الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 155 ] 1080 - مالك ; أنه بلغه أن القاسم بن محمد ، سئل عن رجل طلق امرأته البتة ، ثم تزوجها رجل آخر ، فمات عنها قبل أن يمسها ، هل يحل لزوجها الأول أن يراجعها ؟ فقال القاسم بن محمد : لا يحل لزوجها الأول أن يراجعها .

23820 - وأما قول مالك في آخر هذا الباب : في المحلل : إنه لا يقيم على نكاحه ذلك . حتى يستقبل نكاحا جديدا فإن أصابها في ذلك فلها مهرها .


فهذا منه حكم بأن نكاح المحلل فاسد ، لا يقيم عليه ، ويفسخ قبل الدخول وبعده .

23821 - وكذلك ما كان فيه مهر المثل إلا المهر المسمى عنده .

23822 - وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة رفاعة القرظي : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ [ ص: 156 ] دليل على أن إرادة المرأة الرجوع إلى زوجها لا يضر العاقد عليها ، وأنها ليست بذلك في معنى التحليل الموجب لصاحبه اللعنة المذكورة في الحديث .

23823 - وقد اختلف الفقهاء في هذا المعنى على ما نذكره عنهم ، إن شاء الله عز وجل .

23824 - وفيه : أن المطلقة ثلاثا لا يحللها لزوجها إلا طلاق زوج قد وطئها ، وأنه إن لم يطأها لم تحل للأول .

23825 - ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء .

23826 - وعلى هذا جماعة العلماء ، إلا سعيد بن المسيب ، فإنه قال : جائز أن ترجع إلى الأول إذا طلقها الثاني وإن لم يمسها ، وأظنه لم يبلغه حديث العسيلة ، وأخذ بظاهر القرآن فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 23 ] فإن طلقها أعني الثاني فلا جناح عليهما أن يتراجعا وقد طلقها .

23827 - وليس في القرآن ذكر مسيس في هذا الموضع ، وغابت عنه السنة في ذلك ، ولذلك لم يعرج على قوله أحد من العلماء بعده .

23828 - وانفرد أيضا الحسن البصري ، فقال : لا تحل للأول حتى يطأها [ ص: 157 ] الثاني وطأ فيه إنزال ، وقال : معنى العسيلة : الإنزال .

23829 - وخالفه سائر الفقهاء ، وقالوا : التقاء الختانين يحللها لزوجها .

23830 - قال أبو عمر : ما يوجب الحد ، ويفسد الصوم والحج ، يحل المطلقة ، ويحصن الزوجين ، ويوجب كمال الصداق .

23831 - وعلى هذا مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وجمهور الفقهاء .

23832 - وقال مالك ، وابن القاسم : لا يحل المطلقة إلا الوطء المباح ، فإن وقع الوطء في صوم ، أو اعتكاف ، أو حج ، أو حيض ، أو نفاس لم يحل المطلقة ، ولا يحل الذمية عندهم وطء زوج ذمي لمسلم ، ولا وطء من لم يكن بالغا .

23833 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي . وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن حي : يحلها التقاء الختانين ، ووطء كل زوج يعد وطؤه وطأ ، وإن لم يحتلم إذا كان مراهقا .

23834 - وليس وطء الطفل عند الجميع بشيء .

23835 - قال الشافعي : إذا أصابها بنكاح صحيح ، وغيب الحشفة في [ ص: 158 ] فرجها ، فقد ذاق العسيلة ، وسواء في ذلك قوي النكاح ، وضعيفه .

23836 - قال : والصبي الذي يطأ مثله ، والمراهق ، والمجنون ، والخصي الذي قد بقي معه ما يغيبه في الفرج يحلون المطلقة لزوجها .

23837 - وتحل الذمية للمسلم بوطء زوج ذمي لها بنكاح صحيح .

23838 - قال : وكذلك لو أصابها ( محرما ، أو أصابها حائضا ، أو محرمة ، أو صائمة كان عاصيا ، وأحلها وطؤه 23839 - قال أبو عمر : مذهب الكوفيين ، والثوري ، والأوزاعي في هذا كله نحو مذهب الشافعي ، ونحو مذهب ابن الماجشون ، وطائفة من أهل المدينة من أصحاب مالك ، وغيرهم .

23840 - واختلفوا في عقدة نكاح المحلل :

23841 - فقال مالك في " الموطأ " وغيره : إنه لا يحلها إلا نكاح رغبة ، وأنه إن قصد التحليل لم تحل له ، وسواء علما ، أو لم يعلما لا تحل ، ويفسخ نكاح من قصد إلى التحليل ، ولا يقر على نكاحه قبل الدخول وبعده .

23842 - وقال الثوري ، والأوزاعي ، والليث في ذلك نحو قول مالك .

23843 - وقد روي عن الثوري في نكاح المحلل ، ونكاح الخيار أنه قال : النكاح جائز ، والشرط باطل .

23844 - وهو قول ابن أبي ليلى في نكاح المحلل ونكاح المتعة ، أبطل [ ص: 159 ] الشرط في ذلك وأجاز النكاح .

23845 - وهو قول الأوزاعي أيضا أنه قال في نكاح المحلل : بئس ما صنع ، والنكاح جائز .

23846 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : النكاح جائز ، وله أن يقيم على نكاحه ذلك .

23847 - واختلفوا هل تحل للزوج الأول إذا تزوجها ليحلها :

23848 - فمرة قالوا : لا تحل له بهذا النكاح .

23849 - ومرة قالوا : تحل له بذلك العقد إذا كان معه وطء ، أو طلاق .

23850 - وروى الحسن بن زياد ، عن زيد : إذا شرط تحليلها للأول ، فالنكاح جائز ، والشرط باطل ، ويكونان محصنين بهذا التزويج إذا وطئ .

23851 - وقال أبو يوسف : النكاح على هذا الشرط فاسد ، ولها مهر المثل ولا يحصنها .

23852 - قال أبو عمر : سنذكر ما يقع به الإحصان ، وما شروطه عند الفقهاء ، واختلافهم في ذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى .

23853 - وقال الشافعي : إذا تزوجها ليحلها وأظهر ذلك ، فقال : أتزوجك [ ص: 160 ] لأحلك ، ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك ، فهذا ضرب من نكاح المتعة ، وهو فاسد ، لا يقر عليه ، ولا يحل له الوطء على هذا وإن وطئ لم يكن وطؤه تحليلا .

23854 - قال : وإن تزوجها تزويجا مطلقا لم يشترط ، ولا اشترط عليه التحليل ، إلا أنه نواه وقصده ، فللشافعي في كتابه القديم - العراقي - في ذلك قولان :

( أحدهما ) : مثل قول مالك .

( والآخر ) : مثل قول أبي حنيفة .

23855 - ولم يختلف قوله في كتابه الجديد - المصري - أن النكاح صحيح إذا لم يشترط التحليل في قوله .

23856 - وهو قول داود .

23857 - وقال إبراهيم النخعي ، والحسن البصري : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح .

23858 - وقال سالم ، والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان .

23859 - قال : وهو مأجور بذلك .

[ ص: 161 ] 23860 - وكذلك قال ربيعة ، ويحيى بن سعيد : هو مأجور .

23861 - وقال أبو الزناد : إن لم يعلم واحد منهما ، فلا بأس بالنكاح ، وترجع إلى زوجها الأول .

23862 - وقال عطاء : لا بأس أن يقيم المحلل على نكاحه .

23863 - وقال داود بن علي : لا يبعد أن يكون مريد نكاح المطلقة ليحلها لزوجها مأجورا .

23864 - وإذا لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد ; لأنه قصد إرفاق أخيه المسلم وإدخال السرور عليه .

23865 - قال أبو عمر : روي عن النبي - عليه السلام - أنه لعن المحلل ، والمحلل له من حديث علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي [ ص: 162 ] هريرة ، وعقبة بن عامر .

23866 - وفي حديث عقبة : " ألا أدلكم على التيس المستعار ؟ هو المحلل " .

23867 - قال أبو عمر : معلوم أن إرادة المرأة المطلقة للتحليل لا معنى لها إذا لم يجامعها الرجل على ذلك ; لأن الطلاق ليس بيدها ، فوجب ألا تقدح إرادتها في عقد النكاح .

23868 - وكذلك المطلق أحرى ألا يراعى ; لأنه لا مدخل له في إمساك الزوج الثاني ، ولا في طلاقه إذا خالفه في ذلك ، فلم تبق إلا إرادة الزوج [ ص: 163 ] الناكح ، فإن ظهر ذلك بالشرط علم أنه محلل دخل تحت اللعنة المنصوص عليها في الحديث .

23869 - ولا فائدة للعنة إلا إفساد النكاح ، والتحذير منه ، والمنع يكون حينئذ في حكم نكاح المتعة كما قال الشافعي ، ويكون محللا ، فيفسد نكاحه .

23870 - وهاهنا يكون إجماعا من المشدد والمرخص ، وهو اليقين ، إن شاء الله تعالى .

23871 - وقد روي عن عمر بن الخطاب في نكاح المحلل أنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .

23872 - قال الطحاوي : ويحتمل أن يكون تشديدا وتغليظا وتحذيرا ; لئلا يواقع ذلك أحد كنحو ما هم به النبي - عليه السلام - أن يحرق على من تخلف عن صلاة الجماعة بيوتهم .

23873 - وإنما تأولنا هذا على عمر - رضي الله عنه ; لأنه قد صح عنه أنه درأ الحد عن رجل وطئ غير امرأته ، وهو يظن أنها امرأته ، وإذا بطل الحد بالجهالة ، بطل بالتأويل ; لأن المتأول عند نفسه مصيب ، وهو في معنى الجاهل إن شاء الله عز وجل .

[ ص: 164 ] 23874 - وكذلك القول في قول ابن عمر إذ سئل عن نكاح المحلل ، فقال : لا أعلم ذلك إلا السفاح .

23875 - قال أبو عمر : ليس الحدود كالنكاح في هذا ; لأن الحد ربما درئ بالشبهة ، والنكاح إذا وقع على غير سنة ، وطابق النهي فسد ; لأن الأصل أن الفروج محظورة ، فلا تستباح إلا على الوجه المباح لا المحظور المنهي عنه .

23876 - ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له كلعنه آكل الربا وموكله ، ولا ينعقد بشيء من ذلك ، ويفسخ أبدا ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية