الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
122 [ ص: 139 ] بسم الله الرحمن الرحيم 23 - باب التيمم

[ ص: 140 ] 100 - ساقه مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين ، أنها قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء ، أو بذات الجيش ، انقطع عقد لي . فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه . وأقام الناس معه . وليسوا على ماء . وليس معهم ماء . فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق ، فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس وليسوا على ماء . وليس معهم ماء . قالت عائشة : فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي ، قد نام . فقال : حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء . وليس معهم ماء . وقالت عائشة : فعاتبني أبو بكر ، فقال ما شاء الله أن يقول . وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي ، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء . فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم . فتيمموا . فقال أسيد بن حضير : ما هي بأول [ ص: 141 ] بركتكم يا آل أبي بكر . قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه . فوجدنا العقد تحته .


3116 - ذكر فيه عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة حديثها في خروجها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره إذ انقطع العقد لها ، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملتمسا له مع الناس ، وهم على غير ماء ، ولا ماء معهم . وحضرت الصلاة - وهم على تلك الحالة - فنزلت آية التيمم .

3117 - قال أبو عمر : هذا الحديث عندي أصح حديث روي في التيمم ، والله أعلم .

3118 - والسفر المذكور فيه كان في غزوة المريسيع إلى بني المصطلق بن خزاعة ، في سنة ست من الهجرة . وقيل : سنة خمس .

[ ص: 142 ] 3119 - في هذا الحديث من الفقه خروج النساء في الأسفار مع أزواجهن جهادا كان السفر أو غيره ؛ لأنه إذا جاز جاز خروجهن مع ذوي المحارم والأزواج إلى الجهاد - مع الخوف عليهن وعلى من معهن من الرجال في الإيغال في أرض العدو - فأحرى أن يخرجن إلى غير الجهاد : من الحج ، والعمرة ، وسائر الأسفار المباحة .

3120 - وخروجهن إلى الجهاد مع ذوي المحارم والأزواج إنما يصح - والله أعلم - في العسكر الكبير الذي الأغلب منه الأمن عليهن .

3121 - وقد ذكرت في " التمهيد " حديث أنس أن النبي - عليه السلام - كان [ ص: 143 ] يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ، ويداوين الجرحى ، وحديث الربيع بنت معوذ بن عفراء : أنه قيل لها : هل كنتن تخرجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغزو ؟ قالت : نعم . كنا نخرج معه نسقي الجرحى ونداويهم .

3122 - وهذا كله مقيد بقوله عليه السلام : لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها .

[ ص: 144 ] 3123 - ومقيد أيضا بحديث عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يسافر أقرع بين نسائه . فأيهن خرج سهمها خرج بها .

3124 - وسيأتي القول في هذا المعنى في موضعه ، إن شاء الله .

3125 - وقد ذكرنا في " التمهيد " أيضا اختلاف ألفاظ الرواة لهذا الحديث عن [ ص: 145 ] عائشة في العقد : لمن كان ؟ في الموضع الذي سقط فيه ، ومن سماه عقدا ، ومن سماه قلادة وكل ذلك من نقل الثقات ، ولا يقدح شيء من ذلك في المعنى المقصود إليه من الحديث .

3126 - وليس في الموطإ حديث مرفوع في التيمم غير هذا ، وهو أصل التيمم ، إلا أنه ليس فيه رتبة التيمم وكيفيته .

[ ص: 146 ] 3127 - وقد نقلت آثار عن النبي - عليه السلام - مختلفة في كيفية التيمم : هل هو ضربة أو ضربتان ؟ وهل يبلغ به المرفقان أم لا وهل الرواية في التيمم إلى الآباط عن عمار منسوخة أم لا ؟ .

3128 - وكل ذلك مبسوط في التمهيد . ويأتي فيه ها هنا ما يغني ، ويكفي إن شاء الله .

3129 - وأجمع العلماء بالأمصار بالمشرق والمغرب - فيما علمت - أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مسلم مريض ، أو مسافر . وسواء كان جنبا أو على غير وضوء ، ولا يختلفون في ذلك .

[ ص: 147 ] 3130 - وكان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يقولان : إن الجنب لا يطهره إلا الماء ، وأنه لا يستبيح بالتيمم الصلاة أبدا بقوله تعالى " وإن كنتم جنبا فاطهروا " ( سورة المائدة : 6 ) وقوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا " ( سورة النساء : 43 ) وخفيت عليهما السنة في ذلك ، ولم يصل إليهما من ذلك إلا قول عمار . وكان عمر حاضرا ذلك معه فأنسي قصد عمار ، وارتاب في ذلك بحضوره [ ص: 148 ] معه ، ونسيانه لذلك ( فلم ) يقنع بقوله . فذهب هو وابن مسعود إلى أن الجنب لم يدخل في المراد بقوله : " وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا " وكانا يذهبان إلى أن الملامسة ما دون الجماع .

3131 - وقد ذكرنا اختلاف العلماء في معنى الملامسة فيما مضى ، والحمد لله .

