الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1024 وفي هذا الباب :

979 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، أنه قال : قدم على أبي بكر الصديق مال من البحرين . فقال : من كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأي أو عدة ، فليأتني . فجاءه جابر بن عبد الله ، فحفن له ثلاث حفنات .


20646 - قال أبو عمر : هذا الحديث لم يختلف عن مالك في انقطاعه ، وهو [ ص: 348 ] حديث متصل من وجوه صحاح ، عن جابر .

20647 - رواه عنه جماعة منهم أبو جعفر محمد بن علي ، ومحمد ابن المنكدر وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وأبو الزبير ، والشعبي .

20648 - وقد ذكرنا كثيرا من طرقه في " التمهيد " .

20649 - من أحسنها : ما حدثناه خلف بن قاسم الحافظ ، قال : حدثنا أحمد أبو الحسين ابن جعفر الزيات ، قال : حدثنا يوسف بن زيد القراطيسي ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله .

20650 - قال سفيان : وحدثنا عمرو بن دينار ، عن محمد بن علي ، عن جابر بن عبد الله - يزيد أحدهما على الآخر - قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو قد جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا " ، وقال بيديه جميعا ، فما قدم مال من البحرين حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قدم مال من البحرين ، قال أبو بكر : من كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين أو عدة ، فليأتنا .

قال جابر : فأتيت أبا بكر ، فقلت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدني إذا قدم مال من البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ، قال : فحثى لي أبو بكر حثية ، ثم قال لي : عدها ، فإذا هي خمس مائة : قال : خذ مثلها مرتين
.

[ ص: 349 ] 20651 - وزاد فيه ابن المنكدر : ثم أتيت أبا بكر بعد ذلك ، فردني ، فسألته ، فردني ، فقلت في الثالثة : سألتك مرتين ، فلم تعطني ؟ فقال : إنك لم تأتني مرة إلا وأنا أريد أعطيك وأي داء أدوأ من البخل .

20652 - وفي هذا من الفقه : أن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة ، وذلك من أخلاق أهل الإيمان .

20653 - وقد جاء في الأثر أي المؤمن واجب ، أي واجب في أخلاق المؤمنين .

20654 - وإنما قلنا : إن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع الجميع من الفقهاء على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به مع الغرماء كذلك قلنا : إيجاب الوفاء به حسن في المروءة ، ولا يقضى به .

20655 - ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن ، يستحق صاحبه الحمد والشكر والمدح على الوفاء به ، ويستحق على الخلف في ذلك الذم .

20656 - وقد أثنى الله - عز وجل - على من صدق وعده ، ووفى بنذره ، وكفى بهذا مدحا وبما خالفه ذما .

20657 - والوأي : العدة .

20658 - ولما كان هذا من مكارم الأخلاق ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس [ ص: 350 ] بها وأنذرهم إليها ، وكان أبو بكر خليفته أدى ذلك عنه ، وقام مقامه من الموضع الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيمها منه ولذلك لم يسأل أبو بكر الصديق البينة على ما ادعاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العدة ؛ لأن تلك العدة لم يكن شيئا ادعاه جابر في ذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما ادعى شيئا في بيت المال ، وإنما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام .

20659 - واختلف الفقهاء في ما يلزم من العدة ، وما لا يلزم منها .

20660 - وكذلك اختلفوا في تأخير الدين الحال . هل يلزم أم لا يلزم ؟ وهو من هذا الباب :

20661 - فقال مالك وأصحابه : من أقرض رجلا مالا : دنانير ، أو دراهم ، أو شيئا مما يكال أو يوزن ، أو غير ذلك إلى أجل ، ثم طاع له ، فأخرجه إلى الأجل ، ثم أراد الانصراف في ذلك ، وأراده قبل الأجل لم يكن ذلك له ؛ لأن هذا مما يتقرب به إلى الله - عز وجل - ، وهو من باب الحسبة والصدقة التي لا يجوز الرجوع فيها .

20662 - قال أبو عمر : من الحجة لمالك - رحمه الله - عموم قوله تعالى : أوفوا بالعقود ، [ أول المائدة ] ، وقوله عليه السلام : " كل معروف صدقة " .

20663 - وأجمعوا أنه لا يتصرف في الصدقات ، فكذلك سائر الهبات .

20664 - قال مالك : وأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة ، فيقول له : نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل ، فما أرى ذلك يلزمه .

[ ص: 351 ] 20665 - قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين ، فسأله أن يقضيه عنه قال : نعم ، وثم رجال يشهدون عليه ، فما أحراه : أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان .

20666 - وفي سماع عيسى قلت لابن القاسم : إن باع رجل سلعة من رجل ، ثم قال له قبل البيع : بع ، ولا نقصان عليك قال : إذا يلزمه ذلك إن باع بنقصان .

20667 - وهو قول مالك .

20668 - قال عيسى : قلت له : رجل اشترى من رجل سلعة ، ونقده الثمن ، ثم جاءه يستوضعه ، فقال له : اذهب بع ، ولا نقصان عليك ، قال : لا بأس بهذا ، نقده أو لم ينقده ، إلا أن يقول له : انقدني وبع ، ولا نقصان عليك ، فهو الأخير فيه .

20669 - قال : قلت : لم ذلك ؟ قال : لأنه يكون فيه عيوب وخصوم حر .

20670 - وقال ابن القاسم : إذا وعد الغرماء ، فقال : أشهدكم أني قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم ، فإن هذا يلزمه ، وإما أن يقول : نعم ، أنا أقبل ، ثم يبدو له ، فلا أرى ذلك عليه .

20671 - قال أبو بكر ابن اللباد : أخبرنا يحيى بن عمر ، عن إسحاق البرقي ، قال : سمعت أشهب يقول في رجل له ابنة بكر ، فقال لرجل : إن طلقت زوجتك ثلاثا ، فأنا أزوجك ابنتي ، فقال الرجل : اشهدوا أني قد طلقت زوجتي ثلاثا فبدا لأبي الجارية أن يزوجها منه ، فقال أشهب : فوعده ما خلفه ، ولا يلزمه إن يزوجه .

[ ص: 352 ] 20672 - قال ، أشهب : ولكن لو قال أبو الجارية : إن طلقت امرأتك ثلاثا ، فقد زوجتك ابنتي ، فقال الرجل : اشهدوا أني قد طلقت امرأتي ثلاثا فبدا لأبي الجارية أن يزوجها أن النكاح لازم له .

20673 - ويقال للرجل قد قيد أوجب لك النكاح إن أنت فرضت لها صداق مثلها ، ففرق أشهب بين قول الأب : أنا أزوجك ، وقد زوجتك ، وجعل قوله : أنا أزوجك عدة منه ، إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، وجعل قوله : قد زوجتك واجبا ، ليس له فيه رجوع ، وإذا فرض للجارية صداق مثلها .

20674 - وقال سحنون : اختلف أصحابنا في رجوع العدة ، وهو الذي عليه أكثرهم ، وهو الذي يلزمه من العدة في السلف والعارية ، أن يقول للرجل : اهدم دارك ، وأنا أسلفك ما تبنيها به ، أو اخرج إلى الحج ، وأنا أسلفك ما يبلغك ، أو اشتر سلعة كذا ، أو تزوج ، وأنا أسلفك ثمن السلعة ، وصداق المرأة ، وما أشبه ذلك مما يدخله فيه وينشبه به ، فهذا كله يلزمه .

20675 - قال : وإما أن يقول : أنا أسلفك ، وأنا أعطيك ، بغير شيء يلزم المأمور نفسه فإن هذا لا يلزمه منه شيء .

20676 - قال أصبغ : العدة إذا لم تكن في نفس البيع ، وكانت بعد فهي موضوعة عين المشتري ، وتلزم البائع .

20677 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وعبيد الله بن [ ص: 353 ] الحسن وسائر الفقهاء : أما العدة فلا يلزمه منها شيء ؛ لأنها منافع ، لم يقبضها في العارية ؛ لأنها طارئة ، وهي بغير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة ، لم تقبض ، فلصاحبها الرجوع فيها .

20678 - وأما القرض فقال أبو حنيفة وأصحابه : وسواء كان القرض إلى أجل ، أو إلى غير أجل ، له أن يأخذه متى أحب ، وكذلك العارية ، وما كان مثل ذلك كله ، ولا يجوز ، تأخير القرض البتة بحال ، ويجوز عندهم تأخير المغصوب وقيم المستهلكات إلا زفر فإنه قال : لا يجوز التأجيل في القرض ، ولا في الغصب واضطرب قول يوسف في هذا الباب .

20679 - وقال الشافعي : إذا أخره بدين حال ، فله أن يرجع فيه متى شاء ، سواء كان من قرض ، أو غير قرض ، أو من أي وجه كان ، فكذلك العارية وغيرها ، لأن ذلك من باب العدة والهبة غير المقبوضة ، وهبة ما لم يخلق .

20680 - قال أبو عمر : في هذا الحديث أيضا دليل على أن يقضي الإنسان عن غيره ، بغير إذنه ، فيبرأ ، وأن الميت يسقط ما كان عليه بقضاء من قضى عنه .

20681 - وذكر أهل السير أن النبي - عليه السلام - كان قد وعد عمرو بن العاص حين بعثه إلى المنذر بن ساوى أن يستعمله على صدقة سعد هديم ، فلما قدم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله عليها أبو بكر إنفاذا لرأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

20682 - أخبرنا يحيى بن يوسف الأشعري قال : حدثنا أحمد بن يوسف المكي ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن محمد الترمذي ، قال : حدثنا محمد بن [ ص: 354 ] عيسى بن سورة بن عيسى الترمذي قال : حدثنا واصل بن عبد الأعلى الكندي ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي جحيفة قال : أمر لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة عشر قلوصا ، فذهبنا نقبضها فأتانا موته ، فلم يعطونا شيئا ، فلما قام أبو بكر قال : من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة ، فليجئ فقمت إليه ، فأخبرته ، فأمر لنا بها .

20683 - قال أبو عمر : هو غريب ليس له غير هذا الإسناد .

التالي السابق


الخدمات العلمية