الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1025 981 - وأما حديث مالك في هذا الباب عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمته ؟ أنها حدثته عن جدته : أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء . فماتت ولم تقضه . فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها : أن تمشي [ ص: 17 ] عنها .

20737 - قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : لا يمشي أحد عن أحد .


20738 - قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك أنه لا يمشي أحد عن أحد ، ولا يصوم عنه ، وأعمال النذر كلها عنده كذلك قياسا على الصلاة ، والمجتمع عليها .

20739 - وقال ابن القاسم : أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة .

20740 - قال أبو عمر : لا يعرف مالك المشي إلا إلى مكة . بمعنى أنه لا يعرف إيجاب المشي ، وإنما هذا في الحالف والناذر عنده .

20741 - وأما قوله في المتطوع فقد ذكرناه في كتاب الصلاة عند ذكر حديث ابن عمر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا .

20742 - وذكرنا هناك آثارا تدل على إتيان مسجد قباء ترغيبا فيه ، وأن صلاة واحدة فيه كعمرة .

20743 - ولم يختلف العلماء فيمن قال : علي المشي إلى بيت المقدس ، أو إلى مسجد المدينة ، ولم ينو الصلاة في واحد من المسجدين ، وإنما أراد قصدهما لغير [ ص: 18 ] الصلاة أنه لا يلزمه الذهاب إليهما .

20744 - فنذر المشي إلى قباء بذلك أولى ; لأن الصلاة في المسجد الحرام ، أو مسجد النبي - عليه السلام - أو مسجد بيت المقدس أفضل من الصلاة بقباء بإجماع من العلماء .

20745 - واختلفوا إذا أراد الصلاة فيهما أو في أحدهما أو ذكر المسجد منهما .

20746 - فقال مالك : إذا قال : لله المشي علي إلى المدينة ، أو إلى بيت المقدس ، فلا شيء عليه إلا أن ينوي أن يصلي هناك بل يلزمه الذهاب إليهما راكبا إن شاء ، ولا يلزمه المشي إليهما .

20747 - قال أبو عمر : قول مالك فيمن قال : لله علي أن أمشي إلى المدينة ، أو إلى بيت المقدس ، أنه لا شيء عليه إلا أن ينوي الصلاة في مسجدهما ، يدل على أن قائلا لو قال : علي المشي إلى قباء ، لم يلزمه شيء ، إلا أن يقول : مسجد قباء ، أو ينوي الصلاة في مسجد قباء .

20748 - فإذا قال : مسجد قباء ، أو نوى الصلاة في مسجد قباء .

20749 - فإذا قال : مسجد قباء ، علم أنه للصلاة ، وكذلك إذا نوى ذلك .

[ ص: 19 ] 20750 - فمن جعل الصلاة في مسجد قباء لها فضل الصلاة على غيرها أحب لنا ، بل أوفى بما فعل على نفسه .

20751 - ومن لم ير أعمال المصلي ولا المشي إلا إلى الثلاثة المساجد أمر من [ ص: 20 ] نذر الصلاة بهما أن يصلي في مسجده أو حيث شاء .

20752 - ومن قال : لا مشي إلا إلى مكة لم يلتفت إلى غير ذلك .

20753 - وهو قول مالك في المشي .

20754 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : من نذر المشي إلى مسجد النبي - عليه السلام - أو مسجد بيت المقدس لم يلزمه شيء .

20755 - وقال الأوزاعي : من نذر أن يمشي إلى بيت المقدس ، فليركب إن شاء ، وإن كانت امرأة ، فإن شاءت ركبت ، وإن شاءت تصدقت بشيء .

20756 - وقول مالك والشافعي أنه يمضي راكبا إلى بيت المقدس فيصلي فيه .

20757 - واختلفوا فيمن نذر أن يصوم أو يصلي في موضع يتقرب بإتيانه إلى الله عز وجل ، كالثغور ونحوها .

20758 - فقال مالك : من نذر ذلك فإنه يقصد ذلك الموضع فيصوم فيه أو يصلي .

20759 - وإن كان من أهل مكة أو المدينة يعني ولا يلزمه المشي .

20760 - قال : ولو قال : لله علي أن أعتكف في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعتكف في مسجد الفسطاط لم يجزه ذلك .

20761 - فقال الأوزاعي : إذا جعل عليه صيام شهر بمكة ، لم يجزه في غيرها . وإذا نذر صلاة في مكة لم يجزه في غيرها .

20762 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ومحمد : من نذر أن يصوم بمكة ، [ ص: 21 ] فصام بالكوفة ، أجزأه .

20763 - وقال زفر : لا يجزئه إلا أن يصوم بمكة .

20764 - وقال أبو يوسف : من نذر أن يصلي في المسجد الحرام ، فصلى في غيره ، لم يجزه ، وإن نذر أن يصلي ببيت المقدس ، فصلى في المسجد الحرام ، أجزأه .