3132 - وروى أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : لا يتيمم الجنب ، وإن لم يجد الماء شهرا .

3133 - ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار : من قال : إن الملامسة الجماع ، ومن قال : إنها ما دون الجماع بقول عمر ، وابن مسعود في ذلك ولا ذهب إليه ، لما روي عن النبي - عليه السلام - من حديث عمار ، وحديث عمران بن حصين ، وحديث أبي [ ص: 149 ] ذر : أنه - عليه السلام - أمر الجنب بالتيمم إذا لم يجد الماء ولو غاب عن الماء شهرا .

3134 - وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد .

3135 - وقد غلط بعض الناس في هذا المعنى عن ابن مسعود ، فزعم أنه كان يرى الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لم يغتسل ، ولا وضوء عليه حتى يحدث .

3136 - وهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين ، ولا روي عن أحد من السلف ولا الخلف - فيما علمت - إلا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ولا يعرف عنه . والمحفوظ عن ابن مسعود ما وصفنا عنه .

[ ص: 150 ] 3137 - وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر وغيره " التراب كافيك ما لم تجد الماء ، ولو أقمت عشر سنين لا تجده ، فإذا وجدت الماء فاغتسل " وفي بعض الروايات " فأمسه بشرتك " - دليل واضح على أن الجنب إذا وجد الماء لزمه استعماله ، وأن تيممه ليس بطهارة كاملة ، وإنما هو استباحة للصلاة ، ثم هو على حاله جنب عند وجود الماء .

3138 - وقد أمليت في هذه المسألة ما فيه كفاية في باب أفردته لها والحمد لله .

3139 - واختلف الفقهاء في الذي يدخل عليه وقت الصلاة ويخشى خروجه ، وهو لا يجد الماء ولا يستطيع الوصول إليه ، ولا إلى صعيد يتيمم به .

3140 - فقال ابن القاسم في المحبوس إذا لم يجد ماء ولم يقدر على الصعيد - صلى كما هو ، وأعاد إذا قدر على الماء أو على الصعيد .

3141 - وقال أشهب في المتهدم عليهم ، والمحبوس ، والمربوط ، ومن صلب في خشبة ولم يمت وحان وقت الصلاة عليه ، إنه لا صلاة على واحد من هؤلاء حتى يقدروا على الماء أو على الصعيد . فإن قدروا على ذلك توضؤوا أو تيمموا وصلوا .

3142 - وقال ابن القاسم في هؤلاء ، وفي كل من معه عقله ، إنهم يصلون على حسب ما يقدرون ، ثم يعيدون إذا قدروا على الطهارة بالماء أو بالصعيد عند عدم الماء .

3143 - وروى معن بن عيسى عن مالك فيمن كتفه الوالي ، وحبسه عن الصلاة [ ص: 151 ] حتى خرج وقتها : إنه لا إعادة عليه .

3144 - وإلى هذه الرواية - والله أعلم - ذهب ابن خواز منداذ ؛ لأنه قال في الصحيح من مذهب مالك : أن كل من لم يقدر على الماء ولا الصعيد حتى خرج الوقت أنه لا يصلي ، ولا إعادة عليه .

3145 - قال : ورواه المدنيون عن مالك : وهو الصحيح من مذهبه .

3146 - قال أبو عمر : لا أدري كيف أقدم على أن جعل هذا الصحيح من مذهب مالك مع خلافه جمهور السلف ، وعامة الفقهاء ، وجماعة المالكيين ؟ وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في هذا في قوله : وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فنام رسول الله حتى أصبح . وهذا لا حجة فيه ، لأنه لم يذكر أنهم لم يصلوا ، بل فيه : نزلت آية التيمم .

3147 - وفي حديث عمر أنهم تيمموا يومئذ إلى المناكب في حين نزول الآية .

3148 - وقد روى هشام بن عروة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ، إلا أنه لم يذكر إعادة .

3149 - ويحتمل أن تكون الإعادة مأخوذة من حديث عمار ، كأنهم إذ نزلت آية التيمم توضؤوا ، وأعادوا ما كانوا قد صلوا بغير وضوء .

3150 - وعلى هذا ترتبت الآثار ، وعلى هذين القولين فقهاء الأمصار .

3151 - وأما قول ابن خواز منداذ في سقوط الصلاة عمن معه عقله ؛ لعدم الطهارة - فقول ضعيف مهجور ، شاذ ، مرغوب عنه .

3152 - وقال ابن القاسم : كيف تسقط الصلاة عمن معه عقله لعدم [ ص: 152 ] الطهارة لم يغم عليه ولم يجن ؟ ! وعلى هذا سائر العلماء فيمن لم يصل إلى الصعيد ولا الماء ، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى .

3153 - وذكر ابن حبيب ، قال : سألت مطرفا ، وابن الماجشون ، وأصبغ بن الفرج عن الخائف تحضره الصلاة وهو على دابته ، على غير وضوء ، ولا يجد إلى النزول للوضوء والتيمم سبيلا . فقال بعضهم : يصلي كما هو على دابته إيماء ، فإذا أمن توضأ إن وجد الماء ، أو تيمم إن لم يجد الماء ، وأعاد الصلاة في الوقت ، وبعد الوقت .

3154 - وقال لي أصبغ بن الفرج : لا يصلي وإن خرج الوقت ، حتى يجد السبيل إلى الطهور بالماء ، أو الصعيد عند عدم الماء .

3155 - قال : ولا يجوز لأحد أن يصلي بغير طهور .

3156 - قال عبد الملك بن حبيب : وهذا أحب إلي قال : وكذلك الأسير المغلول ، لا يجد السبيل إلى الوضوء والمريض المثبت الذي لا يجد من يناوله الماء ، ولا يستطيع التيمم ، هما مثل الذي وصفنا من الخائف .

3157 - وكذلك قال أصبغ بن الفرج في هؤلاء الثلاثة .

3158 - قال : وهو أحسن ذلك عندي ، وأقواه .

3159 - وأما الشافعي فعنه في هذا روايتان : إحداهما لا يصلي حتى يجد طهارة ، والأخرى يصلي كما هو ويعيد الصلاة ، وهو المشهور عنه .

[ ص: 153 ] 3160 - قال المزني : وإذا كان محبوسا لا يقدر على طهارة بماء أو تراب نظيف صلى ، وأعاد إذا قدر .

3161 - وقال أبو حنيفة في المحبوس في المصر : إذا لم يجد ماء ولا ترابا نظيفا لم يصل ، فإذا وجد ذلك صلى .

3162 - وقال أبو يوسف ، ومحمد ، والثوري ، والشافعي والطبري : يصلي ويعيد ، كقول ابن القاسم .

3163 - وقال أبو ثور : القياس ألا يصلي من لا يجد الماء ، ولا قدر عليه ولا على الصعيد وإن خرج الوقت ، فإذا قدر على ذلك صلى بالطهارة تلك الصلاة ، ثم رجع ، فقال بقول الشافعي ، ومن تابعه في هذا الباب .

3164 - وقد قال أبو ثور أيضا : إن القياس فيمن لم يقدر على الطهارة أن يصلي كما هو ، ولا يعيد ، كمن لا يقدر على الثوب ، وصلى عريانا الصلاة لازمة له ، يصلي على ما يقدر ، ويؤدي ما عليه بقدر طاقته .

3165 - وعند أبي يوسف ، وأبي حنيفة ، ومحمد ، والشافعي : إن وجد المحبوس في المصر ترابا نظيفا صلى في قولهم ، وأعاد .

3166 - وقال زفر : لا يتيمم ، ولا يصلي ، وإن وجد ترابا نظيفا على أصله ؛ لأنه لا يتيمم أحد في الحضر .

3167 - وقال ابن القاسم : لو تيمم من لا يجد الماء في المصر على التراب النظيف ، أو على وجه الأرض لم تكن عليه إعادة إذا وجد الماء بعد الوقت .

[ ص: 154 ] 3168 - قال أبو عمر : ها هنا مسألة أخرى في تيمم الذي يخشى فوت الوقت وهو في الحضر ، نذكرها بعد إن شاء الله .

3169 - قال أبو عمر : أما الذين ذهبوا إلى ألا يصلي حتى يجد الطهارة ، فحجتهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " وليس فرض الوقت بأوكد من هذا ، كما أنه لا يقبلها قبل وقتها .

3170 - وأما الذين ذهبوا إلى أن يصلي كما هو ، ويعيد فاحتاطوا للصلاة في الوقت على حسب الاستطاعة ، لاحتمال قوله : " بغير طهور " لمن قدر عليه . ولم يكونوا على يقين من هذا التأويل ، فرأوا الإعادة واجبة مع وجود الطهارة .

3171 - قال أبو عمر : في حديث مالك هذا ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة قولها : " فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء ، ولم يكن يومئذ طهارة غير الماء ، وحينئذ نزلت آية التيمم " دليل على أن من عدم الماء لم يصل حتى يمكنه ، والله أعلم .

3172 - وقد يحتمل قولها " حتى أصبح " قارب الصباح ، أو طلع الفجر ، ولم تطلع الشمس حتى نزلت آية التيمم . والله أعلم .

3173 - وقد ذكرنا في " التمهيد " في هذا الموضع الأحاديث عن النبي - عليه السلام - أنه قال " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول " .

[ ص: 155 ] 3174 - وقوله عليه السلام : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " بالأسانيد الصحاح ، والحمد لله .

3175 - وقوله في حديث مالك : وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، دليل واضح على أن الوضوء بالماء قد كان لازما لهم قبل نزول آية التيمم . وهي آية الوضوء ، وأنهم لم يكونوا يصلون إلا بوضوء قبل نزول الآية .

3176 - ألا ترى قوله : " فأنزل الله آية التيمم " وهي آية الوضوء المذكورة في تفسير المائدة ، أو الآية التي في سورة النساء ، ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين ، وهما مدنيتان .

3177 - وليست الآية بالكلمة أو الكلمتين ، وإنما هي : الكلام المجتمع الدال على الإعجاز ، الجامع لمعنى يستفاد ، القائم بنفسه .

3178 - ومعلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء ، فكما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افترضت عليه الصلاة بمكة والغسل من الجنابة ، وأنه لم يصل قط بمكة إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة ، ومثل وضوئنا اليوم .

3179 - وهذا ما لا يجهله عالم ولا يدفعه إلا معاند .

[ ص: 156 ] 3180 - وفيما ذكرنا دليل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل ، ولها نظائر ليس هذا موضع ذكرها .

3181 - وفي قوله في حديث مالك : " فنزلت آية التيمم " ، ولم يقل : فنزلت آية الوضوء ما يدلك أن الذي طرأ عليهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم ، لا حكم الوضوء بالماء ، والله أعلم .

3182 - ومن فضل الله ونعمته على عباده أن نص على حكم الوضوء وهيئته بالماء ، ثم أخبر بحكم التيمم عند عدم الماء . فقال أسيد بن الحضير " ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر " .

3183 - وفي قوله : " وليس معهم ماء " دليل على أنه غير واجب حمل الماء للوضوء ، وأنه جائز سلوك كل طريق مباح سلوكها ، وإن عدم الماء في بعضها .

3184 - وأما التيمم فمعناه في اللغة : القصد مجملا ، ومعناه في الشريعة : القصد إلى الصعيد خاصة للطهارة للصلاة عند عدم الماء ، فيضرب عليه بباطن كفيه ، ثم يمسح بهما وجهه ويديه .

3185 - وقد ذكرنا شواهد الشعر واللغة على لفظ التيمم في التمهيد .

[ ص: 157 ] 3186 - وأما الصعيد فقيل : وجه الأرض ، وقيل : بل التراب خاصة . والطيب طاهر ، لا خلاف في ذلك .

3187 - وأما اختلاف العلماء في الصعيد فقال مالك وأصحابه : الصعيد : وجه الأرض . ويجوز التيمم عندهم على الحصباء ، والجبل ، والرمل ، والتراب ، وكل ما كان وجه الأرض .

3188 - وقال أبو حنيفة ، وزفر : يجوز أن يتيمم بالنورة ، والحجر ، والزرنيخ ، [ ص: 158 ] والجص ، والطين ، والرخام ، وكل ما كان من الأرض .

3189 - وقال الأوزاعي : يجوز التيمم على الرمل .

3190 - وقال الثوري ، وأحمد بن حنبل : يجوز التيمم بغبار الثوب واللبد ، ولا يجوز عند مالك .

3191 - وقال ابن خويز منداذ : يجوز التيمم عندنا على الحشيش إذا كان ذلك وجه الأرض .

3192 - واختلفت الرواية عن مالك في التيمم على الثلج فأجازه مرة ، وكرهه أخرى ، ومنع منه .

3193 - ومن الحجة لمذهب مالك في هذا الباب قوله تعالى " صعيدا زلقا " ( الكهف : 40 ) و " صعيدا جرزا " [ سورة الكهف : 8 ] .

3194 - والجرز : الأرض الغليظة التي لا تنبت شيئا .

3195 - وقوله عليه السلام : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " .

3196 - فكل موضع جازت الصلاة فيه من الأرض جائز التيمم به .

3197 - وقال - عليه السلام - : " يحشر الناس يوم القيامة على صعيد واحد " أي : [ ص: 159 ] أرض واحدة .

3198 - وقال الشافعي ، وأبو يوسف : الصعيد : التراب ، ولا يجزئ عندهم التيمم بغير التراب .

3199 - وقال الشافعي : لا يقع الصعيد إلا على تراب : غبار ، أو نحوه : فأما الصخرة الغليظة ، والرقيقة ، والكثيب الغليظ - فلا يقع عليه اسم صعيد .

3200 - وقال أبو ثور : لا تيمم إلا على تراب ، أو رمل .

3201 - قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب جائز ، واختلفوا فيما عداه من الأرض .

3202 - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " جعلت لي الأرض مسجدا ، وجعلت تربتها [ ص: 160 ] لي طهورا " .

3203 - وروى هذا جماعة من حفاظ العلماء ، عن الصحابة ، عن النبي - عليه السلام - وهو يغضي على رواية من روى : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ويفسرها ، والله أعلم .

3204 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فضلنا على الأنبياء بثلاث : جعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا " . وذكر تمام الحديث .

3205 - قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، عن زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد ابن الحنفية ، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي التراب طهورا ، وجعلت أمتي خير الأمم " .

[ ص: 161 ] 3206 - والآثار بهذا كثيرة ، وهي تفسر المجمل ، والله أعلم .

3207 - وقال ابن عباس : أطيب الصعيد : أرض الحرث .

3208 - وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، قال : سئل ابن عباس : أي الصعيد أفضل ؟ فقال : الحرث . وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث .

3209 - وجماعة الفقهاء على إجازة التيمم بالسباخ ، إلا إسحاق ابن راهويه ، فإنه قال : لا تيمم بتراب السبخة .

3210 - وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين ، قال : يأخذ من الطين ، فيطلي به بعض جسده ، فإذا جف تيمم به .

3211 - واختلف الفقهاء في كيفية التيمم .

[ ص: 162 ] 3212 - فقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، وابن أبي سلمة ، والليث : ضربتان : ضربة للوجه يمسح بها وجهه وضربة لليدين ، يمسحهما إلى المرفقين ، يمسح اليمنى باليسرى ، واليسرى باليمنى . إلا أن بلوغ المرفقين عند مالك ليس بفرض . وإنما الفرض عنده إلى الكوعين ، والاختيار عنده إلى المرفقين .

3213 - وأما سائر من ذكرنا معه من الفقهاء فإنهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا .

3214 - وممن روي عنه التيمم إلى المرفقين : عبد الله بن عمر ، والشعبي ، والحسن [ ص: 163 ] البصري ، وسالم بن عبد الله بن عمر .

3215 - وقال الأوزاعي : التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى الكوعين ، وهما الرسغان .

3216 - وروي ذلك عن علي بن أبي طالب .

3217 - وقد روي عن الأوزاعي - وهو أشهر عنه - أن التيمم ضربة واحدة ، يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين . وهو قول عطاء ، والشعبي في رواية .

3218 - وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه ، وداود بن علي ، والطبري .

3219 - وهذا أثبت ما يروى في حديث عمار .

3220 - ورواه أبو وائل شقيق بن سلمة ، عن أبي موسى ، عن عمار ، فقال فيه : ضربة واحدة لوجهه وكفيه ، ولم يختلف في حديث أبي وائل هذا .

3221 - ورواه سفيان الثوري ، وأبو معاوية ، وجماعة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، ولم يختلفوا فيه ، وسائر أسانيد حديث عمار مختلف فيها .

3222 - وقال مالك : إن مسح وجهه ويديه بضربة واحدة أجزأه ، وإن مسح يديه إلى الكوعين أجزأه ، وأحب إلي أن يعيد في الوقت . والاختيار عند مالك ضربتان ، وبلوغ المرفقين .

3223 - وحجة من رأى التيمم إلى الكوعين - ما ثبت عن النبي - عليه السلام - من حديث عمار وغيره : أنه قال : في التيمم ضربة للوجه والكفين .

[ ص: 164 ] 3224 - وفي بعض الآثار عن عمارة : ضربة للوجه وضربة للكفين .

3225 - وحديثه هذا غير حديثه عند نزول آية التيمم ، وقد بينا ذلك في التمهيد .

3226 - قال الله تعالى " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " [ سورة النساء : 43 وسورة المائدة : 6 ] ، ولم يقل إلى المرفقين ، كما قال في الوضوء . وقال تعالى : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " [ سورة المائدة : 38 ] . وأجمعوا أن القطع إلى الكوعين .

3227 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والليث بن سعد ، والشافعي : لا تجزيه إلا ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين . وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق القاضي .

3228 - وقد رويت بذلك آثار عن النبي - عليه السلام - من حديث عمار أيضا ، وغيره . وقد ذكرنا ذلك في " التمهيد " .

3229 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان بن يزيد ، قال : سئل قتادة عن التيمم في السفر ، فقال : كان ابن عمر يقول : إلى المرفقين ، وكان الحسن يقول : إلى المرفقين ، وكان إبراهيم يقول : إلى المرفقين .

[ ص: 165 ] 3230 - قال : وحدثني محدث ، عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عمار بن ياسر عن النبي - عليه السلام - قال : إلى المرفقين .

3231 - قال أبو عمر : أحاديث عمار في التيمم كثيرة الاضطراب ، وإن كان رواتها ثقات .

3232 - ولما اختلفت الآثار في كيفية التيمم ، وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر القرآن ، وهو يدل على ضربتين : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، قياسا على الوضوء ، واتباعا لفعل عمر ، رحمه الله .

3233 - ولما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين - فكذلك يجب أن تكون الضربة في التيمم للوجه غير الضربة لليدين ، قياسا ونظرا - والله أعلم - إلا أن يصح عن النبي - عليه السلام - خلاف ذلك ، فيسلم له .

3234 - وقال ابن أبي ليلى ، والحسن بن حي : التيمم ضربتان ، يمسح بكل ضربة منهما وجهه ، وذراعيه ، ومرفقيه .

3235 - وما أعلم أحدا قال ذلك غيرهما ، والله أعلم .

3236 - وقال ابن شهاب الزهري : يبلغ بالتيمم الآباط ، ولم يقل ذلك غيره - فيما علمت - والله أعلم ، إلا ما في حديث عمار حين نزول آية التيمم ، وهو حديث رواه ابن شهاب من رواية مالك وغيره ، عنه ، عن عبيد الله بن عتبة ، عن أبيه ، عن عمار بن ياسر .

[ ص: 166 ] 3237 - ومن أصحاب ابن شهاب من يرويه عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، فذكر نحو حديث عائشة : أنها حبست الناس وليس معهم ماء ، فأنزل الله على رسوله رخصة التيمم بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسحوا بأيديهم الأرض ، ورفعوها ، ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم ، وأيديهم إلى المناكب ، من بطون أيديهم إلى الآباط .

3238 - وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في " التمهيد " واختلافهم في إسناده وألفاظه ، إلا أنهم لم يختلفوا عن ابن شهاب في هذا الحديث أن التيمم إلى المناكب .

3239 - وهو حجة لابن شهاب فيما ذهب من ذلك إليه ، مع أن اللغة تقضي أن اليدين من المناكب ، إلا أن الحديث بذلك ليس فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بذلك .

3240 - والآثار عن النبي - عليه السلام - أنه أمر بالتيمم إلى المرفقين ، وإلى الكوعين كثيرة .

3241 - وقد يحتمل أن يكون من تيمم عند نزول الآية إلى المناكب أخذ بظاهر الكلام وما تقتضيه اللغة من عموم لفظ الأيدي ، ثم أحكمت الأمور بعد بفعل النبي - عليه السلام - وأمره بالتيمم إلى المرفقين .

3242 - وروي عنه إلى الكوعين ، كما روي ضربة واحدة ، وضربتان . وكل ذلك صحيح عنه ، وصار من ذلك الفقهاء كل إلى ما رواه ، وما أداه إليه اجتهاده ونظره .

[ ص: 167 ] 3243 - وأجمع العلماء على أن الطهارة بالتيمم لا ترفع الجنابة ولا الحدث ، إذا وجد الماء ، إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن رواه ابن جريج ، وعبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه .

3244 - ورواه ابن أبي ذئب ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عنه أنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء : إنه على طهارة ، ولا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث .

3245 - وأما سائر العلماء الذين هم الحجة على من خالف جميعهم فقالوا في الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء : إنه يلزمه الغسل لما يستقبل .

3246 - حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن رجل من بني عامر أنه سمع أبا ذر يقول : كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي ، فتصيبني الجنابة ، فأصلي بغير طهور ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أبا ذر : إن الصعيد طيب طهور ، وإن لم تجد الماء عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك " .

3247 - ورواه سفيان الثوري وغيره عن خالد الحذاء عن أبي قلابة ، عن عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر أنه سمعه يقول : قال لي رسول الله : " إن الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجده فليمسسه بشرته " .

3248 - وقد روي عن أبي سلمة فيمن تيمم وصلى ، ثم يجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ، ويعيد الصلاة .

[ ص: 168 ] 3249 - وهذا تناقض ، وقلة روية . ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة .

3250 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا مؤمل بن إهاب ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : كان أبو سلمة يباري ابن عباس ، فحرم بذلك علما كثيرا .

3251 - وأجمع الجمهور من الفقهاء أن من طلب الماء فلم يجده ، وتيمم وصلى ، ثم وجد الماء في الوقت - وقد كان اجتهد في الطلب ، فلم يجد الماء ولا نسيه في رحله - أن صلاته ماضية ، إلا أنهم منهم من يستحب له أن يعيد صلاته بعد وضوئه ، أو بعد غسله ما دام في الوقت .

3252 - وأجمع العلماء أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده ، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن تيممه باطل ، لا يجزيه أن يصلي به ، وأنه قد عاد بحاله قبل التيمم .

3253 - واختلفوا إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة .

[ ص: 169 ] 3254 - فقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما : إلا المزني - وبه قال داود بن علي ، والطبري : يتمادى في صلاته ، وتجزيه ، فإذا فرغ توضأ للصلاة الأخرى بذلك الماء ؛ لأنه إذا وجد الماء ولم يكن في الصلاة وجب عليه الوضوء به للصلاة ، فإذا كان في الصلاة لم يقطعها لرؤيته الماء وهو فيها .

3255 - قالوا : لأنه لم تثبت في ذلك سنة توجب عليه قطع صلاته بعد دخوله فيها ، ولا إجماع يجب التسليم له .

3256 - قالوا : وليس قول من قال : إن رؤية الماء حدث من الأحداث بشيء ؛ لأن ذلك لو كان كذلك لكان الجنب إذا تيمم ، ثم وجد الماء يعود كالمحدث ، لا يلزمه إلا الوضوء ، وكان الذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة بالتيمم - عند الكوفيين - يقطعها ، [ ص: 170 ] ثم يتوضأ ، ويبني كالمحدث عندهم ، وهم لا يقولون بذلك ولا غيرهم . فصح أن رؤية الماء ليست حدثا ، ولا كالحدث .

3257 - ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ، ثم وجد الرقبة - أنه لا يلغي صومه ، ولا يعود إلى الرقبة . فكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء .

3258 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي ، وجماعة أهل العراق ، من أهل الرأي والحديث ، منهم أحمد بن حنبل ، وإليه ذهب المزني صاحب الشافعي ، وبه قال ابن علية : من طرأ عليه الماء - وهو في الصلاة أو وجده ، أو علمه في رحله ، وهو في الصلاة - قطع وخرج إلى استعماله في الوضوء أو الغسل ، ثم استقبل صلاته ، ولم يجز له أن يتمادى في صلاته متيمما ، وقد وجد الماء .

3259 - وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الدخول في الصلاة ، وصار المتيمم في حكم من ليس على طهارة لوجود الماء قبل دخوله في الصلاة ، فكذلك إذا دخل في الصلاة ؛ لأنه لما لم يجز له أن يبتدئ صلاته بالتيمم مع وجود الماء فكذلك لا يجب له التمادي فيها ولا عمل شيء منها بالتيمم ، وهو واجد للماء ، وإذا بطل بعض الصلاة بطل جميعها .

3260 - واحتجوا بالإجماع في المعتدة بالشهور ، ولا يبقى عليها إلا أقلها ، ثم تحيض - أنها تستقبل عدتها بالحيض .

[ ص: 171 ] 3261 - والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة ولم يبق عليه منها إلا أقلها - كذلك .

3262 - وللفريقين ضروب من الاحتجاج والإدخال والمعارضة ، تركت ذلك ؛ لأن الذي ذكرت كاف . وبالله التوفيق .

3263 - وفي هذا الحديث : التيمم في السفر ، وهو أمر مجمع عليه .

3264 - واختلف العلماء في التيمم في الحضر عند عدم الماء .

3265 - فذهب مالك وأصحابه - على اضطراب منهم في ذلك - إلى أن التيمم في السفر والحضر سواء إذا عدم الماء ، أو تعذر استعماله لمرض ، أو خوف شديد ، أو خوف خروج الوقت .

3266 - وهذا قول أبي حنيفة ، ومحمد بن الحسن .

3267 - وحجتهم أن ذكر الله تعالى - المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب ممن لا يجد الماء .

3268 - وأما الحاضرون فالأغلب عليهم وجود الماء فلذلك لم ينص عليهم . فإذا لم يجد الحاضر الماء ، أو منعه منه مانع لا يقدر على دفعه وجب عليه التيمم للصلاة في وقتها ؛ لأن التيمم إنما ورد لإدراك وقت الصلاة ، وخوف فوته ، محافظة على الوقت .

3269 - فكل من لم يجد الماء وخاف فوت وقت الصلاة كان له أن يتيمم إن كان مريضا ، أو مسافرا بالنص ، وإن كان حاضرا صحيحا فبالمعنى ، والله أعلم .

3270 - وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم ، إلا أن يخاف الهلاك على نفسه ، وبه قال الطبري .

3271 - وقال أبو يوسف ، وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر ، ولا لمرض ، ولا [ ص: 172 ] لخوف خروج الوقت .

3272 - وقال الشافعي ، والليث بن سعد ، والطبري : إذا عدم في الحضر الماء وخاف فوات الوقت جاز له التيمم ، وإن كان صحيحا ، كما جاز للمريض والمسافر ، إلا أنه يعيد إذا وجد الماء .

3273 - وحجة الشافعي وهؤلاء أن الله - تعالى - جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر ، كالفطر وقصر الصلاة . ولم يبح التيمم إلا بشرط المرض والسفر : لقول الله تعالى : " وإن كنتم مرضى أو على سفر " ( سورة النساء : 43 ) فلا دخول للحاضر ، ولا للصحيح المقيم في ذلك ، لخروجهما من شرط الله - تعالى - في ذلك .

3274 - والكلام بين الفرق في هذه المسألة يطول ، وفيما أومأنا إليه كفاية والحمد لله .

3275 - قال أبو عمر : التيمم للمريض والمسافر إذا لم يجد الماء بالكتاب والسنة والإجماع ، إلا ما ذكرت لك في تيمم الجنب .

3276 - فإذا وجد المريض والمسافر الماء حرم عليهما التيمم . إلا أن يخاف المريض ذهاب نفسه وتلف مهجته في استعماله الماء ، فيجوز له حينئذ التيمم مع وجود الماء بالسنة ، لا بالكتاب ، إلا أن يتأول " ولا تقتلوا أنفسكم " [ سورة النساء : 69 ] .

3277 - والسنة في ذلك ما أجازه النبي - عليه السلام - في حديث جابر ، من [ ص: 173 ] التيمم للمجروح ، وكان مسافرا صحيحا بقوله : " قتلوه قتلهم الله " .

3278 - وقد روي من حديث ابن عباس أيضا ، ذكره أبو داود .

3279 - وذكر حديث عمرو بن العاص في خوف شدة البرد والمريض أحرى بجواز ذلك ، قياسا ونظرا واتباعا لمعنى الكتاب ، والله أعلم .

3280 - وقال عطاء : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ، ولا غير المريض ؛ لأن الله تعالى قال : " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " ( النساء : 43 ، المائدة : 6 ) فلم يبح التيمم إلا عند عدم الماء وفقده ، ولولا الأثر الذي ذكرنا وقول جمهور العلماء لكان قول عطاء صحيحا ، والله أعلم .

3281 - واختلف الفقهاء في التيمم : هل تصلى به صلوات كالوضوء بالماء أم هو لازم لكل صلاة ؟ .

[ ص: 174 ] 3282 - فقال مالك : لا يصلي صلاتين بتيمم واحد ، ولا يصلي نافلة ومكتوبة بتيمم واحد ، إلا أن تكون نافلة بعد المكتوبة .

3283 - قال : فإن صلى ركعتي الفجر بتيمم الفجر - أعاد التيمم لصلاة الفجر .

3284 - وقال الشافعي : يتيمم لكل صلاة فرض ، ويصلي الفرض والنافلة وصلاة [ ص: 175 ] الجنائز بتيمم واحد ، ولا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد في سفر ولا حضر ، وهو قول ابن عباس .

3285 - وقال شريك : يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة .

3286 - ومن حجة من رأى التيمم لكل صلاة فرضا واجبا - أن الله أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء ، وأوجب عند عدمه التيمم .

3287 - وعلى المتيمم عند دخول وقت صلاة أخرى مثل ما عليه في الأولى وليست الطهارة بالصعيد كالطهارة بالماء ؛ لأنها طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت ، وليست بطهارة كاملة ، بدليل بطلانها بوجود الماء قبل الصلاة ، وأن الجنب يعود جنبا بعدها إذا وجد الماء .

3288 - وكذلك أمر كل من استباح بها الصلاة أن يطلب الماء للصلاة الأخرى فإذا طلب الماء ولم يجده لزمه التيمم بظاهر قوله : " فلم تجدوا ماء فتيمموا " .

3289 - قالوا : ولما أجمعوا أنه لا تيمم قبل دخول الوقت دل على أنه يلزمه التيمم لكل صلاة لئلا يكون تيممه قبل الوقت .

3290 - وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والليث بن سعد ، والحسن بن حي ، وداود : يصلي ما شاء بتيمم واحد ، ما لم يحدث ؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء ، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه .

3291 - والكلام في هذه المسألة بين المختلفين كثير جدا ، لم أر لذكره وجها .

[ ص: 176 ] 3292 - ولم يختلف قول مالك وأصحابه فيمن تيمم للصلاة فصلاها ، فلما سلم منها ذكر صلاة نسيها : أنه يتيمم لها .

3293 - واختلفوا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم واحد :

3294 - فروى يحيى عن ابن القاسم فيمن صلى صلوات كثيرة بتيمم واحد ، أنه يعيد ما زاد على واحدة في الوقت ، واستحب له أن يعيد أبدا .

3295 - وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه أنه يعيد أبدا .

3296 - وقال أصبغ بن الفرج : إن جمع بين صلاتين بتيمم واحد نظر : فإن كانتا مشتركتين في الوقت أعاد الآخرة في الوقت ، وإن كانتا غير مشتركتين في الوقت أعاد الثانية أبدا .

3297 - وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة .

3298 - وقال أبو الفرج : في ذاكر الصلوات : إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه .

3299 - وقد ذكرنا اختلاف قول مالك وأصحابه في هذه المسألة في كتاب جمعناه في اختلافهم .

3300 - قال أبو عمر : قد اقتضى ما كتبنا في هذا الباب القول في معاني ما ذكره مالك في موطئه في التيمم . وذلك ثلاثة أبواب . إلا قوله سئل مالك عن رجل تيمم : أيؤم أصحابه ، وهم متوضئون ؟ فقال : يؤمهم غيره أحب إلي . ولو أمهم هو لم أر بذلك [ ص: 177 ] بأسا .

3301 - ثم قال في ذلك الباب : من قام إلى الصلاة ، فلم يجد ماء فعمل بما أمره الله به من التيمم فقد أطاع الله ، وليس الذي وجد الماء بأطهر منه ، ولا أتم صلاة ؛ لأنهما أمرا جميعا ، فكل عمل بما أمره الله به .

3302 - وهذا من قول مالك يقضي بأنه لا بأس أن يؤم المتيمم المتوضئ ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، والشافعي ، وزفر ، والثوري .

3303 - وقال الأوزاعي ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن حي : لا يؤم متيمم متوضئا . ومن حجة هؤلاء أن شأن الإمامة الكمال ، ومعلوم أن الطهارة بالصعيد طهارة ضرورة كما قلنا ، بدليل الإجماع على أن الجنب إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء لزمه الغسل ، وأن المتيمم غير الجنب يلزمه الوضوء إذا وجد الماء ، فأشبهت القاعد المريض يؤم قائما ، والأمي يؤم قارئا .

3304 - وقال محمد بن الحسن : إنما تيمم ابن عمر بالمدينة ؛ لأنه كان في آخر الوقت . ولو كان في سعة من الوقت ما تيمم ، وهو بطرف المدينة ينظر إلى الماء ، ولكنه خاف خروج الوقت فتيمم .

التالي السابق


الخدمات العلمية