الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1046 [ ص: 166 ] ( 4 ) باب ادخار لحوم الأضاحي .

1003 - مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة أيام ، ثم قال بعد ، كلوا ، وتصدقوا ، وتزودوا ، وادخروا .

1004 - مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الله بن واقد ; أنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة أيام ، قال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق . سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول : دف ناس من أهل [ ص: 167 ] البادية حضرة الأضحى ، في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ادخروا لثلاث . وتصدقوا بما بقي ، قالت : فلما كان بعد ذلك ، قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ، ويجملون منها الودك ، ويتخذون منها الأسقية . فقال رسول الله وما ذلك ، أو كما قال : قالوا : نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم . فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا .

[ ص: 168 ] يعني بالدافة ، قوما مساكين قدموا المدينة .

1005 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ; أنه قدم من سفر فقدم إليه أهله لحما . فقال : انظروا أن يكون هذا من لحوم الأضحى . فقالوا : هو منها . فقال أبو سعيد : ألم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ؟ فقالوا : إنه قد كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدك ، أمر . فخرج أبو سعيد ، فسأل عن ذلك . فأخبر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : نهيتكم عن لحوم الأضحى بعد ثلاث . فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا . ونهيتكم عن الانتباذ ، فانتبذوا . وكل مسكر حرام . ونهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها . ولا تقولوا هجرا .

[ ص: 169 ] يعني لا تقولوا سوءا .


21433 - قال أبو عمر : أما حديث أبي الزبير في أول هذا الباب ، فليس فيه أكثر من بيان الناسخ والمنسوخ في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أمر لا خلاف بين علماء المسلمين فيه في القرآن والسنة .

21434 - وقد تكلمنا على أهل الزيغ ، والإلحاد المنكرين لذلك في التمهيد .

[ ص: 170 ] 21435 - وأما حديثه عن عبد الله بن أبي بكر ، ففيه بيان أن النفي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث لم يكن عبادة ، فنسخت ، وإنما كان لعلة الدافة .

21436 - ومعنى الدافة : قوم قدموا المدينة في ذلك الوقت مساكين أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحسن إليهم أهل المدينة ، وأن يتصدقوا عليهم .

21437 - وقد ذكرنا الآثار ، والشواهد بهذا المعنى في " التمهيد " .

21438 - وفي حديث الموطأ ، كفاية فيما وصفنا .

21439 - قال الخليل : الدافة : قوم يدفون ، أي يسيرون سيرا لينا .

21440 - وأما قوله : ويجملون منها الودك ، فمعناه يذيبون منها الشحم ، وهو [ ص: 171 ] الودك ، يقال منه : جملت الشحم ، وأجملته ، واجتملته : إذا أذبته .

21441 - والاجتمال أيضا الادهان بالجميل وهي الإهالة .

21442 - وأما حديث ربيعة ، عن أبي سعيد الخدري ، منقطع ، لأن ربيعة لم يلق أبا سعيد ، وهو يستند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق ، قد ذكرنا منها كثيرا في التمهيد .

21443 - وقد رواه القاسم بن محمد ، عن أبي سعيد الخدري .

21444 - ومعلوم أن ملازمة ربيعة القاسم حتى كان يغلب على مجلسه .

21445 - وحديث القاسم رواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم .

[ ص: 172 ] 21446 - حدثناه عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني الخشني ، قال : حدثني ابن أبي عمر ، قال حدثني سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد أن أبا سعيد الخدري قدم من سفر ، ووجد عند أهله شيئا من لحم الأضحية ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا له : إنه حدث بعدك فيه أمر فخرج ، فلقي أخا له من أمه ، يقال له : قتادة بن النعمان قد شمر برداء ، فقال له : إنه قد حدث بعدك أمر ، يقول : إنه قد أذن في أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث .

21447 - وهذا أصح من رواية من روى في هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

21448 - والصحيح - والله أعلم - أنه روى النسخ في هذا الحديث عن أخيه لأمه قتادة بن نعمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

21449 - وقد رواه عن النبي - عليه السلام - علي بن أبي طالب ، وبريدة الأسلمي ، وجابر ، وأنس ، وغيرهم .

[ ص: 173 ] 21450 - وقد ذكرنا أحاديثهم في " التمهيد " .

21451 - وفيه من الفقه ، إشفاق العالم على دينه ، وتعليمه أهله ما يظن أنه يحملونه منه وترك الإقدام على ما حاك في صدره .

21452 - وفيه : أن النهي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخ ، بإباحة ذلك .

21453 - وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين .

21454 - وأما قوله : فكلوا وتصدقوا ، وادخروا ، فكلام خرج بلفظ الأمر ، ومعناه الإباحة ، لأنه أمر ورد بعد نهي .

21455 - وهكذا شأن كل أمر يرد بعد حصر أنه إباحة ، لا إيجاب .

21456 - مثل قوله : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] .

21457 - فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ الجمعة : 10 ] .

21458 - وكان بعض أهل العلم يستحب أن يأكل الإنسان من ضحيته ثلثها ، ويصدق بثلثها ، ويدخر ثلثها ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : كلوا ، وتصدقوا ، وادخروا .

21459 - وكان ممن ذهب إلى هذا الاستحباب : الشافعي - رحمه الله .

[ ص: 174 ] 21460 - وكان غيره يستحب أن يأكل نصفا ويطعم نصفا ، لقول الله تعالى في الهدايا : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر الحج : 36 .

21461 - وكان مالك - رحمه الله - لا يجد في ذلك شيئا ، ويقول : يأكل ويتصدق .

21462 - والدليل على أن هذا استحباب لا إيجاب حديث ثوبان قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ، ثم قال : يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية ، قال : فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة .

21463 - وفي حديث ثوبان هذا ادخار لحم الضحية ، وأكله .

21464 - وفيه الضحية في السفر ، وقد ذكرناه بإسناده في " التمهيد " .

21465 - وأما قوله : ونهيتكم عن الانتباذ ، فانتبذوا ، وكل مسكر حرام ، فإنه أراد الانتباذ في الأوعية المنهي عنها ، وهي النقير ، والمزفت ، والدباء ، والحنتم ، [ ص: 175 ] والجر ، وهو كل شيء يصنع من طين ; لأن هذه الأوعية إذا تكرر فيها الانتباذ أسرعت إلى ما ينبذ فيه الشدة .

21466 - وقد تواترت الآثار بالنهي عن الانتباذ في هذه الأوعية عن النبي - عليه السلام - من طرق صحاح ، وإنما كان النبي - عليه السلام - وأصحابه ، وسائر السلف الصالح ينتبذون في أسقية الأدم خاصة ; لأنها لا تسرع الشدة إلى ما ينتبذ فيها .

21467 - وقد كان عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر لا يجوزان الانتباذ في شيء من الأوعية غير الأسقية ، وذلك أنهما رويا النهي عنها ، ولم يرويا النسخ - والله أعلم - فيهما على ما علما .

21468 - وإلى هذا ذهب سفيان الثوري ، فلم يجز الانتباذ في الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمزفت .

21469 - وكان الشافعي يكره الانتباذ في هذه الأوعية المذكورة في الأحاديث المأثورة .

21470 - وقال ابن القاسم : كره مالك الانتباذ في الدباء ، والمزفت ، ولم يكره غير ذلك .

[ ص: 176 ] 21471 - قال أبو عمر : أظن هؤلاء الأئمة إنما كرهوا الانتباذ في الأوعية المسماة في الأحاديث ; لأنهم علموا أن النهي عنها لعلة ما تولده من إسراع الشدة في الأنبذة مع علمهم أن كل مسكر حرام ، فخافوا مواقعة الحرام على الأمة ، وعلموا أن النسخ إنما هو لمن يحفظ ، فاحتاطوا ، وبنوا على أصل النهي ، ولم يقبلوا رخصة النسخ ، والله أعلم .

21472 - حدثني محمد ، قال : حدثني علي بن عمر ، قال : حدثني عمر ، قال : حدثني الحسن بن إسماعيل بن أحمد بن عتاب ، قال : حدثني الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان ، قال : حدثني هشام بن عمار ، قال حماد بن عبد الرحمن الطيالسي قال : حدثني حماد بن خوار الضبي ، عن عبد الله بن بريدة الأسلمي ، عن أبيه قال : خطبنا رسول الله تحت الشجرة تصيب أغصانها وجهه ، وقال : ألا إنا كنا نهيناكم عن ثلاث : عن زيارة القبور ، فزوروها ، فإنها عبرة ، ونهيناكم عن لحمان الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث ، فأصلحوها ، وكلوها ، ونهيناكم عن الأنبذة إلا في أسقية الأدم التي يؤكل عليها ، فانتبذوا فيما شئتم ، وكل مسكر حرام " .

[ ص: 177 ] 21473 - وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ، فقالوا : لا بأس بالانتباذ في جميع الأوعية ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النهي : كنت نهيتكم فانتبذوا فيما شئتم ، أو فيما بدا لكم .

21474 - وقد ذكرنا الآثار بالنسخ من طرق متواترة في " التمهيد " .

21475 - وأما قوله في الحديث : وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك على وجهين : 21476 - فقال بعضهم : كان النهي عن زيارة القبور عاما للرجال والنساء ، ثم ورد النسخ كذلك بالإباحة عاما أيضا ، فدخل في ذلك الرجال ، والنساء .

21477 - واحتجوا بأن عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن ، وكانت فاطمة تزور قبر حمزة .

21478 - وقد ذكرنا الآثار عنهما بذلك في " التمهيد " .

21479 - وقال آخرون : إنما ورد النسخ في زيارة القبور للنساء ، لا للرجال لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور ، ونحن على يقين من تحريم [ ص: 178 ] زيارة النساء للقبور بذلك ، ولسنا على يقين من الإباحة لهن ; لأنه ممكن أن تكون الزيارة أبيحت للرجال دونهن للقصد في ذلك باللعن إليهن .

21480 - وذكروا من الحجة على ما ذهبوا إليه في ذلك حديث شعبة ، عن محمد بن جحادة ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد ، والسرج .

21481 - قال أبو عمر : أبو صالح هذا هو باذام ، ويقال : باذان بالنون ، وهو مولى أم هانئ .

[ ص: 179 ] 21482 - وحديث أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله زوارات القبور .

21483 - وقد ذكرنا أسانيدها في " التمهيد " .

التالي السابق


الخدمات العلمية