20765 - وقال الشافعي : من نذر أن يصلي بمكة لم يجزه أن يصلي بالمدينة ، ولا ببيت المقدس .

20766 - وإن نذر الصلاة بالمدينة ، أو ببيت المقدس ، جاز له أن يصلي بمكة ، ولم يجزه أن يصلي في غيرها من البلدان إلا الفاضل من المدينة ، أو بيت المقدس . قال : وإن نذر سوى هذه البلاد صلى حيث شاء .

20767 - قال : وإن قال : لله علي أن أنحر بمكة ، لم يجزه في غيرها .

20768 - وكذلك إن نذر أن ينحر بغيرها ، لم يجزه إلا في الموضع الذي نذر ; لأنه شيء أوجبه على نفسه لمساكين ذلك البلد .

20769 - وقال الليث بن سعد : من نذر صياما في موضع ، فعليه أن يصوم في ذلك الموضع ، ومن نذر المشي إلى مسجد من المساجد ، مشى إلى ذلك المسجد .

[ ص: 22 ] 20770 - قال أبو جعفر الطحاوي : لم يوافق الليث على إيجاب المشي إلى سائر المساجد أحد من الفقهاء .

20771 - وأما فتيا ابن عباس المرأة التي جعلت على نفسها مشيا إلى قباء وماتت : أن تمشي ابنتها عنها ، فقد تقدم في كتاب الصيام الاختلاف عن ابن عباس في قضاء الولي عن وليه الميت ما كان واجبا عليه من صوم أو صدقة ، وما للعلماء في ذلك ما غنى عن إعادته هاهنا .

20772 - وأما الدليل على أن الصلاة في الموضع الفاضل تجزئ عن الصلاة في الموضع المقصود إليه بالصلاة ، فحديث جابر .

20773 - حدثناه عبد الله بن حماد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا حبيب المعلم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله : أن رجلا قال : يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ، قال : " صل هاهنا " ، وأعاد عليه مرتين ، كل ذلك يقول : " صل هاهنا " وأعاد عليه الثانية فقال : " شأنك إذا " .

25774 - قال أبو عمر : كل من ذهب إلى أن المسجد الحرام أفضل من مسجد النبي - عليه السلام - فعلى هذا يخرج جوابه بدليل هذا الحديث الذي ذكرناه .

[ ص: 23 ] 20775 - وكذلك قول مالك ومن تبعه في تفضيل مسجد النبي - عليه السلام - على المسجد الحرام يجيء أيضا على مثل هذا أن يصلي في مسجد النبي - عليه السلام - ولا يذهب إلى المسجد الحرام .

20776 - وهذا لا نعلم أن أحدا قاله فيمن نذر المشي إلى مكة ليصلي في مسجدها ، أنه يجزئه الصلاة في مسجد النبي - عليه السلام - فدل ذلك على فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره .

20777 - وكذلك لم يوجب أحد المشي إلى المدينة على الأقدام ، وأوجبوه إلى مكة ، وذلك بين في فضل مشيه إلى مكة على غيره ، وبالله التوفيق .

20778 - إلا أن الرواية عن مالك : في كل موضع يتقرب فيه إلى الله - عز وجل - بالصوم والصلاة ألا يتعدى إلى غيره ، وإن فات أفضل ، بدليل الحديث المذكور .

20779 - ومن هذا الأصل جوابه فيمن نذر أن يعتكف في مسجد النبي - عليه السلام - فاعتكف في الفسطاط أن لا يجزئه .

20780 - واحتج الطحاوي للكوفيين على زفر بأن قال : القربة في الصلاة دون الموضع فلا معنى لاعتبار الموضع .

20781 - ورد ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل الصلاة في مسجده والمسجد الحرام على ما سواهما من المساجد على من قال ذلك بصلاة الفريضة لا في النافلة ; بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا [ ص: 24 ] المكتوبة .

20782 - قال أبو عمر : لا معنى لقوله هذا ; لأنه معلوم أن من قصد بيت المقدس ، أو المسجد الحرام ، أو مسجد النبي - عليه السلام - لا تمتنع عليه الصلاة المكتوبة فيه ، بل القصد إليهما إلى المكتوبات ، وهو الغرض في قصد القاصد ، ونذر الناذر .

20783 - ولو قال قائل : إن فضل النافلة تبع لفضل الفريضة وجعل قوله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة في مسجدي هذا أفضل من أفضل صلاة في سائر المساجد إلا المسجد الحرام ، عموما في النافلة والفريضة كان مذهبا .

20784 - إلا أن فيه نسخ قوله : " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " لأن فضائله كانت تزيد في كل يوم لا تنقص ، وهذا من فضائله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه خبر لا يجوز عليه النسخ ، فقد بينا هذا في موضعه ، وذكرنا اختلاف العلماء في تفضيل المسجد الحرام على مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في " كتاب الصلاة " ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية