الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1079 1036 - مالك عن زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة المصري ، عن عبد الله بن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " .

[ ص: 338 ] 1037 - مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أمه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت .


22218 - قال أبو عمر : أما حديث ابن وعلة ، فقد ذكرنا في التمهيد أن ممن روى عن ابن وعلة مع زيد بن أسلم : القعقاع بن حكيم ، وأبو الخير اليزني .

22219 - وذكرنا من رواه أيضا عن زيد بن أسلم ، كما رواه مالك ، وأتينا بالأحاديث بأسانيدها في " التمهيد " .

22220 - ومعلوم أن المقصود بقوله عليه السلام " أيما إهاب قد دبغ ، فقد طهر " وهو ما لم يكن طاهرا من الأهب كجلود الميتات ، وما لا تعمل فيه الذكاة من السباع عند من حرمها ; لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ ليتطهر .

22221 - ومحال أن يقال في الجلد الطاهر إذا دبغ فقد طهر .

22222 - وهكذا يكاد علمه أن يكون ضرورة .

22223 - وفي قوله - عليه السلام - : أيما إهاب دبغ ، فقد طهر نص ، ودليل .

[ ص: 339 ] 22224 - فالنص منه : طهارة الإهاب بالدباغ ، والدليل منه : أن إهاب كل ميتة إن لم يدبغ فليس بطاهر ، وإذا لم يكن طاهرا ، فهو نجس ، والنجس رجس محرم ، وإذا كان ذلك كان هذا الحديث معارضا لرواية ابن شهاب في الشاة الميتة ; إنما حرم أكلها ، وإنما حرم لحمها ، وكان مبينا للمراد منه ، وبطل بنصه قول من قال : إن الجلد من الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ ، وبطل بالدليل منه قول من قال : إن جلد الميتة - وإن لم يدبغ - يستمتع به وينتفع .

22225 - وهو قول ابن شهاب .

22226 - وروي عن الليث بن سعد مثله .

22227 - وذكره معمر : بإثر حديثه المسند المذكور .

22228 - قال معمر : وكان الزهري ينكر الدباغ ، ويقول : يستمتع به على كل حال .

22229 - وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : وما علمت أحدا قال ذلك قبل الزهري .

22230 - وروى الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب الحديث المذكور ثم قال : بإثره : فلذلك لا نرى بالسقاء فيها بأسا ، ولا ببيع جلدها ، وابتياعه ، وعمل الفراء منها .

22231 - قال أبو عمر : برواية معمر ، عن ابن شهاب ، ما ذكرنا من قوله [ ص: 340 ] دليل على صحة نقل من لم يذكر في حديث ابن شهاب الدباغ .

22232 - وقد ذكر الدباغ فيه : ابن عيينة ، والأوزاعي ، وعقيل الزبيدي ، وسليمان بن كثير ، إلا أنهم اضطرب عنهم في ذلك .

22233 - وذكر الدباغ في هذه القصة من حديث عطاء ، عن ابن عباس ثابت لم يضطرب فيه ناقلوه .

22234 - وروى ابن جريج ، وعمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة مطروحة من الصدقة ، فقال : " أفلا أخذوا إهابها " فدبغوه ، فانتفعوا به .

22235 - وأما قول الليث في هذه المسألة فمثل قول ابن شهاب ، رواه ابن وهب ، وعبد الله بن صالح عنه .

22236 - وقال الطحاوي : لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة ، قبل الدباغ إلا عن الليث .

22237 - قال أبو عمر : قد ذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب ، والليث في ذلك قال : من اشترى جلد ميتة ، فدبغه ، وقطعه نعالا ، فلا يبعها حتى يبين .

22238 - وهذه مسألة أغفل فيها ناقلها ، ولم يبن .

22239 - وتحصيل مذهبه المعروف أن جلد الميتة لا ينتفع في شيء من الأشياء [ ص: 341 ] قبل الدباغ ، فكيف البيع الذي لا يجزه في المشهور من مذهبه بعد الدباغ .

22240 - وفي المدونة مسألة تشبه ما ذكره ابن عبد الحكم ، قال : من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ ، فأتلفه ، فعليه قيمته .

22241 - وحكى ابن القاسم أن ذلك قول مالك .

22242 - وقال أبو الفرج : قال مالك : من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ ، فلا شيء عليه .

22242 م - قال إسماعيل بن إسحاق : لا شيء عليه ، إلا أن يكون لمجوسي .

22243 - قال أبو عمر : ليس في تقصير من قصر عن ذكر الدباغ في حديث ابن عباس حجة على ما ذكرناه ; لأن من أثبت شيئا هو حجة على من سكت عنه .

22244 - ومعلوم أن من حفظ شيئا حجة على من لم يحفظ .

22245 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من دباغ جلد الميتة آثار كثيرة منها : حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دباغ جلد الميتة ذكاته " .

22246 - وقد رواه عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن الأسود عن عائشة .

22247 - وقد جاء حديث ميمونة من غير رواية ابن عباس [ ص: 342 ] 22248 - روى ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، والليث بن سعد ، عن كثير بن فرقد ، أن عبد الله بن حذافة حدثه عن أمه العالية بنت سبيع ، أن ميمونة - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثتها أنه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجال من قريش ، وهم يجرون شاة لهم مثل الحمار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو اتخذتم إهابها فقالوا : إنها ميتة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يطهرها الماء والقرظ " .

22249 - وروى قتادة وغيره عن الحسن ، عن جون بن قتادة ، عن سلمة بن المحبق أن النبي - عليه السلام - في غزوة تبوك أتى أهل بيت ، فدعا بماء عند امرأة ، قالت : ما عندي ماء إلا قربة ميتة ، قال : أوليس قد دبغها ؟ قالت : بلى ، قال : " فإن ذكاتها دباغها " .

رواه شعبة وهشام ، عن قتادة بمعنى واحد .

22250 - وذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثني يزيد بن هارون ، عن سعيد عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد ، عن أخيه ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جلد الميتة أن دباغه أذهب خبثه ، ونجسه ، أو قال : رجسه .

[ ص: 343 ] 22251 - والآثار بهذا كثيرة ، فلا وجه لمن قصر عن ذكر الدباغ .

22252 - قال أبو عمر : والذي عليه أكثر أهل العلم من التابعين ، ومن بعدهم من أئمة الفتوى أن جلد الميتة دباغه طهور كامل له تجوز بذلك الصلاة عليه ، والوضوء ، والاستقاء ، والبيع ، وسائر وجوه الانتفاع .

22253 - وهو قول سفيان الثوري ، وأبي حنيفة ، والكوفيين ، وقول الأوزاعي في جماعة أهل الشام ، وقول الشافعي ، وأصحابه وابن المبارك ، وإسحاق .

22254 - وهو قول عبيد الله بن الحسن ، والبصريين ، وقول داود ، والطبري .

22255 - وهو قول جمهور أهل المدينة ، إلا أن مالكا كان يرخص في الانتفاع بها بعد الدباغ ، ولا يرى الصلاة فيها ، ويكره بيعها ، وشراءها .

22256 - وعلى ذلك أصحابه ، إلا ابن وهب ، فإنه يذهب إلى أن دباغ الإهاب طهور كامل له في الصلاة ، والوضوء ، والبيع ، وكل شيء .

22257 - وقد ذكر في موطئه عن ابن لهيعة ، وحيوة بن شريح بن [ ص: 344 ] خالد بن أبي عمران ، قال : سألت القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله عن جلود الميتة ، إذا دبغت : أأكل ما جعل فيها ؟ قال : نعم ويحل ثمنها إذا بينت مما كانت .

22258 - وقال : حدثنا محمد بن عمرو ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : الفرو من جلود الميتة يصلى فيه ؟ قال : نعم ، وما بأسه ، وقد دبغ ؟ .

22259 - وروى حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، قال : لا يختلف عندنا بالمدينة أن دباغ جلود الميتة طهورها .

22260 - وقال ابن وهب : سمعت الليث يقول : لا بأس بالصلاة في جلود الميتة إذا دبغت .

22261 - وإلى هذا ذهب ابن الحكم في طهارة جلود الميتة أنها طاهرة كاملة كالذكاة .

22262 - وفي المسألة قول رابع ، ذهب إليه أحمد بن حنبل ، وهو في الشذوذ قريب من الأول .

22263 - ذهب إلى تحريم الجلد ، وتحريم الانتفاع به قبل الدباغ ، وبعده بحديث شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عكيم ، قال : قرئ علينا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جهينة ، وأنا غلام ، أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب .

[ ص: 345 ] 22264 - وهذا الحديث قد خولف فيه شعبة : فروي عن الحكم ، عن رجال من جهينة ، لم يذكرهم .

22265 - وكذلك رواه القاسم بن مخيمرة ، عن مشيخة له ، عن عبد الله بن عكيم ، ولو كان ثابتا لاحتمل أن لا يكون مخالفا للأحاديث التي ذكر فيها الدباغ ، كأنه قال : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب قبل الدباغ .

22266 - فإذا احتمل ذلك ، لم يكن [ ذلك به ] مخالفا لخبر ابن عباس [ ص: 346 ] وما كان مثله في الدباغ .

22267 - فإن قيل : إن في حديث عبد الله بن عكيم : أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بشهر ، فقد يحتمل أن يكون حديث ابن عباس قبل موته بجمعة أو ما شاء الله .

22268 - وهذا لا حجة فيه .

22269 - وقد تقصينا حجج الفرق في التمهيد .

22270 - وحجة مالك فيما ذهب إليه من الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ في الأشياء اليابسة كالجلوس عليها ، والغربلة ، والامتهان ، وشبهه ، وكراهيته لبيعها ، والصلاة عليها حديثه بذلك عن يزيد بن قسيط ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت .

22271 - وقد أجاز مالك الصلاة عليها في بعض الروايات عنه ، قال : أما أنا فأستقي به في خاصة نفسي وأكرهه لغيري .

[ ص: 347 ] 22272 - وهذا كله استحباب ، لا يقوم عليه دليل .

22273 - والدليل بمشهور الحديث عن ابن عباس أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " أيما إهاب دبغ ، فقد طهر ، وعلى أن البيع عندهم من باب الانتفاع " .

22274 - وأما قوله : أيما إهاب دبغ ، فقد طهر ، فإنما يقتضي جميع الأهب ، وهي الجلود كلها ; لأن اللفظ جاء في ذلك مجيء عموم ، ولم يخص شيئا مثلها .

22275 - وهذا أيضا موضع اختلاف بين العلماء .

22276 - فأما مالك ، فقد ذكرنا مذهبه في أنها طهارة غير كاملة على ما وصفنا عنه ، وعليه أصحابه إلا ابن وهب ، فإنها عنده طهارة كاملة .

22277 - وهو قول جمهور العلماء وأئمة الفتوى الذين ذكرناهم إلا جلد الخنزير ، فإنه لا يدخل في عموم قوله : أيما إهاب دبغ ، فقد طهر ; لأنه محرم العين حيا ، وميتا ، وجلده مثل لحمه ، فلما لم تعمل في لحمه ، ولا في جلده الذكاة لم يعمل الدباغ في إهابه شيئا .

22278 - وروى معن بن عيسى ، عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ ؟ فقال : لا ينتفع به .

22279 - رواه ابن وضاح ، عن موسى بن معاوية ، عن معن بن عيسى .

22280 - قال ابن وضاح : قال لي سحنون : لا بأس به إذا دبغ .

[ ص: 348 ] 22281 - وكذلك قال داود بن علي ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم .

22282 - وحجتهم عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ ، فقد طهر .

22283 - وأنكر جمهور العلماء هذا القول .

22284 - وقال أهل اللغة منهم : النضر بن شميل أن الإهاب جلد البقر ، والغنم ، والإبل ، وما عداه ، فإنما يقال له جلد لا إهاب .

22285 - حكى ذلك إسحاق بن منصور الكوسج ، عن النضر بن شميل أنه قال في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أيما إهاب دبغ ، فقد طهر " : إنما يقال : الإهاب للإبل والبقر ، والغنم ، وأما السباع ، فجلود .

22286 - وقال الكوسج : وقال لي إسحاق بن راهويه كما قال النضر بن شميل .

22287 - وقال أحمد : لا أعرف ما قال النضر .

22288 - قال أبو عمر : لا يمتنع أن يكون الإهاب اسما جامعا للجلود كلها ما يؤكل لحمه ، وما لا يؤكل ; لأن ابن عباس روى حديث شاة ميمونة ، ثم روى عموم الخبر في كل إهاب .

[ ص: 349 ] 22289 - وقد تقدم خلاف الناس في جلود السباع ، وهل تعمل فيها الذكاة في الباب قبل هذا ؟ .

22290 - وأما الدباغ ، فعامل في كل إهاب ، وجلد ، ومسك .

22291 - إلا أن جمهور العلماء الذين لا يجوز عليهم تحريف التأويل ، ويلزم من شذ عنهم الرجوع إليهم ، خصوا جلد الخنزير ، وأخرجوه من الجملة ، فلم يجيزوا فيه الدباغ .

22292 - هذا على أن أكثرهم ينكر أن يكون الخنزير جلد يتوصل إليه بالانتفاع ، فاختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة :

22293 - فقال مالك ، وأصحابه : كل شيء دبغ به الجلد من ملح ، أو قرظ ، أو شب ، أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به .

22294 - وكذلك قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، قالوا : كل شيء دبغ به جلد الميتة ، فأزال شعره ، ورائحته ، وذهب بدسمه ، ونشفه ، فقد طهره ، وهو بذلك الدباغ طاهر .

22295 - وهو قول داود .

22296 - وذكر ابن وهب ، قال : قال يحيى بن سعيد الأنصاري : ما دبغت به الجلود من دقيق ، أو قرظ أو ملح ، فهو لها طهور .

[ ص: 350 ] 22297 - وللشافعي في ذلك قولان : ( أحدهما ) : هذا .

( والآخر ) : أنه لا يطهره إلا الشب ، أو القرظ ; لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم .

وعليه خرج الخطاب ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية