الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 262 ] ( 16 ) باب النهي عن نكاح إماء أهل الكتاب

24365 - قال مالك : لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية . لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات .

24366 - وقال الله تبارك وتعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ النساء : 25 ] فهن الإماء المؤمنات .

24367 - قال مالك : فإنما أحل الله فيما نرى ، نكاح الإماء المؤمنات ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب . اليهودية والنصرانية .

24368 - قال مالك : والأمة اليهودية والنصرانية تحل لسيدها بملك اليمين . ولا يحل وطء أمة مجوسية بملك اليمين .


24369 - قال أبو عمر : قد أوضح به مالك - رحمه الله - في هذا الكتاب بما احتج به من نصوص الكتاب ، وعلى ما ذهب إليه من ذلك جمهور أهل العلم .

[ ص: 263 ] 24370 - وقد ذكرنا أنه تفسير ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وغيره عنه .

24371 - قال ابن عباس : من لم يكن له سعة أن ينكح الحرائر ، فلينكح من إماء المؤمنين .

24372 - وكذلك قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : من لم يستطع أن ينكح المرأة المؤمنة ، فلينكح الأمة المؤمنة .

24373 - وقال : لا ينبغي للحر المسلم أن ينكح المملوكة من إماء أهل الكتاب ; لأن الله تعالى يقول : من فتياتكم المؤمنات [ النساء : 25 ] .

24374 - وقال يزيد بن ذريع ، عن يونس ، عن الحسن : إنما رخص الله في الأمة المؤمنة ، قال الله عز وجل : من فتياتكم المؤمنات لمن لم يجد طولا .

[ ص: 264 ] 24375 - وهذا قول ابن شهاب الزهري ومكحول ، وسفيان الثوري والأوزاعي ، ومالك ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، إلا أن الثوري ، قال : لا أكره الأمة الكتابية ولا أحرمه .

24376 - وأما مالك ، والشافعي ، والليث ، والأوزاعي ، فقالوا : لا يجوز لحر ، ولا لعبد مسلم نكاح أمة كتابية .

24377 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا بأس بنكاح إماء أهل الكتاب ; لأن الله تعالى قد أحل الحرائر منهن ، والإماء تبع لهن .

24378 - وروي عن أبي يوسف أنه قال : أكره نكاح الأمة الكتابية إذا كان مولاها كافرا ، والنكاح جائز .

24379 - وقال محمد بن الحسن : يجوز نكاحها للعبد .

24380 - قال أبو عمر : لا أعلم لهم سلفا في قولهم هذا إلا أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل فإنه قال : إماء أهل الكتاب بمنزلة الحرائر منهن .

[ ص: 265 ] 24381 - ولهم في ذلك احتجاجات من المقايسات ، عليهم مثلها سوى ظاهر النص ، وبالله التوفيق .

24382 - وأما قوله : الأمة اليهودية ، والنصرانية تحل لسيدها بملك اليمين ، فعلى هذا جمهور أهل العلم على عموم قول الله ، عز وجل : أو ما ملكت أيمانكم [ النساء : 25 ] .

24383 - وجاء عن الحسن البصري : أنه كره وطء الأمة اليهودية ، والنصرانية بملك اليمين .

24384 - وهذا شذوذ عن الجماعة التي هي الحجة على من خالفها .

24385 - وأما قوله : ولا يحل وطء أمة مجوسية بملك اليمين ، فهذا أيضا قول جمهور أهل العلم .

24386 - ولم يختلف فيه فقهاء أهل الأمصار من أهل الرأي ، والآثار .

[ ص: 266 ] 24387 - وروي عن مجاهد وطاوس في ذلك رخصة .

24388 - وهو قول شاذ مهجور .

24389 - وقد روى وكيع ، وغيره ، عن الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن علي ، قال : كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مجوس هجر ، يعرض عليهم الإسلام ، فمن أسلم قبل منه ، ومن أبى ضربت عليه الجزية ، على ألا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح لهم امرأة .

24390 - وروى سفيان الثوري ، عن حماد ، قال : سألت سعيد بن جبير عن نكاح اليهودية ، والنصرانية ؟ فقال : لا بأس به ، فقلت : فإن الله تعالى يقول : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] . قال : أهل الأوثان والمجوس .

24391 - وذكر سنيد ، قال : حدثني جرير ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت سعيد بن جبير ، ومرة الهمداني قلت : أناس يشترون المجوسيات ، فيقع أحدهم عليها قبل أن تسلم ؟

[ ص: 267 ] فقال مرة : ما يصلح هذا .

وقال سعيد : ما يجوز منهن إذا فعلوا ذلك ، فكان سعيد أشدهما قولا .

24392 - قال : وحدثني جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : إذا سبيت اليهوديات ، والنصرانيات أجبرن على الإسلام ، فإن أسلمن وطئن ، واستخدمن ، وإن لم يسلمن استخدمن .

24393 - وإذا سبيت المجوسيات ، وعبدة الأوثان يجبرن على الإسلام ، فإن أسلمن وطئن ، واستخدمن ، وإن لم يسلمن استخدمن ، وإن لم يوطأن .

24394 - وقال هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : إذا سبيت المجوسية ، والوثنية . فلا توطأ حتى تسلم ، وإن أبين أكرهن .

24395 - وقال الأوزاعي : سألت الزهري عن الرجل يشتري المجوسية ، أيطأها ؟ فقال : إذا شهدت أن لا إله إلا الله ، وطئها .

24396 - وروى شريك ، عن سماك بن حرب ، عن أبي سلمة بن أبي عبد الرحمن ، قال لا يطأها حتى تسلم .

[ ص: 268 ] 24397 - وقال الليث بن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : لا يحل له أن يطأها حتى تسلم .

24398 - قال أبو عمر : أجمعوا أنه لا يجوز لمسلم نكاح مجوسية ، ولا وثنية ، ولا خلاف بين العلماء في ذلك .

24399 - وإذا كان حراما بإجماع نكاحها فكذلك وطؤها بملك اليمين قياسا ، ونظرا .

24400 - فإن قيل : إنكم تجيزون وطء الأمة الكتابية بملك اليمين ، ولا تجيزون نكاحها ؟ قيل : إن الله تعالى نص على الفتيات المؤمنات عند عدم الطول إلى المحصنات ، فماذا بعد قول الله تعالى ؟

24401 - قال أبو عمر : قول ابن شهاب - وهو أعلم الناس بالمغازي والسير - دليل على فساد قول من زعم أن سبي أوطاس ، وطئن ولم يسلمن .

24402 - وروي ذلك عن طائفة ، منهم : عطاء ، وعمرو بن دينار ، قال : لا بأس بوطء الأمة المجوسية .

24403 - وهذا لم يلتفت إليه أحد من الفقهاء بالأمصار .

[ ص: 269 ] 24404 - وقد جاء عن الحسن البصري - وهو ممن لم يكن غزوه ، ولا غزو أهل ناحيته إلا الفرس ، وما وراءهم من خراسان ، ولم يكن أحد منهم أهل كتاب - ما يبين لك كيف كانت السيرة في نسائهم إذا سبين .

24405 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثني إبراهيم بن أحمد بن فراس قال : حدثني علي بن عبد العزيز ، قال : حدثني أبو عبيد ، قال : حدثني هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : قال له رجل : يا أبا سعيد ! كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهن ؟ قال : كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تسلم ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ثم نأمرها أن تغتسل ، فإذا أراد صاحبها أن يصيبها ، لم يصبها حتى يستبرئها .

24406 - وعلى هذا تأويل جماعة العلماء في قول الله - عز وجل : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] أنهن الوثنيات ، والمجوسيات ; لأن الله تعالى قد أحل الكتابيات بقوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ ص: 270 ] [ المائدة : 5 ] يعني العفائف ; لا من شهر زناها من المسلمات ، ومنهم من كره نكاحها ووطأها بملك اليمين ما لم يكن منهن توبة ; لما في ذلك من إفساد النسب .

24407 - وسيأتي ذكر نكاح الزانية في موضعه إن شاء الله عز وجل .

24408 - وقد كان ابن عمر يكره نكاح الكتابيات ، ويحمل قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] على كل كافرة ، ويقول لا أعلم شركا أكبر من قولهن : المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله .

24409 - وهذا قول شذ فيه ابن عمر عن جماعة الصحابة - رضوان الله عليهم - وخالف ظاهر قول الله ، عز وجل : اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] .

24410 - ولم يلتفت أحد من علماء الأمصار - قديما وحديثا - إلى قوله ذلك ؟ [ ص: 271 ] لأن إحدى الآيتين ليست بأولى بالاستعمال من الأخرى ، ولا سبيل إلى نسخ إحداهما بالأخرى ما كان إلى استعمالهما سبيل ، فآية سورة البقرة عند العلماء في الوثنيات ، والمجوسيات ، وآية المائدة في الكتابيات .

24411 - وقد تزوج عثمان بن عفان نائلة بنت الفرافصة نصرانية ، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية ، وتزوج حذيفة يهودية ، وعنده حرتان مسلمتان عربيتان .

24412 - ولا أعلم خلافا في نكاح الكتابيات الحرائر بعد ما ذكرنا إذا لم يكن من نساء أهل الحرب .

24413 - فإن كن حربيات :

فأكثر أهل العلم على كراهية نكاحهن ; لأن المقام له ولذريته بدار الحرب حرام عليه .

24414 - ومن تزوج بدار الحرب ، فقد رضي المقام بها .

24415 - أخبرنا أحمد بن قاسم ، وأحمد بن محمد ، قالا : حدثنا محمد بن نصر ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : [ ص: 272 ] حدثنا حجاج ، عن المسعودي ، عن الحكم بن عتبة ، قال : قلت لإبراهيم : أتعلم شيئا من نساء أهل الكتاب حراما ؟ قال : لا ، قال الحكم ، وقد كنت سمعت من أبي عياض أن نساء أهل الكتاب محرم نكاحهن في بلادهن ، فذكرت ذلك لإبراهيم ، فصدق به ، وأعجبه .

24416 - قال أبو عمر : أبو عياض هذا من كبار التابعين ، وفقهائهم ، أدرك عمر بن الخطاب ، فكان يروي عن أبي هريرة ، وابن عباس ، ويفتي في حياتهما ، ويستفتى في خلافة معاوية .

قيل : اسمه قيس بن ثعلبة .

24417 - واتفق مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي أن نكاح الحربيات في دار الحرب حلال ، إلا أنهم يكرهون ذلك من أجل الولد والنساء .

24418 - وقال سعيد بن المسيب ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وعروة بن الزبير في المرأة من أهل الكتاب حربية تدخل أرض العرب : لا تنكح إلا أن تظهر السكنى بأرض العرب قبل أن تخطب ، وبالله التوفيق ، وهو حسبي ، ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية