الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
118 96 - رواه مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : جاءت أم سليم ، امرأة [ ص: 122 ] أبي طلحة الأنصاري ، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ! إن الله لا يستحي من الحق ، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال : " نعم . إذا رأت الماء " .


3018 - وكذلك رواه سائر من رواه عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، لا عن عروة ، عن عائشة . وهو الصحيح عندهم . لعروة عن زينب ، عن أمها ، لا عن عائشة ، والله أعلم .

3019 - وفي هذا الحديث والذي قبله - إيجاب الغسل على النساء إذا احتلمن ، ورأين الماء . حكمهن في ذلك حكم الرجال في الاحتلام إذا كان معه الإنزال .

3020 - وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء ، والحمد لله .

3021 - وأكثر أصحاب ابن شهاب يقولون في هذا الحديث : نعم ، إذا وجدت الماء .

[ ص: 123 ] 3022 - وكذلك في حديث أم سلمة وأنس في قصة أم سليم وكذلك روته خولة بنت حكيم ، عن النبي - عليه السلام - .

3023 - والعلماء على ذلك مجمعون فيمن وجد الماء الدافق من الرجال والنساء .

3024 - وقد أوضحنا في التمهيد هذا المعنى .

3025 - وقد روي هذا المعنى ملخصا من أخبار الآحاد العدول مرفوعا .

3026 - رواه عبد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ، ولا يذكر احتلاما ، قال : " يغتسل " وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل ، قال : لا غسل عليه . فقالت أم سليم : " المرأة ترى ذلك أعليها الغسل ؟ قال : نعم . إنما النساء شقائق الرجال .

3027 - وروى قتادة عن أنس أن أم سليم سألت رسول الله عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا رأت ذلك ، فأنزلت فعليها الغسل " فقالت أم سلمة : أيكون هذا يا رسول الله ؟ قال : نعم . ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر . فأيهما سبق ، أو علا أشبهه الولد .

[ ص: 124 ] 3028 - حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرنا سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس .

3029 - وهذا واضح لا إشكال فيه ، ولا مدخل للقول ، وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد . 3030 - وفي هذا الحديث ما كان عليه نساء ذلك الزمان من الاهتبال ، والاهتمام بأمر دينهن ، والسؤال عنه .

3031 - وهذا يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من أمر دينه أن يسأل عنه .

3032 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " شفاء العي السؤال " .

3033 - وقالت عائشة : رحم الله نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن .

3034 - وكانت أم سليم من فواضل نساء الأنصار .

3035 - وفيه أيضا دليل على أن النساء ليس كلهن يحتلمن ، ولهذا أنكرت عائشة وأم سلمة سؤال أم سليم . وقد يعدم الاحتلام في بعض الرجال ، فالنساء أحرى أن يعدم ذلك فيهن .

[ ص: 125 ] 3036 - وقد قيل : إن إنكار عائشة لذلك إنما كان لصغر سنها ، وكونها مع زوجها ؛ لأنها لم تحض إلا عنده ، ولم تفقده فقدا طويلا إلا بموته - عليه السلام - . فلذلك لم تعرف في حياته الاحتلام ؛ لأن الاحتلام لا يعرفه النساء ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الجماع . بعد المعرفة به . فإذا فقد النساء أزواجهن احتلمن . والوجه الأول عندي أصح وأولى ، والله أعلم ؛ لأن أم سلمة فقدت زوجها وكانت كبيرة عالمة بذلك ، وأنكرت منه ما أنكرت عائشة - رحمها الله - . فدل ذلك على أن من النساء من لا تنزل الماء في غير الجماع الذي يكون حقيقة في اليقظة ، والله أعلم .

3037 - وفيه جواز الإنكار والدعاء بالسوء على من اعترض فيما لا علم له به .

3038 - وفيه أن الشبه يكون من سبق الماء وعلوه وغلبته ، والله أعلم ، على ما مضى في الآثار التي ذكرنا .

3039 - ومثلها ما ذكره ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سليم امرأة أبي طلحة قالت : يا رسول الله ! هل على المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها - غسل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم . إذا رأت بللا . فقالت أم سلمة : يا رسول الله ! وتفعل ذلك المرأة ؟ فقال : " ترب جبينك " وأنى يكون شبه الخئولة إلا من ذلك ؟ أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه .

3040 - قال أبو عمر : كذا قال : جبينك والمعروف تربت يمينك ، وتربت يداك ، والله أعلم .

3041 - وقد أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال حدثنا أحمد بن جعفر [ ص: 126 ] بن حمدان ببغداد ، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدثنا أبي قال حدثنا يزيد بن هارون وحجاج بن محمد ، قالا : أخبرنا ابن أبي ذئب عن المقبري ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أم سلمة أن أم سليم - قال حجاج : امرأة أبي طلحة - قالت : يا رسول الله ! المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها أعليها غسل ؟ قال : نعم . إذا رأت بللا . فقالت أم سلمة : أو تفعل ذلك المرأة ؟ فقال : تربت يمينك . أنى يأتي شبه الخئولة إلا من ذلك ؟ أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه " .

3042 - وقال حجاج في حديثه : " ترب جبينك " .

3043 - وروى أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أمها مثل حديث مالك عن هشام بن عروة المذكور في هذا الباب ، إلا أنه قال : فقالت أم سلمة - وغطت وجهها - : أو تحتلم المرأة ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تربت يداك فبم يشبهها ولدها ؟ .

3044 - وقد روى ثوبان مولى النبي عن النبي - عليه السلام - ما يخالف الحديث المذكور في الشبه . رواه معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام الحبشي يقول : حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى النبي - عليه السلام - حدثه أن حبرا من أحبار اليهود قال لرسول الله : أسألك عن الولد ، فقال رسول الله : ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر . فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن [ ص: 127 ] الله ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله ، فقال اليهودي : أشهد أنك نبي ، ثم انصرف وذكر تمام الحديث .

3045 - وأما قوله في الحديث : " أف لك " فيجر ويرفع وينصب بتنوين وغير تنوين .

3046 - ذكر ذلك أبو عبيدة وغيره ، وقال : هو ما غلظ من الكلام ، وقبح . وقال غيره : معنى هذه اللفظة : أنه يقال جوابا لما يستثقل من الكلام ، وما يضجر منه . وقالوا : الأف ، والتف بمعنى . قالوا : والأف وسخ الأذن ، والتف : وسخ الأظفار .

3047 - وأما قوله " تربت يداك " . و " تربت يمينك " ففيه قولان :

3048 - ( أحدهما ) أن يكون استغنت يداك أو يمينك ، كأنه يعرض لها بالجهل لما أنكرت ما لا ينبغي أن ينكر ، وأنها كانت تحتاج أن تسأل عن ذلك ، فخاطبها بضد المعنى تنبيها وتأنيبا ، كما قيل في قوله تعالى : " ذق إنك أنت العزيز الكريم " [ سورة الدخان : 49 ] وكما تقول لمن كف عن السؤال فيما جهله : أما أنت فاستغنيت أن تسأل عن مثل هذا ، أي لو أنصفت نفسك ونصحت لها لسألت .

3049 - وقال غيره : هو كما يقال للشاعر إذا أجاد : قاتله الله ، وأخزاه ، لقد أجاد ! ويله مسعر حرب ! وقال : ويل أمه ! وهو يريد مدحه .

3050 - وهذا كله عند من قال هذا القول فرارا من الدعاء على عائشة تصريحا [ ص: 128 ] وأن ذلك غير ممكن من النبي - عليه السلام - عندهم .

3051 - وأنكر أكثر أهل العلم باللغة والمعاني أن تكون هذه اللفظة بمعنى الاستغناء ، وقالوا : لو كانت بمعنى الاستغناء لقال : أتربت يمينك ؛ لأن الفعل منه رباعي . يقال : أترب الرجل : إذا استغنى ، وترب : إذا افتقر . وقالوا : معنى قوله : " تربت يمينك " أي : افتقرت من العلم بما سألت عنه أم سليم ، ونحو هذا .

3052 - قال أبو عمر : أما قوله " تربت يمينك " فمعلوم من دعاء العرب بعضهم على بعض ، مثل : قاتله الله ، وهوت أمه ، وثكلته أمه ، وعقرا حلقا ، ولليدين والفم ، ونحو هذا . والشبه والشبه ، مثل : المثل والمثل والقتب والقتب .

التالي السابق


الخدمات العلمية