الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 40 ] ( 3 ) باب العمل في المشي إلى الكعبة

985 - ذكر فيه مالك ; إن أحسن ما سمعت من أهل العلم ، في الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله ، أو المرأة ، فيحنث ، أو تحنث . أنه إن مشى الحالف منهما في عمرة ، فإنه يمشي حتى يسعى بين الصفا والمروة . فإذا سعى فقد فرغ . وأنه إن جعل على نفسه مشيا في الحج ، فإنه يمشي حتى يأتي مكة . ثم يمشي حتى يفرغ من المناسك كلها . ولا يزال ماشيا حتى يفيض .

[ ص: 41 ] 20862 - قال مالك : ولا يكون مشي إلا في حج أو عمرة .


20863 - قال أبو عمر : أما قوله : أنه سمع أهل العلم ( في الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله ) ، فهذا مذهبه ومذهب من سمع منه في التسوية بين الحالف بالمشي إلى الكعبة وبين الناذر .

20864 - وفي قوله : " أحسن ما سمعت " : بيان أنه سمع الخلاف في ذلك .

20865 - وأما الناذر فقد مضى الخلاف فيه .

20866 - ولا خلاف بين العلماء أن النذر الطاعة يلزم صاحبه الوفاء به ، ولا كفارة فيه .

20867 - وأما الحالف إلى مكة ، أو إلى بيت المقدس ، فنذكر الخلاف هنا بعون الله وفضله إن شاء الله .

20868 - وأما قوله في الحالف بالمشي ، وهو يريد الحج ، أنه يمشي - يعني من موضعه - حتى يأتي مكة ، ثم يقضي المناسك كلها فعلى هذا أكثر أهل العلم في الناذر دون الحالف .

20869 - ويأتي القول في الحالف بالمشي إلى الكعبة فيما بعد إن شاء الله .

20870 - ويروى عن ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ; أنهما قالا : من جعل على نفسه المشي إلى بيت الله ، ركب من بلده ، فإذا جاء الحرم ، نزل إلى أن يطوف طواف الإفاضة إن كان حاجا ، وإن كان معتمرا حتى يسعى بين الصفا والمروة .

20871 - وقد روي عن عطاء أنه يركب حتى يأتي الميقات - يعني ميقات [ ص: 42 ] بلده - ثم يمشي إلى أن يتم حجه أو عمرته .

20872 - وقال الحسن : يمشي من الأرض التي يكون فيها .

20873 - وروي عن مجاهد مثله .

20874 - وقاله ابن جريج وجماعة فقهاء الأمصار .

20875 - وأما قوله في المشي لا يكون إلا بحج أو عمرة ، فإن مكة لا تدخل إلا بإحرام ، وأقل الإحرام عمرة .

20876 - وقد شذ ابن شهاب فأجاز دخولها بغير إحرام .

20877 - وسنذكر هذه المسألة في موضعها من كتاب الحج إن شاء الله .

20878 - وأما اختلاف العلماء في الحالف في المشي إلى مكة والى البيت الحرام .

20879 - فمذهب أبي حنيفة في ذلك كالمشهور من حديث مالك .

20880 - قال أبو حنيفة وأصحابه : من حلف بالمشي إلى بيت الله ، أو إلى مكة ، أو إلى الكعبة ، فإنه يمشي وعليه حجة أو عمرة ، فإن ركب في ذلك أجزأه وعليه دم .

20881 - قال : ولو حلف بالخروج أو الذهاب إلى الكعبة ، أو حلف بالمشي إلى الحرم ، أو الصفا والمروة ، ثم حلق ، لم يكن عليه شيء ، في قول أبي حنيفة .

20882 - وقال أبو يوسف ومحمد : حلفه بالمشي إلى الحرم كالكعبة .

20883 - ولا خلاف عن مالك في الحالف كذلك والناذر سواء ، وأنهما [ ص: 43 ] يلزمهما المشي من بلدهما في حج أو عمرة على سنتهما .

20884 - وعلى هذا جمهور أصحابه ، إلا رواية جاءت عن ابن القاسم أفتى بها ابنه عبد الصمد رواها الثقات العدول .

20885 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي .

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم وأحمد بن خالد ، قالا : أخبرنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : أن عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم أخبره ، قال : حلف أخي بالمشي إلى مكة في بيتي ، فحنث ، فسألت عبد الرحمن بن القاسم عن ذلك ، وأخبرته بيمينه ، فاشتد ذلك عليه وقال : ما دعاه أن يحلف بهذا ؟ قلت : قد فعل ! قال : مره أن يكفر ، فيمينه خبيثة ، ولا يعود .

قال عبد الله بن محمد بن علي ، قال لي أحمد بن خالد ، فذكرتها لابن وضاح ; فأنكرها ، وقال لي : المعروف عن ابن القاسم غير ذلك ، فقلت : أخبرني به ثقة ، فقال : من هو ؟ فقال : قلت : قاسم بن محمد ، فسكت .

20886 - أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا محمد بن الأصبغ ، يعرف بابن مليح ، قال : حدثنا مقدام بن داود ، عن عمه سعيد بن تليد : أن عبد الرحمن بن القاسم أفتى ابنه [ ص: 44 ] عبد الصمد ، وكان حلف بالمشي إلى مكة ، فحنث ، بكفارة يمين .

20887 - قال : وحلف مرة أخرى بصدقة ما يملك ، وحنث ، فأفتاه بكفارة يمين ، وقال له : إني قد أفتيتك بقول الليث ، فإن عدت فلا أفتك إلا بقول مالك .

20888 - قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : إذا حلف بالمشي إلى [ ص: 45 ] مكة ، أو بثلاثين حجة ، أو بصيام أوجبه على نفسه باليمين ، أو بغير ذلك من الأيمان سوى الطلاق ; فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك .

20889 - ففي قول أصحابنا كلهم كفارة يمين ، وليس عليه أكثر من ذلك .

20890 - وهو قول الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي عبيد .

20891 - فإن حلف بطلاق فقد أجمعت الأمة على أن الطلاق لا كفارة له ، وأنه إن حنث في يمينه ، فالطلاق لازم له .

20892 - واختلفوا في العتق .

20893 - فقال أكثرهم : الطلاق والعتق سواء لا كفارة في العتاق ، كما لا كفارة في الطلاق .

20894 - وهو لازم للحالف به كلزوم الطلاق .

20895 - وممن قال ذلك : مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي وأصحابه ، ومحمد بن حنبل ، وأبو عبيد ، وإسحاق .

20896 - وقال أبو ثور : من حلف بالعتق ، فعليه كفارة يمين ، ولا عتق عليه .

20897 - وذلك أن الله تبارك وتعالى أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف ، فقال : " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " [ المائدة : 89 ] .

يعني : فحنثتم .

20898 - فكل يمين حلف بها الإنسان فحنث ، فعليه الكفارة ، على ظاهر [ ص: 46 ] الكتاب ، إلا أن مجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيء ما .

20899 - ولم يجمعوا على ذلك إلا في الطلاق ، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة ، وألزمناه الطلاق للإجماع .

20900 - وجعلنا في العتق الكفارة ; لأن الأمة لم تجمع على أن لا كفارة فيه .

20901 - قال أبو عبد الله : وقد روي عن الحسن ، وطاوس مثل قول أبي ثور .

20902 - والذي أذهب إليه ما قاله الشافعي وأحمد : كفارة يمين فيما عدا الطلاق والعتق .

20903 - وقد روي عن عائشة : " كل يمين ليس فيها طلاق ولا عتق ، فكفارتها كفارة يمين " .

20904 - قال أبو عمر : الخلاف الذي ذكره أبو ثور في العتق هو ما رواه معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن أبي رافع : أن مولاته حلفت بالمشي إلى مكة ، وكل مملوك لها حر ، وهي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل شيء لها في سبيل الله ، إن لم يفرق بينه وبين امرأته ، فسألت ابن عمر ، وابن عباس ، وأبا هريرة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، فكلهم قال لها : كفري يمينك وخلي بينها وبينه ، ففعلت .

20905 - رواه عبد الرزاق ، عن معتمر بن سليمان .

20906 - قال أبو عمر : وقد روى يونس ، عن الحسن ، أنه جاءه رجل ، [ ص: 47 ] فقال : إني جعلت كل مملوك لي حرا إن شاركت أخي ، قال : شارك أخاك وكفر عن يمينك .

20907 - وهو قول القاسم ، وسالم ، وسليمان بن يسار وطاوس وقتادة .

20908 - وبه قال أبو ثور .

20909 - وذكر داود في الحالف بالمشي إلى مكة وبصدقة ماله أنه لا شيء عليه من كفارة ولا غيرها .

20910 - وهو قول الشعبي ، والحاكم والحارث العقيلي وابن أبي ليلى .

20911 - وبه قال محمد بن الحسن ; لأن الحالف ليس بناذر طاعة ، فيلزمه الوفاء بها ، ولا بحالف بالله ، فيجب عليه كفارة الحالف باليمين بالله .

20912 - ولا يخرج ماله عن نفسه مخرج القربة ، وإنما أخرجه مخرج الحنث في يمينه إن حنث ، وإن لم يحنث لم يخرجه .

20913 - وهذا لا يشبه النذر الذي يجب الوفاء به ; لما فيه من التقرب إلى الله وشكره وإنفاذ طاعته ، ولا هو في شيء من ذلك المعنى .

20914 - قالوا : والحالف بغير الله ليس بحالف عندنا ; لأن الله تعالى قد نهى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلف بالآباء ، وأن يحلف بغير الله ، إن شاء الله ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية