الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1037 [ ص: 93 ] ( 9 ) باب جامع الأيمان

994 - مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يسير في ركب ، وهو يحلف بأبيه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان [ ص: 94 ] حالفا ، فليحلف بالله أو ليصمت " .


21140 - قال أبو عمر : لم يختلف على مالك في هذا الباب أنه من مسند ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه العمريان ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه الزهري ، عن صالح ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : سمعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحلف بأبي . الحديث .

21141 - وذكر عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر ، قال : كنت في ركب أسير في غزاة ، نذكر الحديث بمعناه ، وفي رواية الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر مثله ، وزاد : قال عمر : فوالله ما حلفت به ذاكرا ولا [ ص: 95 ] آثرا .

21142 - وفي هذا الحديث من الفقه : أنه لا ينبغي اليمين بغير الله عز وجل ، وأن الحلف بالمخلوقات كلها في حكم الحلف بالآباء ، فإن قيل : فإنما في القرآن من الإقسام بالمخلوقات ، نحو قوله تعالى : والطور وكتاب مسطور [ الطور ] ، والتين والزيتون [ التين ] والسماء والطارق [ الطارق ] ، وما كان مثله في القرآن .

قيل : المعنى فيه : ورب الطور ، ورب النجم ، فعلى هذا المعنى هي إقسام بالله تعالى لا بغيره .

21143 - وقد قيل في جواب ذلك أيضا : قد أقسم ربنا تعالى بما شاء من خلقه .

21144 - ثم بين النبي - عليه السلام - مراد الله تعالى من عباده أنه لا يجوز الحلف بغيره ; لقوله : " من كان حالفا فليحلف بالله " .

21145 - قال أبو عمر : لا ينبغي لأحد أن يحلف بغير الله ، لا بهذه الأقسام ، ولا غيرها ; لإجماع العلماء أن من وجبت له يمين على آخر في حق قبله ، أنه لا يحلف له إلا بالله ، ولو حلف له بالنجم والسماء والطارق ، وقال : نويت رب ذلك ، لم يكن عندهم يمينا .

21146 - وفي غير رواية يحيى عن مالك أنه بلغه عن ابن عباس أنه كان يقول : [ ص: 96 ] لأن أحلف بالله بإثم أحب إلي من أن أظاهر ، فالمظاهرة أن يحلف بغير الله تعظيما للمحلوف به ، فشبه خلق الله به في التعظيم ، قال الله تعالى : يضاهئون قول الذين كفروا من قبل التوبة : 30 .

21147 - ومعناه أن أحلف بالله ، فآثم أي فأحنث أحب إلي من أن أحلف بغيره فأبر .

21148 - وقد روي عن ابن عمر ، وابن مسعود قالا : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا .

21149 - وروى ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة : أنه سمع ابن الزبير يقول : سمعني عمر أحلف بالكعبة ، فنهاني ، وقال : لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك .

21150 - وقال قتادة : يكره الحلف بالمصحف ، وبالعتق ، والطلاق .

21151 - وأجاز ابن عمر ، والحسن ، وإبراهيم اليمين " بايم الله " .

21152 - وأجاز عطاء ، وإبراهيم : " لعمري " .

21153 - وكره إبراهيم : " لعمرها " .

21154 - قال أبو عمر : حديث هذا الباب يرد قول من أجاز اليمين بغير الله ، وهو الأصل .

[ ص: 97 ] 21155 - وقال أهل الظاهر : من حلف بغير الله وهو عالم باليمين ، فهو عاص لله ، ولا كفارة عندهم في غير اليمين بالله - عز وجل - .

21156 - والذي عليه الجمهور من سلف العلماء وخلفهم : تطلب الكفارة في وجوه كثيرة من الأيمان بغير الله نذكرها في هذا الباب - إن شاء الله - وهم مع ذلك يستحبون اليمين بالله ، ويكرهون اليمين بغيره .

21157 - وهذا عمر ، وابن عمر يوجبان كفارة اليمين فيمن حلف بغير الله ، وهما رويا الحديث عن النبي - عليه السلام - أنه نهى عن الحلف بالآباء ، وقال : " من كان حالفا ، فليحلف بالله ، فدل أنه على الاختيار لا على الإلزام والإيجاب .

21158 - وروى يزيد بن زريع ، عن حبيب المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب : أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة ، فقال : إن تسألني القسمة لم أكلمك أبدا ، وكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الكعبة لغنية عن مالك : كفر يمينك وكلم أخاك .

21159 - وهو قول ابن عمر ، وابن عباس وزيد بن ثابت ، وعائشة ، وحفصة ، وسعيد بن المسيب وجماعة من علماء التابعين بالمدينة والكوفة وسترى كثيرا من ذلك في هذا الباب ، إن شاء الله .

21160 - والكفارة على من حلف بما لا إثم فيه أوكد ; لأن الكفارة لمحو [ ص: 98 ] الإثم ، وهي منزلة فيمن حلف وحنث نفسه فيما يرى خيرا له .

21161 - وأما قول مالك فيمن حلف بماله في رتاج الكعبة ، فخلاف للجماعة ، وكأنه زاد من وجه ما لا يعزو عليه أو لا يصلح ، وقد زدنا هذه المسألة بيانا في آخر هذا الكتاب .

21162 - وذكر ابن حبيب عن مالك أنه كان يقول فيمن جعل ماله في رتاج الكعبة ، فقول عائشة ، ثم رجع عنه ، إلا أنه لا شيء عليه .

21163 - وقوله الأول عليه الجمهور من السلف والخلف ، وليس قوله الذي رجع إليه بقياس ولا اتباع .

21164 - حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا ابن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ، ولا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون " .

21165 - وحديث هذا الباب ناسخ لما رواه إسماعيل بن جعفر ، عن إسماعيل ، عن أبي سهيل بن مالك ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبيد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الأعرابي النحوي ، قال فيه أفلح - وأبيه - إن صدق إن صحت هذه اللفظة ; لأن [ ص: 99 ] مالكا رواه عن عمه أبي سهيل بإسناده ، فقال فيه : أفلح إن صدق ، ولم يقل : وأبيه ، ومالك لا يقاس به مثل إسماعيل بن جعفر في حفظه وإتقانه .

31166 - وقد مضى في هذا الكتاب ما للعلماء من الاختلاف في كفارات الأيمان بغير الله ، فلا وجه لإعادة ذلك هنا ، وقد بسطنا القول في الأيمان ووجوهها ، وما للعلماء من التنازع فيها في مواضع في التمهيد .

21167 - منها : حديث مالك ، عن سهيل بن أبي صالح .

21168 - ومنها : حديث نافع ، هذا والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية