الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1008 [ ص: 257 ] ( 16 ) باب العمل في غسل الشهداء

964 - ذكر فيه مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن عمر بن [ ص: 258 ] الخطاب غسل وكفن وصلي عليه . وكان شهيدا . يرحمه الله .

965 - مالك ؛ أنه بلغه عن أهل العلم ؛ أنهم كانوا يقولون : الشهداء في سبيل الله لا يغسلون ، ولا يصلى على أحد منهم ، وأنهم يدفنون في الثياب التي قتلوا فيها .

20267 - قال مالك : وتلك السنة فيمن قتل في المعترك ، فلم يدرك حتى مات .

20268 - قال : وأما من حمل منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك ، فإنه يغسل ويصلى عليه . كما عمل بعمر بن الخطاب .


20269 - قال أبو عمر : اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم :

20270 - فذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والليث ، والأوزاعي : إلى أنهم لا يغسلون إذا ماتوا في المعترك .

20271 - وبه قال أحمد ، وإسحاق ، والطبري .

20272 - وحجتهم : حديث جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في قتلى أحد : " ادفنوهم بدمائهم ، وزملوهم بثيابهم " .

20273 - وهذا حديث اختلف فيه ، عن ابن شهاب .

20274 - ورواه معمر ، عن الزهري ، عن ابن أبي زهير ، عن جابر .

20275 - ورواه الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن [ ص: 259 ] مالك ، أن جابر بن عبد الله أخبره بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

20276 - وخرج البخاري حديث الليث هذا عن ابن شهاب بإسناده .

20277 - وأخرجه أبو داود أيضا .

20278 - ورواه ابن وهب ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا بثيابهم .

20279 - وقد حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، قال : حدثنا عبد الرحمن [ ص: 260 ] بن مهدي ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : " رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات ، فأدرج في ثيابه كما هو ، قال : ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

20280 - قال أبو عمر : هذا حديث صحيح الإسناد .

20281 - وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا زياد بن أيوب ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم .

20281 - فهذا معنى قول مالك فيمن قتل في المعترك .

20282 - وقال سعيد بن المسيب ، والحسن البصري : يغسل الشهداء كلهم كما يغسل سائر المسلمين .

20283 - قال أحدهما : إنما لم يغسل شهداء أحد للشغل الذي كان فيه ، ولكثرتهم .

20284 - روي عن سعيد ، والحسن أنهما قالا : لا يغسل الشهداء ؛ لأن كل ميت يجلب .

[ ص: 261 ] 20285 - قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول سعيد بن المسيب ، والحسن البصري في غسل الشهداء إلا عبيد الله بن الحسن العنبري ، وليس ما قالوه من ذلك بشيء ؛ لأن الشيء الذي جعلوه علة ليس بعلة ، لأن كل واحد من القتلى كان له أولياء يشتغلون به دون غيره بل العلة في ذلك ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أن الشهيد يأتي يوم القيامة ، وريح دمه كريح المسك .

20286 - واحتج بعض من ذهب من المتأخرين مذهب سعيد ، والحسن في ترك غسل الشهداء بقوله عليه السلام في شهداء أحد : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة .

20287 - قال : وهذا يدل ، على خصوصهم ، وأنهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ، كما لا يشركهم في شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

20288 - قال أبو عمر : يلزمه أن يقول في المحرم الذي وقصته ناقته أن لا [ ص: 262 ] يفعل بغيره من المسلمين ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به ؛ لأنه قال فيه : يبعث يوم القيامة ملبيا ، وهو لا يقول بذلك .

20289 - وأما الصلاة على الشهداء فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك ، واختلفت الآثار في ذلك أيضا .

20290 - فذهب مالك ، والليث ، والشافعي ، وأحمد ، وداود إلى ألا يصلى عليهم بحديث الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ولم يصل عليهم " .

20291 - وبحديث أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا ، ولم يصل عليهم .

20292 - ذكره أبو داود ، عن أحمد بن صالح ، عن ابن وهب ، عن أسامة .

20293 - وقال معمر ، عن الزهري : لم يصل على شهداء أحد .

20294 - وقال فقهاء الكوفة : ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والحسن بن صالح ، وأبو حنيفة ، وأصحابه وسليمان بن موسى ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد [ ص: 263 ] العزيز ، وفقهاء أهل البصرة : عبيد الله بن الحسن ، وغيره : يصلى على الشهداء كلهم ، ولا تترك الصلاة عليهم . ولا على غيرهم من المسلمين .

20295 - ورووا في ذلك آثارا كثيرة أكثرها مراسيل ؛ " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أحد ، وصلى على حمزة سبعين صلاة .

20296 - وروى ابن عيينة ، وغيره ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، قال : " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة يوم أحد سبعين صلاة ، كلما صلى على رجل ، صلى عليه " .

20297 - قال أبو عمر : قد خالف الشعبي في ذلك غيره .

20298 - ذكر أبو داود ، قال : حدثنا عباس العنبري ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بحمزة ، وقد مثل به ، فصلى عليه ، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره .

20299 - وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الزبير بن عدي ، عن عطاء بن أبي رباح قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى بدر .

20300 - وأجمع العلماء على أن الشهيد في معترك الكفار إذا حمل حيا ، ولم يمت في المعترك ، وعاش وأكل وشرب ، فإنه يغسل ويصلى عليه . كما فعل بعمر ، [ ص: 264 ] وبعلي ( رضوان الله عليهما ) .

20301 - واختلفوا في غسل من قتل مظلوما ، كغسل الخوارج ، وقطاع السبيل ، وما أشبه ذلك ، ممن قتل مظلوما .

20302 - فقال مالك : لا يغسل من قتله الكفار إلا أن يموت في المعترك فإن حمل من موضع مصرعه ، فعاش وأكل وشرب ، ثم مات ، غسل وصلي عليه .

20303 - وأما من غسل في فتنة أو نائرة أو قتله اللصوص ، أو البغاة ، أو كان من اللصوص أو البغاة ، فقتل ، أو قتل قودا ، أو قتل نفسه ، فإن هؤلاء كلهم يغسلون ويصلى عليهم .

20304 - وبه قال الشافعي .

20305 - قال أبو حنيفة ، والشافعي : كل من قتل مظلوما ، لم يغسل ، ولا أنه يصلى عليه ، وعلى كل شهيد .

20306 - وهو قول سائر أهل العراق .

20307 - ورووا من طرق كثيرة في عمار بن ياسر ، وزيد بن صوحان بأن كل واحد منهما ، قال : لا تنزعوا عني ثوبا ، ولا تغسلوا عني دما ، وادفنوني في ثيابي .

20308 - روي مثل ذلك عن حجر بن عدي بن الأدبر - رحمه الله .

[ ص: 265 ] 20309 - قال أبو عمر : قتل زيد بن صوحان يوم الجمل ، وقتل عمار بن ياسر بصفين ، وأما حجر بن عدي ، فقتله معاوية صبرا ، بعث به إليه زياد بن أبي سفيان .

[ ص: 266 ] 20310 - وروى هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، أن حجر بن عدي قال : لا تطلقوا عني حديدا ، ولا تغسلوا عني دما ، وادفنوني في ثيابي فإني ملاق معاوية بالجادة وإني مخاصمه .

20311 - وروى معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : أمر معاوية ، بقتل حجر بن عدي الكندي ، فقال حجر : لا تنزعوا عني قيدا ، أو قال : حديدا ، وكفنوني في ثيابي ودمي .

[ ص: 267 ] [ ص: 268 ] [ ص: 269 ] 20312 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جرير ، عن عطاء ، قال : ما رأيتهم يغسلون الشهيد ، ولا يحنطونه ، ولا يكفنونه ، قلت : كيف يصلى عليه ؟ قلت ، كالذي يصلى على الذي ليس بشهيد .

20313 - قال : وأخبرنا ابن جريج ، قال : سألنا سليمان بن موسى : كيف الصلاة على الشهيد عندكم ؟ قال : كيف يصلى على غير الشهيد ؟ وسألناه عن دفن الشهيد ؟ قال : أما إذا مات في المعركة فإنما ندفنه كما هو ولا نغسله ، ولا نكفنه ، ولا نحنطه . قال : وأما إذا انقلبنا به ، وبه رمق ، فإنا نغسله ونكفنه ونحنطه وجدنا الناس على ذلك ، وكان من مضى عليه من الناس قبلنا .

20314 - قال : وأخبرنا معمر ، عن نافع ، عن أيوب ، قال : كان عمر من خير الشهداء ، فغسل وكفن وصلي عليه ؛ لأنه عاش بعد طعنه .

20315 - قال : وأخبرنا الحسن بن عمارة ، عن يحيى بن الجزار ، قال : غسل [ ص: 270 ] علي - رضي الله عنه - وكفن وصلي عليه .

20316 - قال أبو عمر : من حجة من ذهب إلى هذا - وهو معنى قول مالك - أن السنة المجتمع عليها في موتى المسلمين أنهم يغسلون ويكفنون ، ويصلى عليهم ، فكذلك حكم كل ميت ، وقتيل من المسلمين إلا أن يجتمعوا على شيء من ذلك ، فيكون خصوصا من الإجماع بإجماع .

20317 - وقد أجمعوا - إلا من شذ عنهم - بأن قتيل الكفار في المعترك إذا مات من وقته قبل أن يأكل ويشرب أنه لا يغسل ، ولا يصلى عليه ، فكان مستثنى من السنة المجتمع عليها بالسنة المجتمع عليها ومن عداهم فحكمه الغسل والصلاة ، وبالله التوفيق .

20318 - ومن حجة من جعل قتيل البغاة والخوارج واللصوص ، وكل من قتل ظلما إذا مات من وقته كقتيل الكفار في الحرب إذا مات في المعترك ، القياس على قتيل الكفار ، قالوا : وأما عمر وعلي ، فإنهما غسلا وصلي عليهما لأنهما عاشا وأكلا وشربا بعد أن أصيبا ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية