الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1007 963 - وذكر مالك في هذا الباب ، عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب قال : كرم المؤمن تقواه . ودينه حسبه . ومروءته خلقه . والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء . فالجبان يفر عن أبيه وأمه . والجريء يقاتل عما لا يئوب به إلى رحله . والقتل حتف من الحتوف . والشهيد من احتسب نفسه على الله .


20248 - قال أبو عمر : أما قوله كرم المؤمن تقواه ، من قول الله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ الحجرات : 3 ] .

20249 - أما قوله : ودينه حسبه فإنه أراد أن الحسب الرفيع حقيقة الدين ، فمن انتسب إلى أب ذي دين فهو الحسب ، وهذا أولى منه على من انتسب إلى أب كافر يفخر به ، كما جاء في الحديث المرفوع على ذكر الكفرة ينتسبون إلى حمم من حمم جهنم وأن من الجعل بأنفه خير منهم .

20250 - وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث لا تزال في أمتي : النياحة على الموتى ، [ ص: 253 ] والاستمطار بالأنواء ، والتفاخر بالأحساب " خرج أيضا على حساب الذم .

20251 - ومثله ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن أحساب أمتي التي ينتمون إليها المال " .

20252 - هذا أيضا على وجه الذم ؛ لأنه قال - صلى الله عليه وسلم - : " لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال " .

20253 - ومن هذا قوله : " تنكح المرأة على حسبها ، وعلى مالها ، وعلى جمالها ، وعلى دينها ، فعليك بذات الدين " .

20254 - وأما قوله : " ومروءته خلقه " ، فمن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق ، أو قال : حسن الأخلاق ، فلا تكاد تجد حسن الخلق إلا ذا مروءة وصبر .

20255 - ومثله قوله : وقد تذاكر المروءة عنده بعضهم ، فقال : مروءتنا أن [ ص: 254 ] نعفو عمن ظلمنا ، ونعطي من حرمنا .

20256 - وهذا كله لا يتم إلا بحسن الخلق .

20257 - وقد روي أن في حكمة داود : المروءة : الصلاح في الدين ، وإصلاح المعيشة ، وغنى النفس ، وصلة الرحم .

20258 - وأما قوله : " والجرأة والجبن غرائز " ، فلا تحتاج إلى تفسير ولا شرح .

20259 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : ذكر الشهداء عند عمر بن الخطاب فقال عمر لقوم : ما ترون الشهداء فقال القوم : يا أمير المؤمنين ! هم من يقتل في هذه المغازي ، فقال : إن شهداءكم إذا لكثير ، إني أخبركم عن ذلك ، إن الشجاعة والجبن غرائز في الناس ، فالشجاع يقاتل من وراء ألا يبالي ألا يئوب به إلى أهله والجبان فار عن حليلته ، ولكن الشهيد من احتسب نفسه ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .

20260 - قال : وحدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حسان ، عن قائد العبيسي قال : قال عمر : الشجاعة والجبن غرائز في الرجال ، [ ص: 255 ] فيقاتل الشجاع عمن يعرف ، وعمن لا يعرف ، ويفر الجبان عن أبيه وأمه .

20261 - قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر ، قال : قال عمر : الشجاعة والجبن شيمة وخلق في الرجل ، فيقاتل الشجاع عن من لا يبالي ألا يئوب به إلى أهله ، ويفر الجبان عن أبيه وأمه .

20262 - قال : وحدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم قال : قالت عائشة : من حس من نفسه جبنا ، فلا يغز .

20263 - قال : وحدثنا وكيع ، قال : حدثنا همام ، عن أبي عمران الجوني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : للجبان أجران .

20264 - وأما قوله : " الشهيد من احتسب نفسه على الله " ، فقد جاء عنه ما يفسر قوله هذا .

20265 - روى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن شهاب قال : أصيبت سرية على عهد عمر بن الخطاب ، فتكلم الناس فيها ، فقام عمر على المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : إن الرجل يقاتل حمية ، أو يقاتل رياء ، أو يقاتل شجاعة ، والله تعالى أعلم بنياتهم ، وما قتلوا عليه ، وما أحد هو أعلم مما يفعل به [ ص: 256 ] إلا هذا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

20266 - قال أبو عمر : هذا أيضا يدل على ما تقدم بأن لا يقطع بفضل فاضل على مثله في ظاهر أمره ، وأن يسكت في مثل هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية