الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1114 [ ص: 18 ] ( 2 ) باب استئذان البكر والأيم في أنفسهما

1065 - مالك ، عن عبد الله بن الفضل ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن عبد الله بن عباس ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " الأيم أحق بنفسها من وليها . والبكر تستأذن في نفسها . وإذنها صماتها " .


[ ص: 19 ] 23104 - قال أبو عمر : هذا حديث رفيع صحيح ، أصل من أصول الأحكام ، ورواته ثقات ، أثبات ، أشراف .

23105 - فرواه عن عبد الله بن الفضل طائفة ، منهم : مالك ، وزياد بن سعد .

23106 - ورواه عن مالك جماعة من الأئمة الجلة ، منهم : شعبة ، وسفيان الثوري ، وابن عيينة ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وجماعة من أصحابه ، يطول ذكرهم .

23107 - وقد قيل : إنه رواه أبو حنيفة عن مالك .

23108 - واختلف رواته في لفظه : فالأكثر يقولون فيه : الأيم أحق بنفسها .

23109 - وقال منهم جماعة : الثيب أحق بنفسها .

23110 - وقد ذكرنا كثيرا من الآثار بذلك كله في " التمهيد " .

23111 - وممن قال بذلك : ابن عيينة عن زياد بن سعد .

[ ص: 20 ] 23112 - أخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد بن عبد السلام ، قال : حدثني ابن أبي عمر ، قال : حدثني ابن عيينة ، عن زياد بن سعد عن عبد الله بن الفضل ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها ، وإذنها صماتها " .

وربما قال سفيان : صمتها إقرارها .

23113 - قال أبو عمر : قد يمكن أن يكون من قال فيه : الثيب أحق بنفسها ، جاء به على المعنى عنده .

23114 - وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء :

23115 - فقال منهم قائلون : الأيم في هذا الحديث هي التي آمت من زوجها بموته أو طلاقه ، وهي الثيب .

23116 - واحتجوا بقول الشاعر يوم القادسية :


فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس منهن أيم

[ ص: 21 ] 23117 - يقول : ليس منهن من قتل زوجها .

23118 - واحتجوا أيضا بحديث ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه : أن عمر حين تأيمت ابنته حفصة من خنيس بن حذافة السهمي . الحديث .

23119 - وبحديث حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : آمت حفصة من زوجها ، وآم عثمان من رقية ، الحديث .

23120 - قالوا : فالأيم هنا : الثيب .

23121 - وإن كانت العرب قد تسمي كل من لا زوج لها : أيما ، فإنما ذلك على الاتساع .

23122 - وأما أهل اللغة : عدم الزوج بعد أن كان .

23123 - قالوا : ورواية من روى في هذا الحديث : الثيب أحق بنفسها من وليها ، رواية مفسرة ، وهي أولى من رواية من روى : الأيم ; لأنه قول مجمل .

23124 - والمصير إلى الرواية المفسرة أشهر في الحجة .

23125 - وذكروا ما حدثناه عبد الوارث ، وسعيد ، قالا : حدثني قاسم ، [ ص: 22 ] قال : حدثني محمد ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ، قال : حدثني نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " الثيب أولى بأمرها من وليها ، والبكر تستأمر ، وصمتها إقرارها " .

23126 - قالوا : ومن الدليل أيضا على أن الأيم المذكورة في هذا الحديث هي الثيب .

23127 - كما رواه من رواه وكذلك قوله : والبكر تستأذن ، فذكر البكر بعد ذكره الأيم فدل على أنها الثيب .

23128 - قالوا : ولو كانت الأيم في هذا الحديث كل من لا زوج لها من النساء لبطل قوله ، صلى الله عليه وسلم : " لا نكاح إلا بولي " ، ولكانت كل امرأة أحق بنفسها من وليها ، وكان هذا التأويل رد السنة الثابتة ، في أن لا نكاح إلا بولي ، وردا لقوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن [ البقرة : 232 ] يخاطب الأولياء بذلك .

23129 - ولما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " الأيم أحق بنفسها من وليها " دل على [ ص: 23 ] أن لوليها حقا ، لكنها أحق منه ، ودل على أن حق الولي على البكر فوق ذلك ; لأن الولي لا ينكح الثيب إلا بأمرها ، وينكح البكر بغير أمرها .

ويستحب له استئذانها واستئمارها .

23130 - وهذا كله قول من قال إن الولي المذكور في هذا الحديث هو الأب دون غيره من الأولياء ; لأن الأب لا ينكح الثيب من بناته إلا بأمرها ، وله أن ينكح البكر منهن بغير أمرها .

23131 - وممن قال بهذا : الشافعي ، وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

23132 - واحتجوا بضروب من الحجج معناها ما وصفنا .

23133 - قال أبو عمر : في قوله ، صلى الله عليه وسلم : " الأيم أحق بنفسها " دلائل ، ومعان ، وفوائد :

23134 - ( أحدها ) : أن الأيم إذا كانت أحق بنفسها ، فغير الأيم وليها أحق بها من نفسها ، ولو كانتا جميعا أحق بأنفسهما من وليهما ، لما كان لتخصيص الأيم معنى .

23135 - ومثل هذا من الدلائل ، قول الله ، عز وجل : [ ص: 24 ] وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن [ الطلاق : 6 ] دليل على أنه لا نفقة لهن إذا لم يكن أولات حمل .

23136 - وكذلك قول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " من باع نخلا قد أبرت ، فثمرها للبائع " ، فيه دليل على أن الثمرة للمشتري ( إذا ) بيعت قبل أن تؤبر .

23137 - وكذلك قوله عليه السلام : " الأيم أحق بنفسها من وليها " ، دليل على أن التي يخالفها وليها أحق بها .

23138 - وذكر المزني وغيره ، عن الشافعي ، قال : وفي قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : " الأيم أحق بنفسها من وليها ، وتستأمر البكر في نفسها ، وإذنها صماتها " دلالة على الفرق بين الثيب والبكر في أمرين :

23139 - ( أحدهما ) : أن إذن البكر الصمت ، والتي تخالفها الكلام .

23140 - ( والآخر ) : أن أمرهما في ولاية أنفسهما مختلف ، فولاية الثيب [ ص: 25 ] أنها أحق من الولي .

23141 - قال : والولي هاهنا : الأب ، والله أعلم ، دون سائر الأولياء .

23142 - ألا ترى أن سائر الأولياء غير الأب ليس له أن يزوج الصغيرة ، ولا له أن يزوج البكر الكبيرة إلا بإذنها ، وذلك للأب في بناته الأبكار ، بوالغ أو غير بوالغ .

23143 - وهو المطلق الكامل الولاية ; لأن من سواه من الأولياء لا يستحقون الولاة إلا به ، وقد يشتركون فيها ، وهو ينفرد بها ، فلذلك وجب له اسم الولي مطلقا .

23144 - وذكر حديث خنساء بنت خدام : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد نكاحها وكانت ثيبا إذ أنكحها أبوها بغير رضاها .

23145 - قال : وأما الاستئمار للبكر ، فعلى استطابة النفس ، ورجاء الموافقة ، وخوف موافقة الكراهة ، وقد قال الله - عز وجل - لنبيه ، صلى الله عليه وسلم : وشاورهم في الأمر [ آل عمران : 159 ] .

23146 - ومعلوم أنه ليس لأحد منهم رد ما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن [ ص: 26 ] ليقتدي به .

23147 - وفي هذا المعنى آثار ذكرناها في " التمهيد " .

23148 - قال أبو عمر : وحديث خنساء بنت خدام ، ذكره مالك في باب " جامع ما لا يجوز من النكاح " وكان هذا الباب أولى به ، وسيأتي القول فيه في موضعه ، إن شاء الله .

23149 - وقال آخرون : الأيم : كل امرأة لا زوج لها ; بكرا كانت أو ثيبا ، واستشهد بقول الشاعر :


فإن تنكحي أنكح ، وإن تتأيمي     وإن كنت أفتى منكم أتأيم

أي تبقين بلا زوج .

23150 - ومن هذا قول الشماخ :


يقر بعيني أن أنبأ أنها     وإن لم أنلها أيم لم تزوج

23151 - وأبين من هذا قول أمية بن أبي الصلت :

[ ص: 27 ]

لله در بني علي     أيم منهم وناكح
إن لم يغيروا غارة     شعواء تحجر كل نائح

23152 - وفي هذا الحديث أعوذ بالله من بوار الأيم .

23153 - وهذا كله يدل على أن الأيم : من لا زوج لها ; ثيبا كانت أو بكرا .

23154 - وقال إسماعيل بن إسحاق : الأيم هي التي لا زوج لها ; بالغا كانت أو غير بالغ ، بكرا كانت أو ثيبا .

23155 - قال : ولم يدخل الأب في جملة الأولياء ; لأن أمره في ولده أجل من أن يدخل في الأولياء الذين لا يشبهونه ، وليست لهم أحكامه .

23156 - قال : والدليل على أن الأيم كل من لا زوج لها قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم [ النور : 32 ] يعني كل من لا زوج لها .

23157 - قال : وإنما في الحديث معنيان :

23158 - ( أحدهما ) : أن الأيامى كلهن أحق بأنفسهن من أوليائهن ، وهم من عدا الأب من الأولياء .

23159 - ( والمعنى الآخر ) : تعليم الناس كيف يستأذنون البكر ، وأن إذنها [ ص: 28 ] صماتها ; لأنها تستحي أن تجيب بلسانها .

23160 - قال : والدليل على ذلك أن الأب له أن يزوج الصغيرة إذا بلغت ، وإنما جاز له بإجماع من المسلمين ، ثم يلزمها ذلك ، ولا يكون لها في نفسها خيار إذا بلغت .

23161 - وإنما جاز له أن يزوج الصغيرة ، لدخولها في جملة الأيامى ، ولو كانت أحق بنفسها لم يكن له أن يزوجها حتى تبلغ وتستأذن .

23162 - قال أبو عمر : من تأمل المعنيين ، واحتجاج الفريقين لم يخف عليه القوي فيهما ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية