الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 331 ] ( 20 ) باب إحراز من أسلم من أهل الذمة أرضه

977 م - قال يحيى سئل مالك : عن إمام قبل الجزية من قوم فكانوا يعطونها . أرأيت من أسلم منهم . أتكون له أرضه ، أو تكون للمسلمين ، ويكون لهم ماله ؟ فقال مالك : ذلك : يختلف . أما أهل الصلح ، فإن من أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله . وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة ، فمن أسلم منهم فإن أرضه وماله للمسلمين . لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم . وصارت فيئا للمسلمين . وأما أهل الصلح ، فإنهم قد منعوا أموالهم وأنفسهم . حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه .


20560 - قال أبو عمر : مما ذكره مالك - رحمه الله - في هذا الباب عليه جماعة العلماء إن من صالح على بلاده ، وما بيده من ماله عقار وغيره ، فهو له ، [ ص: 332 ] فإن أسلم ، أحرز له إسلامه أرضه وماله .

20561 - وأما أهل العنوة ، فإنهم وجميع أموالهم للمسلمين ، إن أسلموا لن تكون لهم أرضهم ؛ لأنها لمن قاتل عليها وغلب أهلها ، فملك رقابهم وأموالهم ، قال الله - عز وجل - : وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم [ الأحزاب : 27 ] .

20562 - وسنذكر اختلاف العلماء في قسمة الأرض المغلوبة عن عنوة في قصة خيبر في كتاب المساقاة - إن شاء الله ، وما أعلم بلدا من البلاد التي فتحها المسلمون بالإيجاف عليها والمقاتلة لها خرج عن هذه الجملة المذكورة إلا مكة - حرسها الله - فإن أهل العلم اختلفوا في قصة فتحها ، فقالت طائفة : فتحت عنوة . والفتحة الغلبة .

20563 - وممن قال ذلك : الأوزاعي ، وأبو حنيفة .

20564 - وروي ذلك عن مالك : وقال به أصحابه .

20565 - واحتج من ذهب إلى أنها فتحت عنوة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم هي حرام إلى يوم القيامة ، الحديث .

20566 - وذكروا أحاديث لا يثبتها أهل الحديث مثل قوله : أترون أوباش قريش إذا لقيتموهم ، فاحصدوهم حصدا " .

20567 - قالوا : وهذا لو صح كان فيه ما يدل على أنها دخلت عنوة .

[ ص: 333 ] 20568 - وقد أجمعوا على أنها لم يجز فيها من حكم العنوة ، ولم يقتل فيها إلا من استثناه ( عليه السلام ) ، وأمر بقتله ، ولم يسب فيها ذرية ، ولا عيالا ، ولا مالا وإن أهلها بقوا إذ أسلموا على ما كان بأيديهم من دار وعقار ، وليس هذا حكم العنوة بإجماع .

20569 - وقال أبو عبيد : افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ، ومن على أهلها ، وردهم إليها ، ولم يقسمها ، ولم يجعل شيئا منها غنيمة ، ولا فيئا .

20570 - قال : فرأى بعض الناس أن ذلك جائز له وللأئمة بعده .

20571 - قال أبو عبيد : والذي أقول إن ذلك كان جائزا له في مكة ، وليس ذلك جائزا لغيره في غيرها ، ومكة لا يشبهها شيء من البلاد ؟ لأن الله تعالى خص رسوله من الأنفال بما لم يخص به غيره فقال : قل الأنفال لله والرسول .

20572 - قال أبو عمر : قول أبي عبيد ضعيف .

20573 - وهذه الآية لم يختلفوا أن قوله - عز وجل - : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه [ الأنفال : 41 ] ، نزلت بعد قوله : قل الأنفال لله والرسول [ أول سورة الأنفال ] .

20574 - وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا في هذا الكتاب ، والحمد لله .

20575 - وقال أبو يوسف : عفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة وأهلها ، وقال : " من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان ، فهو آمن ، ومن دخل الكعبة فهو آمن ، ونهى عن القتل إلا نفرا سماهم ، وقال لهم حين [ ص: 334 ] اجتمعوا في المسجد : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " ، ولم يجعل شيئا منها فيئا ، ولم يسب من أهلها أحدا .

20576 - وقال الشافعي : لم يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة وإنما دخلها صلحا .

20577 - وقال أصحابه : أراد بقوله : صلحا أي فعل فيها فعله : فيمن صالحه ، فملكه نفسه وماله وأرضه ودياره : وذلك ؛ لأنه لم يدخلها إلا بعد أن أمن أهلها كلهم إلا الذين أمر بقتلهم .

20578 - قال أبو عمر : ذكر ابن إسحاق وجماعة من أهل الصبر معنى ما أجمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ في سفره عام الفتح مر الظهران نزل بها ، وكان العباس قد أتاه بأهله وعياله بالجحفة مهاجرا إليه ، فأمر بالعيال إلى المدينة ، وبقي هو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران ركب العباس بغلته ، ونهض يرتقب ويستمع خبرا من مكة ، أو مارا إليها ، وذلك في الليل ، فسمع صوت أبي سفيان يخاطب رفيقه ، فقال : أبو حنظلة ؟ فعرفه أبو سفيان ، فقال : أبو الفضل ثم أجمعا ، فأتى به النبي - عليه السلام - فأراد عمر قتله ، فاعترضه العباس وأمره النبي - عليه السلام - أن يحمله مع نفسه ويأتيه به غدوة ، فأتى به صبيحة تلك [ ص: 335 ] الليلة ، فأسلم ، وبايع النبي - عليه السلام ، أن يلزمه بشيء ، فقال : " من دخل دار أبي سفيان ، فهو آمن " .

20579 - ولم ير إفراده في ذلك فأمر مناديا ، فنادى : ومن دخل داره فهو آمن ، ومن أغلق على نفسه بابه ، فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن .

20580 - وعهد إلى أمرائه من المسلمين إذا دخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا نفرا سماهم ، فنهض بهذا الأمان إلى مكة أبو سفيان ونادى به .

20581 - فهذا الأمان قد حصل لأهل مكة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران فأين العنوة هاهنا مع الأمان الحاقن للدم والمال ؛ لأن المال تبع للنفس .

20582 - ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ، وطاف بها ، ثم خطب خطبة محفوظة أسقط فيها كل دم ، ومأثرة ، ونهى عن تعظيم الآباء والتفاخر بينهم ، وقال : " كلكم بني آدم وآدم من تراب ، ثم قال : " يا معشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم ، قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء ، ثم جلس حينا في المسجد ، فقضى أمورا مذكورة في السير .

20583 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن [ ص: 336 ] إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب ، فأسلم بمر الظهران ، فقال له العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فلو جعلت له شيئا ، فقال : " نعم ، من دخل دار أبي سفيان ، فهو آمن ، ومن أغلق بابه ، فهو آمن " .

20584 - قال أبو داود : حدثنا محمد بن عمرو الرازي ، قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق ، عن العباس بن عبد الله بن معبد ، عن بعض أهله ، عن ابن عباس ، قال : لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر الظهران ، فذكر الحديث في خبر إسلام أبي سفيان ، ومجيء العباس به للنبي - صلى الله عليه وسلم - على نحو ما في السير .

20585 - وفي آخر الحديث : قلت : يا رسول الله ! إن أبا سفيان يحب الفخر ، فاجعل له شيئا ، قال : نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه داره فهو آمن ، ومن دخل المسجد ، فهو آمن .

قال : فتفرق الناس إلى دورهم ، وإلى المسجد .


20586 - قال أبو داود : وحدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، قال : حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام وأبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على الخيل ، ثم قال : " يا أبا هريرة اهتف بالأنصار " قال : اسلكوا هذا الطريق فلا يشرفن لكم أحد إلا أمنتموه ، فنادى مناد : لا قريش بعد اليوم . فقال [ ص: 337 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من دخل داره فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن " ، فعمد صناديد قريش ، فدخلوا الكعبة ، فغص بهم ، وطاف النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف المقام ، ثم أخذ بجنبتي الباب ، فخرجوا ، فبايعوا النبي - عليه السلام - على الإسلام .

20587 - قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل سأله رجل قال : مكة عنوة هي ؟ قال : إيش يضرك ما كانت ؟ ! قال : فصلح ؟ قال : لا .

20588 - قال أبو عمر : من حديث أبي هريرة : شرع الطائفتان من قال : إن مكة دخلت عنوة لأمره الزبير وأبا عبيدة ، وخالدا بقتل قريش بعد دخول مكة ، ومن شرع من قال : لم يدخل عنوة . لأن فيه النداء بالأمان في ذلك الوقت .

20589 - ولم تختلف الآثار ، ولا اختلف العلماء في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن أهل مكة ، كل من دخل داره ، أو المسجد ، أو دار أبي سفيان ، أو ألقى السلاح .

20590 - وقد اختلفت الآثار في وقت الأمان :

20591 - فمن قال : إن ذلك كان بمر الظهران كان أصح وأولى ممن قال : إن ذلك كان بعد دخوله مكة ، لأنه معلوم أن من شهد ما في حديث ابن عباس من تأمين أهل مكة في حين إسلام أبي سفيان فقد شهد بزيادة على ما في حديث أبي هريرة ، لأن من تقدم أمانه لا ينكر أن يعاد عليه الذكر بذلك عند دخوله مكة .

[ ص: 338 ] 20592 - ومعنى إرساله الزبير وأبا عبيدة وخالدا قد ظهر في الحديث الآخر ؛ لأنه أمر أمراءه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا من استثنى لهم ، فهذا تهذيب الأمان في ذلك ، والله أعلم .

20593 - وعلى هذا تتفق معانيها في أن مكة بلدة مؤمنة ، ولم يكن فيها شيء من أقوام له لعشرة ، ولم يكن فيها شيء من الصلح إلا أن يحصل أمرها كان ؛ لأنها صالحت لملك أهلها أنفسهم وذراريهم وأموالهم .

20594 - وهذا أشبه بحكم الصلح منه لحكم العنوة .

20595 - أخبرنا عبد الله ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الحسن بن الصباح ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن عقيل بن معقل ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، قال : سألت جابرا : هل غنموا يوم الفتح شيئا قال : لا .

20596 - واختلف الفقهاء في الحربي المستأمن يسلم وله في دار الحرب مال وعقار .

20597 - فقال مالك ، والليث ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم : إذا أتى الحربي طالبا للأمان ، فأعطاه ذلك الإمام ، وله في دار الحرب أموال ، ودور ، وامرأة حامل ، وأولاد صغار وكبار ، فأسلم ، ثم ظفر المسلمون على تلك الدار إن ذلك كله إذا [ ص: 339 ] أسلم الحربي في بلده ، ثم خرج إلينا مسلما ، فإن أولاده الصغار أحرار ومسلمون ، وما أودعه مسلما ، أو ذميا ، فهو له ، وما أودعه حربي ، وسائر ماله هناك فيء ، فرقوا بين إسلامه قبل خروجه ، وبين إسلامه بعد خروجه ، لاختلاف حكم الدار عنده .

20598 - وقال الشافعي : من خرج إلينا منهم مسلما ، أحرز ماله حيث كان ، وصغار ولده .

20599 - وهو قول الطبري .

20600 - ولم يفرق مالك والشافعي بين إسلامه في دار الكفر ، أو دار الإسلام .

20601 - وقال الأوزاعي : يرد إليه أهله وعياله ، وذلك فيء . ولم يفرق بين ملك في الدارين .

20602 - واختلف العلماء في بيع أرض مكة وكرائها ودورها :

20603 - فكان مالك يكره بيوت مكة ، وقال : كان عمر ينزع أبواب مكة .

20604 - وكان أبو حنيفة لا يرى ، بأسا ببيع بناء بيوت مكة ، وكره بيع أرضها ، وكره كراء بيوتها في الموسم ، ومن الرجل يعتمر ، ثم يرجع .

20605 - فأما المعتمر ، فلا يرى بأخذ الكراء منه بأسا .

[ ص: 340 ] 20606 - قال محمد : وبه نأخذ .

20607 - قال الشافعي أرض مكة وبيوتها وديارها لأربابها ، ما بين بيعها وكرائها .

20608 - وهو قول طاوس ، وعمل ابن الزبير .

20609 - واحتج الشافعي بحديث أسامة بن زيد أنه قال : يا رسول الله : أنزل دارك بمكة ، فقال : " وهل ترك لنا عقيل من رباع ، وكان قد باعها ، فأضاف الملك إليه ، وإلى من ابتاعها منه ، وقد أضاف الله - عز وجل - الديار إليهم بقوله - عز وجل - : المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم [ الحشر : 8 ] .

20610 - وقال : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ الحج : 40 ] .

20611 - وكره عطاء كراء بيوت مكة .

20612 - وقال إسحاق : بيع دور مكة وشراؤها وإجارتها مكروهة ، ثم قال : شراؤها واستئجارها أهون من بيعها وإجارتها .

20613 - قال أبو عمر : هذا ضعيف من القول ؛ لأن المشتري والبائع متبايعان فما كره البائع ينبغي أن يكره المشتري ، وهذا نحو من كره بيع المصحف ، وأجاز شراءه .

20614 - وقد كره في هذا الباب حديث من حديث ابن عمر ، لا يصح عند [ ص: 341 ] أهل العلم بالحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يحل بيع البيوت بمكة ، ولا إجارتها .

20615 - وكان أحمد بن حنبل يعجبه أن يتوقى الكراء في الموسم ، ولا يرى بالشراء بأسا .

20616 - قال : وقد اشترى عمر بن الخطاب دار السجن بأربعة آلاف .

20617 - قال أبو عمر : تبايع أهل مكة لديارهم قديما وحديثا أشهر وأظهر من أن يحتاج فيه إلى ذكر .

20618 - وقد ذكر كثيرا من ذلك " الهجيني " ، والخزاعي ، وغيرهما في " أخبار مكة " والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية