الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1011 [ ص: 276 ] ( 18 ) باب الترغيب في الجهاد

967 - ذكر فيه مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن [ ص: 277 ] أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى قباء ، يدخل على أم حرام بنت ملحان ، فتطعمه . وكانت أم حرام تحت عبادة بن [ ص: 278 ] الصامت . فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ، فأطعمته . وجلست تفلي في رأسه . فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما . ثم استيقظ ، وهو يضحك . قالت : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : " ناس من أمتي ، عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكا على الأسرة . أو مثل الملوك على الأسرة " ، ( يشك إسحاق ) قالت فقلت له : يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلني منهم . فدعا لها . ثم وضع رأسه فنام . ثم استيقظ [ ص: 279 ] يضحك . قالت فقلت له : يا رسول الله ! ما يضحكك ؟ قال : " ناس من أمتي . عرضوا عليه غزاة في سبيل الله ، ملوكا على الأسرة : أو مثل الملوك على الأسرة : كما قال في الأولى . قالت فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : " أنت من الأولين قال ، فركبت البحر في زمان معاوية ، فصرعت عن دابتها حين خرجت [ ص: 280 ] من البحر . فهلكت .


20336 - قال أبو عمر : قال ابن وهب : أم حرام إحدى خالات النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة ، فلذلك كان يقيل عندها ، وينام في حجرها ، وتفلي رأسه .

[ ص: 281 ] 20337 - قال أبو عمر : لولا أنها كانت منه ذات محرم ما زارها ولا قام عندها ، والله أعلم .

20338 - وقد روي عنه - عليه السلام - من حديث عمر وابن عباس : لا يخلون رجل بامرأة إلا أن تكون منه ذات محرم ، على أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم ليس كغيره ، ولا يقاس به سواه .

20339 - وفي هذا الحديث إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها في بيتها من مالها ومال زوجها ; لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل .

[ ص: 282 ] 20340 - وفيه دليل على أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أن صاحب المال يسر بما يفعله في ماله ، جاز له فعل ذلك .

20341 - ومعلوم أن عبادة بن الصامت كان يسره أن يبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ، فلذلك أذنت أم حرام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت زوجها عبادة ، وأطعمته .

20342 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يحل لامرأة أن تأذن لرجل في بيتها ، وزوجها غائب كاره " .

20343 - وإسناده في " التمهيد " .

20344 - وقد اختلف العلماء في عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه ، واختلفت فيه الآثار المرفوعة ، منها .

20345 - ما رواه ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا نبي الله ! ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير ؛ فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي ؟ قال : " ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك " .

20346 - وروى الأعمش ومنصور ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أنفقت المرأة : من بيت زوجها ، غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت ، ولزوجها أجر بما اكتسب ، وللخازن مثل ذلك ، لا ينقص [ ص: 283 ] بعضهم من أجر بعض شيئا .

20347 - وأما الأثر المخالف لغيره فهذه الأحاديث .

20348 - أبو أمامة الباهلي ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته : " إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " وفيه : " لا تنقق امرأة من بيت زوجها ، إلا بإذن زوجها . قيل : يا رسول الله ! ولا الطعام ؟ قال : " ذلك أفضل أموالنا " .

[ ص: 284 ] 20349 - ومن أجاز للصديق الأكل من مال صديقه بغير إذنه ، وتأول قول الله - عز وجل - : أو صديقكم [ النور : 61 ] ، فإنما أباح منه ما لا يتشاح الناس فيه ، وما تسخو النفوس به للإخوان في الأغلب .

20350 - وأما " ثبج البحر " ، فهو ظهر البحر .

20351 - وكذلك روى هذا الحديث يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن أنس بن مالك ، عن أم حرام ، قالت : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا في بيتي ، استيقظ وهو يضحك فقلت : مم تضحك ؟ قال : " عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة . . . " الحديث .

20352 - وإنما ضحكه عندما استيقظ ، فإنما ذلك سرورا منه مما يدخله الله على أمته من الأجر بأعمال البر .

20353 - وإنما رآهم على الأسرة في الجنة .

20354 - ورؤياه ورؤيا الأنبياء وحي .

20355 - ويشهد لذلك قول الله تعالى في أهل الجنة على الأرائك متكئون [ يس : 56 ]

20356 - وقوله : " أو مثل الملوك على الأسرة " شك من المحدث .

20357 - وقد رواه يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن أنس ، عن أم حرام ، فقال فيه : مثل الملوك على الأسرة ، من غير شك .

20358 - وهذا الخبر إنما ورد تنبيها على فضل الغزو في البحر ، وفيه إباحة [ ص: 285 ] النساء للجهاد .

20359 - وقد قالت أم عطية : كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنداوي الجرح ونمرض المرضى ، وكان يرضخ لنا من الغنيمة .

20360 - اختلف الفقهاء في الإسهام للنساء من الغنيمة .

20361 - فقال ابن وهب : سألت مالكا عن النساء ، هل يحذين من المغانم في الغزو ؟ قال : ما علمت ذلك .

20362 - وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والليث ، والشافعي : لا سهم لامرأة ويرضخ لها .

20363 - وقال الأوزاعي : يسهم لها ، وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للنساء بخيبر .

20364 - قال الأوزاعي : وأخذ بذلك المسلمون عندنا .

20365 - قال أبو عمر : أحسن شيء في هذا الباب ما كتب به ابن عباس إلى نجدة الخارجي : أن النساء كن يحضرن ، فيداوين المرضى ويحذين من الغنيمة ، [ ص: 286 ] ولم يضرب فيه بسهم .

20366 - وفيه : إباحة ركوب البحر للنساء ، وكان مالك يكره للمرأة الحج في البحر ، وهو في الجهاد ، كذلك أكره .

20367 - قال أبو عمر : إنما كره ذلك مالك ؛ لأن المرأة لا تكاد تغض بصرها عن الراكبين فيه ، عن الملاحين وغيرهم ، وهم لا يستترون في كثير من الأوقات .

20368 - وكذلك لا تقدر كل امرأة عند حاجة الإنسان على الاستتار في المركب في الرجال ، ونظرها إلى عورات الرجال ، ونظرهم إليها حرام ، فلم ير استباحة فضيلة بمدافعة ما حرم الله تعالى .

20369 - وكانت أم حرام مع زوجها ، وكان الناس خلاف ما هم عليه اليوم ، والله أعلم .

20370 - وفيه : دليل على جواز ركوب البحر للحج ، لأنه إذا ركب للجهاد ، [ ص: 287 ] فركوبه للحج أولى إذا كان في أداء فريضة الحج .

20371 - ذكر مالك أن عمر بن الخطاب - كان يمنع الناس من ركوب البحر طول حياته ، فلما مات استأذن معاوية عثمان في ركوبه ، فأذن له ، فلم يزل حتى كان زمان عمر بن عبد العزيز ، فمنع الناس من ركوبه في أيامه ، ثم ركب بعد إلى الآن .

20372 - هذا لما كان من العمرين - رحمة الله عليهما - في التجارة وطلب الدنيا ، والاستعداد من المال والتكاثر معرضين عن الآخرة ، وعن جهاد الغزو في البحر ، فأما ما كان في أداء فريضة الله ، فلا .

20373 - قد وردت السنة بإباحة ركوب البحر للجهاد في حديث أنس وغيره ، وهي الحجة ، وفيها الأسوة .

20374 - واتفق العلماء أن البحر لا يجوز لأحد ركوبه في حين ارتجاجه .

20375 - ذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن ليث بن أبي سليم ، عن نافع عن ابن عمر ، قال : " لا يسلني الله عن جيش ركبوا البحر أبدا " يعني التغرير .

20376 - وفي : التحري بالإتيان بألفاظ النبي - عليه السلام .

20377 - وقد ذهب إلى هنا جماعة ، ورخص آخرون في الإتيان بالمعاني [ ص: 288 ] وإن خالفوا في الألفاظ .

20378 - وفيه : أن الجهاد تحت راية كل إمام ، عادل أو جائر ، ماض إلى يوم القيامة ، لأنه قد رأى الآخرين ملوكا على الأسرة . كما رأى الأولين ، ولا نهاية للآخرين إلى قيام الساعة .

20379 - قال الله - عز وجل - : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ الواقعة : 39 - 40 ] .

20380 - وهذا على الآية .

20381 - وفيه فضل لمعاوية إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين .

20382 - وإنما قلنا في الحديث دليل على ركوب البحر للجهاد وغيره للرجال والنساء ، لاستيقاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يضحك فرحا بذلك ، فدل على جوازه وإباحته وفضله ، وجعلنا المباح فيما ركب فيه البحر قياسا على الغزو فيه .

20383 - ويحتمل بدليل هذا الحديث أن يكون الموت في سبيل الله والقتل سواء في الفضل ، لأن أم حرام لم تقتل ، وإنما ماتت من صرعة دابتها .

20384 - وقد ذكرنا في " التمهيد " الآثار الشواهد في هذا المعنى واختلافها في ذلك .

20385 - فمنها ما ذكره ابن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا [ ص: 289 ] المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن عمرو قال ؟ قال رجل : يا رسول الله ! أي الجهاد أفضل ؟ قال : من عقر جواده وأريق دمه .

20386 - وذكر أبو داود قال : حدثنا محمد بن بكار ، قال : حدثنا مروان ، قال : حدثنا هلال بن ميمون الرملي ، عن يعلى بن شداد ، عن أم حرام ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد ، والغرق له أجر شهيدين .

20387 - والآثار في الوجهين جميعا كثيرة ، قد ذكرنا كثيرا منها في " التمهيد " .

20388 - وقد سوى الله تعالى في كتابه بين المقتول والميت في سبيل الله : والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا الآية [ الحج : 58 ] ، فركبت أم حرام ، البحر في زمن معاوية ، ولم يختلف أهل السير أنها غزاة معاوية هذه ، وقد غزا معه عبادة ، وزوجته أم حرام ، كانت في خلافة عثمان ، لا في زمان معاوية .

20389 - قال الزبير بن أبي بكر : ركب معاوية البحر غازيا بالمسلمين في [ ص: 290 ] خلافة عثمان ، لا في أيام معاوية .

20390 - قال الزبير بن أبي بكر : ركب معاوية البحر غازيا . بالمسلمين في خلافة عثمان إلى قبرس ، ومعه أم حرام زوج عبادة مع زوجها عبادة ، فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة ، فصرعت فماتت .

20391 - وذكر خليفة ، عن ابن الكلبي قال : في سنة ثمان وعشرين غزا معاوية بن أبي سفيان في البحر ، ومعه امرأته فاختة بنت قرظة من بني عبد مناف ، ومعه عبادة بن الصامت ، وامرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية ، فأتى قبرس ، فتوفيت أم حرام ، وقبرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية