الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1159 1110 - مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها " .

1111 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ; أنه كان يقول : شر الطعام طعام الوليمة . يدعى لها الأغنياء . ويترك المساكين . ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله .


[ ص: 348 ] 24807 - قال أبو عمر : أما حديث نافع ، فاختلف أصحابه عليه في لفظه .

24808 - فلفظ حديث عبيد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر كلفظ حديث مالك سواء بلفظ واحد .

24809 - ورواه أيوب ، وموسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أجيبوا الدعوة إذا دعيتم " لم يخص وليمة من غيرها .

24810 - هكذا رواه حماد بن زيد ، عن أيوب .

24811 - ورواه معمر ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دعا أحدكم أخاه ، فليجب : عرسا كان أو دعوة " .

24812 - ورواه الزبيدي ، عن نافع ، عن ابن عمر مثل حديث معمر ، عن أيوب ، عن نافع .

[ ص: 349 ] 24813 - وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في " التمهيد " .

24814 - فأما حديث مالك ، وعبيد الله ، فظاهره يوجب إتيان الدعوة إلى الوليمة دون غيرها .

24815 - وظاهر حديث أيوب ، وموسى بن عقبة يشتمل كل دعوة ، إلا أنه مجمل ، محتمل للتأويل .

24816 - وظاهر حديث معمر والزبيدي قد بان فيه الأمر بإتيان العرس ، وغيره ، لا خلاف .

24817 - ألفاظ ظاهر هذه الأحاديث ، اختلف الفقهاء فيما يجب إتيانه من الدعوات على ما نذكره بعد ، إن شاء الله تعالى .

24818 - وأما حديث ابن شهاب ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أنه قال : " شر الطعام طعام الوليمة " .

24819 - فظاهره موقوف على أبي هريرة من رواية الجمهور من أصحاب مالك ، إلا أن قوله فيه : فقد عصى الله ورسوله ، يقضي برفعه عندهم .

24820 - وقد رواه روح بن القاسم ، عن مالك بإسناده ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " شر الطعام طعام الوليمة . . . " الحديث ، فرفعه .

[ ص: 350 ] 24821 - وكذلك رواه إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن مالك .

24822 - وكذلك رواه ابن جريج ، عن ابن شهاب ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " شر الطعام طعام الوليمة ، يدعى إليها الأغنياء ، ويترك الفقراء ، ومن لم يجب الدعوة ، فقد عصى الله ورسوله " .

24823 - ورواه معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، والأعرج ، عن أبي هريرة ، جميعا ، قال : شر الطعام طعام الوليمة ، يدعى الغني ، ويمنع المسكين ، وهي حق ، من يردها فقد عصى .

24824 - ذكره عبد الرزاق ، عن معمر بهذا الإسناد .

24825 - وهذا اللفظ ، موقوفا على أبي هريرة .

24826 - قال عبد الرزاق : وربما قال معمر في هذا الحديث : ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله .

[ ص: 351 ] 24827 - قال أبو عمر : خرج أهل التصنيف في " المسند " حديث أبي الشعثاء ، عن أبي هريرة أنه رأى رجلا خارجا من المسجد بعد الأذان ، فقال : أما هذا فقد عصى أبا القاسم ، صلى الله عليه وسلم .

24828 - وكذلك خرجوا في " المسند " حديث ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أنه قال : لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك .

24829 - وكذلك حديث أبي هريرة في الوليمة مسند عندهم إلى رواية من رواه مرفوعا بغير إشكال مما يشهد بما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

24830 - وأما اختلاف الفقهاء فيما يجب إتيانه من الدعوات إلى الطعام .

24831 - فقال مالك ، والثوري : يجب إتيان وليمة العرس ، ولا يجب غيرها .

24832 - وقال الشافعي : إجابة وليمة العرس واجبة ، ولا أرخص في ترك غيرها من الدعوات التي يقع عليها اسم وليمة كالإملاك ، والنفاس ، والختان ، وحادث سرور ، ومن تركها لم يتبين لي أنه عاص كما تبين لي في وليمة العرس .

24833 - قال : ومن أجاب وهو صائم ، دعا وانصرف .

24834 - وقال عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي : إجابة كل دعوة [ ص: 352 ] اتخذ صاحبها للمدعو فيها طعاما واجبة .

24835 - وهو قول أهل الظاهر ; لقوله ، صلى الله عليه وسلم : " أجيبوا الدعوة إذا دعيتم " .

24836 - وقد روي : عرسا كان أو غيره .

24837 - ولحديث ابن مسعود عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : " فكوا العاني وأجيبوا الداعي ، وعودوا المريض " .

24838 - ولحديث البراء : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ، فذكر منها إجابة الداعي .

24839 - وقال الطحاوي : لم نجد عند أصحابنا - يعني أبا حنيفة ، [ ص: 353 ] وأصحابه - في ذلك شيئا إلا في إجابة دعوة الوليمة فإنها تجب عندهم .

24840 - قال : وقد يقال : إن طعام الوليمة إنما هو طعام العرس خاصة ، والله أعلم .

24841 - قال أبو عمر : قال صاحب العين : الوليمة طعام العرس ، ( وقد أولم : إذا أطعم ) .

24842 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن : " أولم ولو بشاة " ، فإذا وجب عليه أن يولم ويدعو وجبت الإجابة .

24843 - وفي قوله : ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله ، بيان في تأكيد إيجاب إيتان الوليمة ، والله أعلم .

24844 - وما أعلم خلافا بين السلف والصحابة والتابعين في القول بالوليمة ، وإجابة من دعي إليها .

24845 - وأما طعام الختان ، فقد روي عن الحسن ، قال : دعي عثمان بن [ ص: 354 ] أبي العاص إلى ختان ، فأبى أن يجيب ، وقال : كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نأتي الختان ، ولا ندعى إليه .

24846 - وليث ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يطعم على ختان الصبيان .

24847 - ذكره أبو بكر ، قال : حدثني جرير ، عن ليث ، عن نافع .

24848 - وروي عن الحسن من وجوه .

24849 - ومن ذهب من أهل الظاهر وغيرهم إلى إيجاب الإجابة لكل دعوة احتجوا بظاهر الأحاديث عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " أجيبوا الدعوة إذا دعيتم " .

24850 - وقوله ، عليه السلام : لو دعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي لي كراع لقبلت " .

[ ص: 355 ] 24851 - وهذه جملة محتملة للتأويل ; لأنه يمكن أن يريد : أجيبوا الدعوة إلى الوليمة ، ويحتمل قوله ، عليه السلام : لو دعيت إلى ذراع . . . الحديث ، الندب والاستحباب ; لما في إجابة دعوة الداعي من الألفة ، وفي ترك إجابته من فساد النفوس ، وتوليد العداوة .

24852 - وعلى كل حال ، فإجابة دعوة الداعي إلى الطعام حسنة مندوب إليها ، مرغوب فيها .

24853 - هذا أقل أحوالها ، إلا أن يكون فيها من المناكر المحرمة ما يمنع من شهودها .

24854 - ولأهل الظاهر القائلين بوجوب الإجابة على كل حال لكل دعوة قولان في أكل المدعو المجيب إذا كان مفطرا .

24855 - وقد روي لكل واحد منهما حديث ، أحدهما أن على الصائم أن يجيب ، فيدعو وينصرف ، وعلى المفطر أن يأكل على ظاهر حديث محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دعي أحدكم ، فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل ، وإن كان صائما فليصل ، يقول : فليدع [ ص: 356 ] [ الآخر ] .

24856 - والآخر أن على من دعي أن يجيب ، فإن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل إذا كان مفطرا على ظاهر حديث أبي الزبير عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا دعي أحدكم ، فليجب ، فإن شاء أكل ، وإن شاء ترك " .

24857 - وقد ذكرنا هذين الحديثين من طرق في " التمهيد " .

24858 - وأما أقاويل الفقهاء ومذاهبهم في الامتناع من الإجابة ، والقعود ، والأكل إذا رأوا في موضع الطعام منكرا ، أو علموه .

[ ص: 357 ] 24859 - فقال مالك : أما اللهو الخفيف مثل الدف والكبر ، فلا يرجع ; لأني أراه خفيفا .

24860 - وقاله ابن القاسم .

24861 - وقال أصبغ : أرى أن يرجع .

24862 - قال : وأخبرني ابن وهب ، عن مالك أنه لا ينبغي لذي الهيئة أن يحضر موضعا فيه لعب .

24863 - وقال الشافعي : إذا كان في وليمة العرس مسكر وخمر ، وما أشبه ذلك من المعاصي الظاهرة - نهاهم ، فإن نحوا ذلك ، وإلا لم أحب له أن يجلس ، وإن علم ذلك عندهم لم أحب له أن يجيب .

24864 - قال : وضرب الدف في العرس لا بأس به . وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

24865 - وقال أبو حنيفة : إذا حضر الوليمة ، فوجد فيها اللعب ، فلا بأس أن يقعد ويأكل .

24866 - وقال محمد بن الحسن : إذا كان الرجل ممن يقتدى به ، فأحب إلي أن يخرج .

24867 - وقال الليث بن سعد : إذا كان في الوليمة الضرب بالعود واللهو ، [ ص: 358 ] فلا ينبغي أن يشهدها .

24868 - وروي أن الحسن ، وابن سيرين كانا في جنازة ، وهناك نوح ، فانصرف ابن سيرين ، فقيل للحسن ذلك ، فقال : إن كنا متى رأينا باطلا تركنا له حقا أسرع ذلك في ديننا .

24869 - قال أبو عمر : من كره ذلك ، فحجته حديث سفينة ، وما كان مثله ، أن عليا وفاطمة دعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعاه لضيف نزل بهما ، فأتاه ، فرأى فراشا في ناحية البيت ، فانصرف ، وقال : ليس لي أن أدخل بيتا فيه تصاوير ، أو قال : بيتا مزوقا .

24870 - قالوا : فقد امتنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدخول في بيت فيه ما قد نهى عنه ، فكذلك كل ما كان مثله من المناكير .

24871 - ورجع ابن مسعود إذ دعي إلى بيت فيه صورة ، وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تدخل الملائكة بيتا فيه تصاوير " .

24872 - ورجع أبو أيوب الأنصاري إذ دعاه ابن عمر فرأى مثل ذلك .

24873 - وحجة من أجاز ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى لعب الحبشة ، [ ص: 359 ] ووقف له وأراه عائشة ، وأنه ضرب عنده في العيد بالدف والغناء ، فلم يمنع من ذلك .

24874 - وروى الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة ، يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأم ، فاقدروا ، قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو .

24875 - وهذا لفظ حديث الأوزاعي ، عن الزهري .

24876 - ورواه مالك ، عن أبي النضر ، عمن سمع عائشة تقول : سمعت أصوات ناس من الحبشة ، وغيرهم ، وهم يلعبون يوم عاشوراء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتحبين أن تري لعبهم " ؟ قلت : نعم ، فأرسل إليهم ، فجاءوا ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين البابين ، فوضع كفه على الباب ، ومد يده ، ووضعت يدي على يده ، وجعلوا يلعبون وأنا أنظر ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " حسبك ؟ " ، مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : يا عائشة ! حسبك ؟ " فقلت : نعم ، فأشار إليهم ، فانصرفوا .

[ ص: 360 ] 24877 - وقد ذكرنا هذا المعنى بأوضح من هذا في غير هذا الموضع .

24878 - قال أبو عمر : قد ذكرنا قول الخليل في الوليمة .

24879 - وقال غيره : طعام الوليمة هو طعام العرس والإملاك خاصة .

24880 - قال : ويقال للطعام الذي يصنع للنفساء : الخرص ، والخرصة - يكتب بالسين وبالصاد - ويقال للطعام الذي يصنع عند الختان : الإعذار ، والطعام الذي يصنع للقادم من السفر : النقيعة ، والطعام الذي يصنع عند بناء الدار : الوكيرة .

24881 - وأنشد خلف لبعض الأعراب :


كل الطعام يشتهي ربيعة الخرص ، والإعذار ، والنقيعة



24882 - قال ثعلب : المأدبة ، والمأدبة كل ما دعي إليه من الطعام [ تفتح الدال ، وتضم في المأدبة ] .

24883 - قال : ويقال : هذا طعام أكل على ضفف : إذا كثرت عليه الأيدي وكان قليلا .

[ ص: 361 ] 24884 - واختلفوا في نهبه اللوز ، والسكر وسائر ما ينثر في الأعراس ، والختان ، وأضراس الصبيان :

24885 - فقال مالك : لا يعجبني ذلك ، وأكره أن يؤكل شيء مما يأخذه الصبيان اختلاسا على تلك الحال .

24886 - وقال الشافعي في المزني : لو ترك كان أحب إلي ، ولا يبين لي أنه حرام إذا أذن فيه صاحبه .

24887 - وقال الربيع عنه : أكرهه ; لأن صاحبه ربما لم تطب نفسه بمن غلب فيه ، وقوي عليه بما صار من ذلك إليه .

24888 - وقال أبو حنيفة : لا بأس بنهبة السكر واللوز والجوز في العرس والختان إذا أذن أهله فيه .

24889 - وهو قول أبي يوسف .

24890 - وقال ابن أبي ليلى : نثر السكر والجوز واللوز ، وما أشبه ذلك ، وأكره أن يؤخذ منه شيء .

24891 - قال أبو عمر : وحجة من كره النهبة في هذا الباب حديث ثعلبة بن الحكم ، قال : أصاب الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنما ، فانتهبوها ، فقال النبي [ ص: 362 ] - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصلح النهبة " ، وأمر بالقدور ، فأكفئت .

24892 - وروى عمران بن الحصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من انتهب فليس منا " .

24893 - وفي حديث الصنابحي ، عن عبادة قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا ننتهب .

24894 - وأما من لم ير بذلك بأسا لإذن صاحبه ، فمن حجته حديث عبد الله بن قرط ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نحر بدنا له ، ثم قال : من شاء اقتطع .

[ ص: 363 ] 24895 - ولم يختلفوا أن من سنته - صلى الله عليه وسلم - في هدي التطوع أن يخلي بين الناس وبينه ، فيأخذ منه كل ما قدر عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية