلا الحسنات والسيئات ، ومحال أن يحبس عن الجنة ما بقي ما عليه من الدين عند سلطان أن غيره ممن لم يقدر على الانتصاب في الدنيا منه ، وقول السلطان : دين هذا علي ، وماله لورثته ، كقول غريم لو كان له ، فقال : ما على هذا البيت من الدين ، فعلي أداؤه مما له علي ، وما يخلفه لورثته ، وهذا لا مشكل على أحد إن شاء الله .

20165 - وفي هذا الحديث أن جبريل كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يتلى من القرآن ، وبغيره من الحكمة والعلم والسنة ، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية